مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/الجنسية العربية في القرآن

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/الجنسية العربية في القرآن

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 5 - 1912


ليس ما ألم به علماؤنا من أطراف الإعجاز في القرآن الكريم بالشيء الذي يقذف في روع الزمن معنى الحق من ذلك ويثبت عليه صفة من صفات الإعجاز الخالد وما يكون الإعجاز خالداً إلا إذا قامت به معان زمنية تكون من طبيعة الحياة حتى تستمر مع الحياة. والعلماء رحمهم الله وإن كانوا قد اتسعوا في وجوه قيمة من البرهان ولكن هذا الكتاب يهدي للتي هي أقوم. وحسبه معجزة ما نقول فيه اليوم من صفة الجنسية العربية التي جعل الأمم أحجاراً في بنائها والدهر على تقادمه كأنه أحد أبنائها، وأقام منها معضلة سياسية في الأرض وضعها ونقدها، وفي السماء حلها وعقدها، وشدّ بها المسلمين فهم إذا ائتلفوا اجتمعوا كالبنيان المرصوص، وإذا تفرقوا سطعوا في تيجان الممالك كالفصوص، وما أن يزالون في التاريخ مرة أصوله، ومرة فصوله، إن لم يقوموا أحياناً بالدين، قام بهم هذا الدين إلى حين، وإن لم يكن لهم اليوم المشهود، فلا يؤخر إلا لأجل معدود، وكيف وقد جمعهم الكتاب الذي أنزل من السماء فكان مثال آدابها، وانتشر في الأرض فكان خلعة شبابها. ودعا إليه الناس على اختلافهم فكأنما كل أمة تدعى إلى كتابها؟

ونحن فقد نعلم أن هذه المعجزة ليست إلى اللغة في مردّها من الفائدة فإنما هي ترمي إلى وحدة سياسية تكون كالنبض لقلب العالم كما سيأتيك بيد أن سبيل ذلك من اللغة فإن القرآن تنزّل من العرب منزلة الفطرة اللغوية التي يساهم فيها كل عربي بمقدار ما تهيأ له من أسبابها الطبيعية إذ كان بما احتواه من الأساليب وما تناوله من أصول الكمال اللغوي وما دار عليه من وجوه الوضع البياني قد هتك الحوائل ومحا الفروق التي تبين قرائح العرب اللغوية بعضها من بعض فاجتمعت منه على الكمال الذي كانت تتخيله ولا تألو عما يدنيها إليه معالجة واكتساباً ولو أنهم تمالؤا طوال الدهر على أن يهذبوا من لغتهم ليبلغوا بها مبلغ الكمال الوضعي على النحو الذي جاء به القرآن لما ازدادوا إلا تعادياً في الرأي وتباعداً عما يجنحون إليه إذ تنزع كل فطرة منزعها في كل قبيل فيزيد الناقص منهم نقصاً فطرياً وهو يحسبه كمالاً ويبعد الكامل عن حقيقة الكمال بعد أن يرى غيره يحسبه نقصاً لأن الفطرة لا تنقاد إلا بالإذعان ولا تذعن إلا لما يكون في حد كمالها المطلق وليس في تاريخ العرب اللغوي من ذلك بالتحقيق قبل القرآن ولا بعده غير القرآن.

تلك سياسة القرآن في جمع العرب رأى ألسنتهم تقود أرواحهم فقادهم من ألسنتهم فلم استقاموا له أقامهم على طريق التاريخ التي مرت فيها الأمم وطرحت عليها نقائضها فكانت غبارها، وأقامت فضائلها فكانت آثارها، فجعلوا يبنون عند كل مرحلة على أنقاض دولة، ويرفعون على أطلال كل مذلة صولة، ويخيطون جوانب العالم الممزق بإبر من الأسنة وراءها خيوط من الأعنة، حتى أصبح تاريخ الأرض عربياً، وصار بعد الذلة والمسكنة أبياً، واستوسق لهم من الأمر مالم ترو الأيام مثل خبره لغير هؤلاء العرب حتى كأنما نويت لهم جوانب الأرض وكأنما كانوا حاسبين يمسحونها. لا غزاة يفتحونها. فلا يبتدئ السيف حساب جهة من جهاتها حتى تراه قد بلغ بالتحقيق آخره، ولا يكاد يشير إلى (قطر) من أقطارها إلا أراك كيف تدور (الدائرة).

وإن هذا الأمر لحقيق أن تذهب من تعليله نفوس الحكماء في ألوان من المعاني متشابه وغير متشابه فإنه أمر إلهي كيفما أدرته رأيت في جانبه الذي يليك ضوءً كضوء الصواعق وحركة كحركة الزلازل وقوة كالتي تتسلط بها السماء على الأرض فكأنك تتأمل منه صورة الطبيعة أو الطبيعة المعنوية في عالم التاريخ. ولو أن رمال الدهناء نفضت على الأرض جنوداً عربية لما عدت أن تكون آفة اجتماعية تهلك الحرث والنسل وتدع الشعوب متناثرة كبقايا البناء الخرب ثم لا تكون إلا أيام يتداولونها بينهم حتى تتنفس الأرض من بعدهم فتذهب آثارهم الظالمة في حر أنفاسها، وتنقضي أعمالهم فتنطوي من الزمن في أرماسها. لأنه لا يهجم على الأرض منهم أكثر من أمر البطون الجائعة وما إليها. . . ولعمرك ما العرب وما غير العرب من الشعوب البادية إلا بطونهم حتى لأحسبهم إذا اجتمعوا كانوا معدة الأرض وكان أهل العرف في فنون الملاذ من الحضريين أمعاءها. . . وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى مستيقن أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها لأن القرآن هو صفَّى تلك الطباع وصقل جوانب الروح العربية حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم ليبلغوا طرفاً من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصلوا بما أعد لهم ولو لم يكن القرآن قد سلك إلى ذلك مسلكه من الفطرة اللغوية في نفوسهم حتى استبد بها في مستقرها وصرَّفها في وجوه معانيه ما بلغ من القوم رأياً ولا نية ولأوشك أن يكون في مقامات البيان عندهم وما يهتف به شعراؤهم وخطباؤهم ما يذهب به ويمسح أثره من القلوب ولا يدع له مساغاً إلى ما وراء السمع لأن هؤلاء تنفث عليهم ألسنتهم بأفصح الفصيح وأبين البيان في رأي العرب وإن لم يكن كلامهم بتلك المنزلة ولكن الحمية والعصبية واللحمة ومؤاتاة الهوى كلها فصيح وكلها بيان. وليس الشأن في اللغة وألفاظها ومعانيها وإنما الشأن فيما يمكن أن تفهمه النفس من كل ذلك وهي لا تفهم إلا ما يكشف عن طبائعها ويبين عن عاداتها ولولا اختلاف النفوس في هذا الفهم ما رأيت اللغة الواحدة عند أهلها كأنها في المعنى لغات متباينة فرب كلمة من لغة رجلين وإذا سمعاها رأيتها كلها ليست من لغة أحدهما كأن تكون كلمة من باب الحفاظ يسمعها عزيز وذليل، أو لفظة من باب الكرم يلقّاها جواد وبخيل.

وأنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى وأطلت تقليب الرأي فيه فإنك واجد منه سبيلاً إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم فإنه سفه أحلام العرب وخلع آلهتهم وقمع طغيانهم واشتد عليهم بالعنف محضاً بعد اللين ممزوجاً حتى جعلت دماؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته ولم يهدأ عنهم بل ردد ذلك وكرره وعمهم به وأرسله في كل وجه وقرع أنوفهم وهاج منهم حمية الجاهلية وجاراهم في مضمار المخاطرة وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى وهم القوم كانت لهم كل هتفة كأن الأرواح هواء في صوتها، فلا يهتف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، ولا تسير على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال. ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك من أن ينقادوا ثم ينقادوا لا جرم أنها كانت الفطرة اللغوية لا غير.

بلى ولقد يخيل إلى أن ألفاظ القرآن كانت تلبس العرب حتى تتركهم كالمعاني السائرة التي لا تزال تطيف بالرؤوس فما بين العقل وبين أن تلجه هوادة ولا بين الوهم وبين أن تصدعه منزلة وإلا فأي قوم كان هؤلاء الجفاة وهم لم يستصلحوا أنفسهم إلا بما يفسد جماعتهم ولم يأبوا أن يرأموا لذل غيرهم إلا ليضرب بعضهم الذلة على بعض ولم يتخذوا السيف ناباً إلا ليأكلهم ولا الحرب ضرساً إلا لتمضغهم وكانوا أهل جزيرة واحدة وكأنهم في تناكرهم أهل الأرض كلها من قاصية إلى قاصية. ثم ما عسى أن يكون أمرهم إذا هم قرعوا صفاة الأرض والحال فيهم ما علمت إلا ما يكون من أمر الحصاة يقرع بها الجبل الأشم ثم تنحدر عنه بصوت كالأنين إن كان منها فهو لعمرك استخذاء. وإن كان من الجبل فهو لعمري استهزاء.

ولقد كان من إعجاز القرآن أن يجمع هؤلاء الذين قطعوا الدهر بالتقاطع على صفة من الجنسية لا عصبية فيها إلا عصبية الروح إذ أخذهم بالفطرة حتى ألف بين قلوبهم وساوى بين نفوسهم وأجراهم على المعدلة في أمورهم فجعل منهم أمة تسع الأمم بوجهها كيف أقبلت لأنها لا توجهه إلا لله فكأن بينها وبين الله كل ما تحت السماء. ومن هذا المعنى نشأت الجنسية العربية فإن القرآن بدأ كما علمت بالتأليف بين مذاهب الفطرة اللغوية في الألسنة ثم ألف بين القلوب على مذهب واحد وفرغ من أمر العرب فجعلهم سبيلاً إلى التأليف بين ألسنة الأمم ومذاهب قلوبها على تلك الطريقة الحكيمة التي لا يأتي علم تربية بأبدع منها. أما التوفيق بين مذاهب قلوبهم فبالدين الطبيعي الذي جاء به القرآن ولو نزعت الطبيعة الإنسانية إلى غير معانيه لكانت طبيعة شر وإن ظنت منزعها إلى الخير. وأما التأليف بين ألسنتهم فيما نزع إليه من المعنى العربي الذي حفظه القرآن على الدهر ببقائه على وجهه العربي الفصيح لفظاً وحفظاً لا يجد إليه التبديل سبيلاً، ولا يأتيه الباطل محيلاً ولا يدخله التحريف كثيراً ولا قليلاً بحيث يكون كأنه عقدة لغوية لا تتحلل منها الألسنة المختلفة وهذا من أرقى معاني السياسة فإن الأمم إذا لم تكن لها جامعة لسانية لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق. وجمع التفريق هذا هو الذي يشبه الاجتماع في الأسواق على البياعات وعروض التجارة ونحوها فإن سوق الأمم تتاجر فيها الأديان والأهواء وتكدح فيها المصالح والمفاسد وفيها كذلك التغرير والخطار والكذب والخداع ولكل من أهلها شرعة ومنهاج. فبقاء القرآن على وجهه العربي مما يجعل المسلمين جميعاً على اختلاف ألوانهم من الأسود إلى الأحمر كأنهم في الاعتبار الاجتماعي جسم واحد ينطق في لغة التاريخ بلسان واحد فمن ثم يكون كل مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن حيزه وانتفى من صفته الطبيعية لأن الجنسية الطبيعية التي تقدر بها فروض الاجتماع ونوافله هي في الحقيقة لون القلب لا سحنة الوجه.

وقد ورث المسلمون عن أوليتهم هذا المعنى فلا يعلم في الأرض قوم غيرهم يعتصمون بحبل دينهم وأيديهم في الأغلال. ويجنحون إليه بأعناقهم وهي في ربق الملوك من الإذلال. ويخصونه بقلوبهم حتى يكون أملك بها وأغلب عليها ولا يحتملون فيه سخطة ولا يؤثرون عليه رضى ولا يعدلون به عدلاً ويتبرمون بكل ضيق إلا ما كان من أجله ويرضون المحنة في كل شيء إلا فيه ثم هم لا يرون أنفسهم في إحساس الفطرة ومذهب الطبيعة إلا أنها بقية سماوية في الأرض تباين كل ما فيها ويشبه بعضها بعضاً بالصفة والخاصية أنى وجدت وكيف اتفقت وعلى أية حالة كانت وهذا كله مشاهد فيهم بعد كل مارهقهم بالعجز من مداولة الأيام وصدمهم من أهل الاستبداد بكل محنة من الآلام، وتوردهم من الزمان بكل سفه يعد في السياسة من الأحلام. . . .

على أنهم لا يعرفون أصل ما يحسون به ولا يتصلون إلى سببه وكأنما تقطع ما بينهم وبين أنفسهم كما تقطع ما بينهم وبين أسلافهم وقد بقي القرآن معروفاً مجهولاً ينفعهم بما عرفوا منه ولا يضرونه بما يجهلون فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِل وعليكم ما حملتم وأن تطيعوه تهتدوا.

وأن من أعجب ما يروعنا من أمر الجنسية العربية في القرآن أنها تأبى إلا أن تحفظ على أهلها تلك الصفات العربية من الأنفة والعزة والصوت (الأمر والنهي) والغلب وما يكون من هذا الباب الذي يفتح للشعوب عن مقاصير الأرض (الممالك).

كما أنها تستبقي طاعة المغلوبين الذين أعطوا للفاتحين عن أيديهم وانطرحوا في غمارهم وكانوا أهل ذمتهم لانتحالهم العربية طوعاً أو كرهاً ثم بقائها في ألسنتهم على نسبة بينة من الفصيح مهما ركت ومهما رذلت ولولا القرآن وأنه على وجه واحد ما بقيت العربية ولا تبينت النسبة بين فروعها العامية بل لذهب كل فرع بما أحدث من الألفاظ وما استجد من ضروب العبارة وأساليبها حتى يتسلل كل قوم من هذه الجنسية إن كانوا من أهلها أو من أهل ذمتها ثم لا تستحكم لهم بعد ذلك ناحية من الائتلاف ولا يستمر لهم سبب من الارتباط ويوشك أن لا يستقبلوا بعد من قادة الأمم وحيتان الأرض إلا من يستدبرهم راعياً أو ملتهماً ثم لا يمكن لهم من دينهم ثم لا يثبتون عليه إلا ريثما يتحولون في استلحاقهم بالأمة التي وثبت بهم وإن مضوا في ذلك على العزيمة والتشدد فإنه لا عزيمة لقلب خذله اللسان ولا تشدد للسان خذله القلب ولا استقلال لشعب تخاذلت ألسنتهم وقلوبهم وتلك سنة من السنن ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً. ومن للأمم بمثل هذا الاستعمار اللغوي الذي لم يتهيأ إلا للقرآن وهو زمام السياسة مهما جمحت في الأرض.

ولقد نرى اليوم التوراة والأناجيل وما يقرؤها بلغتها الأصيلة إلا شرذمة قليلون من اليهود الذين يعيشون على أحلام الذاكرة. . . ونحوهم ولا ترين أن ذلك استبقاء فلولا أن الشذوذ لا يتخلف كأنه قاعدة مطردة ما قرأها منهم أحد. ثم استبدت الألسنة بهذه الكتب فلا هي شريعة ولا هي جنسية جامعة وإنما تراها في كل أمة من الأمة نفسها ولذا سهل على كثير منهم أن ينبذوها وصار أكثرهم لا يتدارسونها ولا يقرؤن فيها إلا إذا أرادو الاستغراق في رؤيا تاريخية والعارف من يستثبت فصولها ومعانيها.

وانظر كم ترى بين صنيع القبائل الجرمانية (الغوط) وبين صنيع العرب فإن أولئك أغاروا على ايطاليا في القرن الخامس للميلاد وانتقصوها من أطرافها ولم يكن إلا ملكوها حتى ملكتهم فإنهم تركوا أهلها وعادتهم من اللغة - وغير اللغة - ثم أخذوا يتحضرون من بداوة ويستأنسون إلى الحضارة الرومانية حتى رغبوا في العلم فاستجادوا المهرة من علماء الرومان ونصبوهم لوضع الكتب وتأليفها فوضعها لهم هؤلاء باللغة اللاتينية وهم قرؤها بها وأقروها عليها فذهبت غوطيتهم وذهبوا على أثرها وأدللت اللغة الرومانية لأهلها منهم فأخذتهم رجفة التاريخ فأصبحوا في الرومانية جاثمين كأن لم يغنوا فيها. فأقبل أنت على هذا المعنى حتى تحكم ما وراءه فلقد تركوها آية بينة.

وبعد فهذا الذي أمسكه القرآن الكريم من العربية لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض ولن تتلاحق أسبابه في لغة بعد العربية. وهذه اللغة الجرمانية انشقت منها فروع كثيرة في زمن جاهليتها واستمرت ذاهبة كل مذهب وهي تثمر في كل أرض بلون من المنطق وجنس من التكلم حتى القرن السادس عشر للميلاد إذ تعلق الدين والسياسة معاً بفرع واحد من الفروع وهو الذي نقلت إليه التوراة فاهتز وربا وأورق من الكتب وأزهر من العقول وأثمر من القلوب وبعد أن صار لغة الدين صار دين التوحيد في تلك اللغات المتشابهة وبقيت هي معه إلى زيغ حتى صارت في ظله ثم ضحى بنوره فإذا هي في مستقرها من الماضي. وقد كان بسق من فروع الجرمانية فرعان الانكليزي والهولاندي وكلاهما استقل حتى ضرب في الأرض بجذر ثم أناف الانكليزي حتى صار ما عداه من ظله وهذا إلى فروع أخرى قد انشعبت من الأصل الجرماني كالاسوجي والاسليندي وغيرها.

واللاتينية فقد استفاضت في أوربا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والاسبانية وغيرها وكان منها علمي وعامي - لغة القلم ولغة اللسان - ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في مناطق هذا الجيل مالا تعرف له شبيها في المتباعدات المعنوية حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود.

فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي حتى ضارت جنسية فلو جن كل أهلها وسخوا بعقولهم على ما زينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا. . . . لحفظها الشعور النفسي وحده وهو مادة العقل بل مادة الحياة وقد يكون العقل في يد صاحبه يضن به ويسخو ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله وهذا تأويل قوله سبحانه إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون.

ولولا هذا الشعور الذي أومأنا إليه لدونت العامية في أقطار العربية ولخرجت بها الكتب ولكان من جهلة الملوك والأمراء وأشباههم ممن تتابعوا في التاريخ العربي من يضطلع من ذلك بعمل إن لم يكن مفسدة فمصلحة كالذي فعله بعض ملوك الرومان وبعض شعرائهم في تدوين العامية من اللاتينية حتى خرج منها اللسان الطلياني وكما فعل اليونان في استخراج اللسان الرومي وهو العامي من اليونانية. ولو أن أحداً استقبل من ذلك أمراً وأراد أن يحمل الناس عليه لاستقبل أمراً بعض ما فيه العنت كله والضياع بحملته ولشق على نفسه في بلوغ إرادة لها من شعور كل نفس عدو حتى يستفرغ ما عنده وكأنه لما يبدأ مع الناس لأن له مدة نفسه وحدها وللناس عمر التاريخ كله ومتى لم يقع على فرق ما بين الاثنين وأراد أن يتولى عمل التاريخ فليس بدعاً أن يجعله التاريخ بعض عمله وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

مصطفى صادق الرافعي