مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/النقد والمناظرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/النقد والمناظرة

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 5 - 1912



كلمات نابليون

كان ميرابو يغير على كل كتاب عصره وخطبائهم ويعدو على بنات أفكارهم. حدث ديمونت قال: كان ميرابو لا يستحي أن يطلق يده في كلام غيره من الناس فمن ذلك أنه خطبنا مرة فأطال عنان القول وامتد به نفس الكلام فخطر لي أن أذيل كلمته بكلمة ألخص فيها خطبته ليقرب بعيدُها ويجتمع شتيتُها وكان إلى يميني اللورد إلجن فدفعت إليه ما كتبته فاستجزله ولقيت ميرابو في المساء فحدثته بما جرى وأريته الرقعة فاستجادها وعرَّفني أنه انتوى أن ينتحلها إذا خطب في الجمعية غداً فقلت أن اللورد إلجن يعلم من أمرها ما تحسب أنه جاهله فقال لا بأس عليَّ منه. أما والله لو أن خمسين غيره يعلمون ذلك لما ردّني علمهم عما اعتزمت. فلما كان الغد صدع بها أخزاه الله!

وإنما فعل ذلك ميرابو لأنه كان من عظم الشخصية وقوتها بحيث كان يرى أن له الحق فيما كان هو الداعي إليه والسبب فيه. ذلك شأن ميرابو وهو أيضاً شأن نابليون وأرث شهرته وخليفته في أمته، وإن كانت دولة السيف غير دولة اللسان، وسلطان المدفع غير سلطان البلاغة والبيان، وإن من كان من طراز ميرابو ونابليون يوشك أن لا يكون صاحب خطبة أو رأى لأنهما ليسا كالعين يتفجر منها الماء ولكن كالحوض تملأه ويشرع فيه الناس فهما مرآة تبصر فيها خيال عصريهما وكتاب تقرأ في سطوره روح زمنيهما وهما باقيان ما بقي للقرن الثامن عشر والتاسع عشر ذكر وليسا كهيجو فإن هذا أبقى على الزمن من الزمن وأخلد على الأيام من الأيام. ومن أجل هذا كان فرضاً على من يعاني تاريخ فرنسا لذلك العهد ويطلب الوقوف على حالتها الاجتماعية والأخلاقية والأدبية أيضاً أن يقرأ ما تركه أمثال ميرابو ونابليون من رسائل وخطب وحكم وأمثال وإلا كان علمه رساً لا خير فيه ولا غناء.

ولم يكن نابليون عظيماً ولكن الناس كانوا صغاراً وما أحبه العامة وأشباههم إلا لما كان بينه وبينهم من الشبه وما زال الناس في كل أمة وزمان يميلون بالود لمن يشاكلهم ويختصون بالمحبة والإعزاز من يحاكيهم ولئن صح أن عناصر الشيء وأجزاءه المكونة له صور في الحقيقة منه أي أن الرئة مكونة من رئات صغيرة والكبد أكباد دقيقة والكلية كلى لطيفة فليس بدعاً في الرأي ولا مستنكراً في القول أن نذهب إلى أن كل فرنسي لعهد هذا الرجل كان نابليوناً صغيراً. وعلى هذا تكون عنايتنا بكلامه وآرائه عناية بآراء فرنسا وأفكارها ومذاهبها وقد وقفنا منذ أيام على كتابين معربين عن أصل انجليزي واحد جمع فيه واضعه كلمات نابليون وقليلاً من رسائله وآرائه فيما كان يقع في زمانه من الحوادث ويعرض له من الأمور فقلنا أو بلغ من رواج المعربات ونفاق سوقها وكثرة طلابها وخطابها في مصر أن يعرب الكتاب - الواحد رجلان على علم أحدهما بما سبق إليه صاحبه ثم سألنا نفر من أصحابنا وإخواننا أن نقارن بينهما فاستخرنا الله في الموازنة بينهما والمفاضلة بين كتابيهما أما المعربان فأحدهما محمد لطفي جمعه واسم كتابه حكم نابليون والثاني إبراهيم رمزي واسم كتابه كلمات نابليون والاسم الثاني أصح ولذلك صدرنا به كلمتنا فيهما لأنه أدل على ما انطوى عليه الكتاب وانكسرت عليه فصوله وأبوابه وإنما هي كلمات كان يرسلها نابليون لا يقصد بها الحكمة أو الفلسفة وما أظن قوله يودع جنده إن قلبي معكم فلا تنسوني يدخل في باب الحكم أو هو منها في شيء قد أهمل لطفي جمعه أن يذكر على الكتاب أهو الواضع له أم غيره ولست أدري ماذا أراد بقوله أنه من قلمه؟ أليوهم صغار الناس أنه هو مؤلفه وجامعه والحقيقة غير ذلك أم هو السهو والنسيان لعنهما الله فلشد ما يخزيان الفتى ويخجلانه.

وبعد فإن كتاب رمزي أحسن منحى وأسد منهجاً، وأجزل تعبيراً وأعذب مورداً، وأحسن تنسيقاً وتبويباً، وأغض مكاسر وأصدق تعريباً ولطفي جمعه سخيف العبارة مبتذل التراكيب، عامي الألفاظ، كثير اللحن، جم العثار، قليل العناية بترتيب الأبواب، سيء الحرص على معاني الكتاب، شديد التصرف بالنقص والزيادة، والحذف والإضافة، وبالجملة فإن كتابه كما قال فيه أحد الأدباء الظرفاء معارضة للأصل ولا تعريب له وبيان ذلك جميعه أن الفصل السابع في كتابه جاء بعد الثالث، والرابع بعد التاسع، وهذا منتهى ما وصل إليه اضطراب التأليف واختلال النظام، ولعمري لو أن رجلاً تعمد أن يفسد كتاباً بما يقدم ويؤخر منه لما استطاع أن يأتي بأسوأ من ذلك. ولقد بلغني والعهدة على الراوي في شرح ذلك وتعليله أن نفراً من أخوانه أعانوه على نقل الكتاب وكانوا أمضى منه فيما استكفاهم وأسرع إلى قضاء مقترحه. وهذا وإن كنت لأقول به فلست مع ذلك أنفيه عنه فأنا بمنزلة بين الرفض والقبول والتكذيب والتصديق. حتى يبرح الخفاء وينحسر الإبهام ومن سوء حرصه على معاني الكتاب قوله في ص 130 ما أحسن راحة البدن لقد صار يغمى علي في فراشي تعريباً لهذه العبارة:

والصواب ما جاء في كتاب رمزي ص 132 لقد أصبح الفراش عندي منزلاً للنعيم والفرق بين المعنيين ظاهر وليت شعري أي راحة في أن يغمى عليك يا لطفي وأي لذة في أن يغيب عنك صوابك وإحساسك؟ أليس لك من الذكاء والفطنة ما يريك سخافة ذلك؟ ومن تصرفه بالنقص حذفه أسطراً كثيرة في الكلام على الشجاعة قال: أنني لم أر رجلاً يظهر شجاعة في وقت لم يكن ينتظر فيه غدراً وصواب ذلك ما جاء في كتاب رمزي لم أر من الشجاعة الأدبية ذلك الصنف الذي أسميه شجاعة الساعة الثانية بعد نصف الليل أي أنني لم أر رجلاً عنده من الشجاعة الحاضرة مالا بد منه لدفع الغوائل إذا هي أتت غير منذرة ولا منتظرة. شجاعة تحفظ لصاحبها الخ الخ وهي ترجمة حرفية لما جاء بالأصل ص 114. ومن تصرفه بالزيادة قوله المطامع الكبرى (كطلب الرفعة وحب الرئاسة) وليس لما حصرناه بين قوسين أصل وقس على هذا سائر الكتاب. ومن لحنه قوله لقد ظهر محمد في وقت كان الناس فيه (محتاجون) والصواب محتاجين. وقوله قد منحني الله قوة تمكني من التغلب عل (سائر) العقبات والصواب كل لان سائر معناها باقي قال الشنفرى:

إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري

وقوله الصيت الذائع (كالغوغاء) البالغة عنان السماء. . . والصواب الضوضاء لأن الغوغاء هو أوغاد الناس وأنذالهم. وقال اعتدت سماع الأنباء المزعجة فلا (يريعني) منها الآن شيء ولكنني بعد ساعة من سماع نبأ (مريع). . . والصواب يروعني ومروّع وقال لبس تاج فرنسا (المصاغ) من (ذهب) والصواب المصوغ من الذهب وقال فإذا مت وأنا على عرشي (محاطاً) بكل والصواب محوطاً وقال ولكن موت واترلو أفضل فإن الشعب كان حينذاك يجبني (ويوجد) عليّ والصواب يجد على أن هذا خطأ أيضاً لأن وجد عليه يجد موجدة معناه غضب والموجدة منزلة بين العتب والسخط وقال خير معلم للفتاة (هي) أمها والصواب هو وقال فلا أدري إن كان هذا لأنني بلغت السن (الذي) وصوابه التي الخ وحسبنا ذلك وكفى به دليلاً على ضعف نقده وخفة بضاعته ونزارة مادته ولو أنّا أردنا أن نحصي سقاط هذا الرجل اللفظية والمعنوية لأحرجنا القراء وكربناهم وأنها وأيم الحق لسماجة في المرء أن يتطفل على موائد الكتبة وليس له أداتهم ولا له آلتهم ويدس بنفسه بينهم وليس منهم ولو كان له جبين يندى أو طرف ينكسر لانزوى في بيته حياء ولاتخذ من داره جُنّة يتقي بها سهام السخرية والهزوء ولوجد لنفسه مندوحة عن موقف يخزي فيه. وأي عيب أكبر وخزى أفضح من أن ينتحل الرجل كتاباً برمته. لقد سمعنا بمن يسرق المعنى والمعنيين ولكنا ما علمنا على الناس مثل ذلك من قبل.

على أني أعجب لصاحب البيان - وعهدنا به من ذوي البصر بصرف الكلام والخبرة بنقد جيده ورديئه - كيف لم يفطن لضعفه الظاهر وقصوره البادئ. حتى صار يستعين به ويعمد إليه في النقل والتعريب وحتى كان من أمره معه أن أخذ ينقل له كتاب الواجب وقد قال لي أحد الذين قرأوه بالفرنسية أن صنيعه به أشنع من صنيعه بكتاب نابليون.

قال فإن داخلك في قولي شك فانظر ص 24 من كتابه (يعني الواجب) تجده يقول في كلامه عن أعداء الفلسفة والحرية. . . فهم تارة ينعون على الفلسفة وطوراً يعنفون أصحاب. . . الخ ألا ترى أنه عجز عن نقل هذا اللفظ وتعريبه فأبقاه كما هو. وأي فائدة في التعريب إذا؟ وهل معنى التعريب أن نعيد طبع الكتاب بلغته التي كتب بها: ونحن نشايعه على رأيه ونأخذ عليه ما يأتي: قال في أول مقدمة المؤلف (تُعتبر) الفلسفة في نظر الفلاسفة علماً. . . وما نعرف لهذا الاستعمال أصلاً فإنه يقال اعتبر من الشيء تعجب وبه اتعظ ولكن لا يقال اعتبره بمعنى عده أبدا. وقال في هذه الجملة أيضاًعلماً (يشتمل) جملة من المسائل والصواب على وقال مبادئ ونتائج ما عداها من العلوم والصواب مبادئ ما عداها ونتائجها وقال التي (تكسبها) الحياة ثوباً عملياً والصواب تكسوها وقال المشتغلين بالعيش الأدنى) وصوابه كما اخبرني من قرأ الأصل المترفين وقال (سابقاً بأفكاره) والصواب لأفكاره وقال أن الإنسان ليذهب (أبعد) من ذلك والصواب إلى ما هو أبعد وقال لو كان (للإنسانية) ذلك المستقبل والصواب للإنسان وهذا كله في الصفحة الأولى من المقدمة وحدها فما ظنك بسائر الكتب. فاتق الله يا صاحب البيان واعلم أن قراءك قد اطمأنوا إلى علمك وركنوا إلى تحقيقك فلا تسيء إليهم ولا تدعهم يحملون الخطأ عن صحيفتك وهم يحسبونه صواباً واصنع لهذه اللغة يصنع الله لك ولن يضيع أجر من أحسن عملا.

المازني

البيان نشرنا هذه الكلمة عملاً بحرية النشر ولنا مقال نبين فيه رأينا فيما ضمنته هذه الكلمة لم يتسع له هذا الموضع وسوف ننشره في أحد الأعداد الآتية إن شاء الله.