مجلة البيان للبرقوقي/العدد 9/التربية الطبيعية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 9/التربية الطبيعية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1912



مبادئ عامة

تابع

فإن مثل هذا لا خير فيه لنفسه ولا للناس. لأنه يظل حياته يرجف من الموت ويتحصن منه وراء الأطباء والصيادلة وما يغني الأطباء ولا الصيادلة. ولأن جسمه عقبة في سبيل تهذيب روحه. وأي فائدة في العناية بمثل هذا فإذا فقدناه كانت الخسارة مضاعفة على المجتمع! كلا. فليقم رجل منكم غيري على هذا الضاوي الضعيف. وله مني الشكر على جميل صنعه ومعروفه وكيف لي أن أعلمه كيف يعيش الجسم ولا هم له إلا اتقاء الموت؟

ولابد للجسم أن يكون ضليعاً مريراً ليقوى على النهوض بتكاليف الروح. فإن أحسن الخدم أشدهم أسراً وأوثقهم ممرّاً وأنت خبير أن الإلحاح على الشرب يهيج الإحساس ويثير العواطف ويسلب الملحّ قوته على مر الأيام وأن التعذيب والصيام يبلغان بالمرء إلى مثل ذلك والجسم إذا ألح عليه الضعف لج في العصيان وهو على العكس مطواع إذا تماسك واشتد. وكلما ضعفت الأجسام اشتدّ بالنفوس النزاع إلى الشهوات وطغي بها طلب اللذاذات. وأسوأ ما تكون هذه النفوس خلقاً إذا أعياها التماسها وأعجزها بلوغ مأربها منها.

وإذا تداعى الجسم فلا عجب أن تضاءل الروح وتطمئن إلى الضعف وتخلد إلى الفتور وعلى ذلك قامت دولة الطب وملك الصيدلة وما علمت شيئاً أضر بالرجال من هذين ولست والله أدرى من أي داء يشفينا الأطباء وإني على هذا لأدري أنهم ينشرون فينا الجبن والخور وسرعة الأستامة إلى كل قول والخوف من الموت. ولعمري لئن صح أنهم يصلحون الجسم بما يطبون فإنهم يقتلون الشجاعة ويفتكون بالبأس وما خير أجسام ميتة تغدو وتروح. إن حاجتنا إلى الرجال لا إلا الأشباح وما عهدنا الأطباء عندهم ما نبغي ونريد.

وقد أصبح الطب (مرده) وحق له أن يكون كذلك فإنه ملهاة النّومة ومسلاة المتبطل الذي لما لم يجد ما يعمله جعل يدافع وقته بالطب وهو يحسب إن ذلك يطيل عمره ويمد في أجله. ولو ابتلى هؤلاء بالخلود لكانوا أتعس الناس وأشقاهم لأن الحياة وهي كل ما كانوا يحرصون عليه تصير إذ ذاك في مأمن من غوائل الموت فلا يكون لها عندهم قيمة أو ثمن. ويراؤوهم وليذيقوهم في كل يوم ألذ ما يشتهون وأمتع ما يطلبون - أعني البعد من الموت.

فإذا كانت طلبتك الشجاعة الحقّة والبأس الصادق فالتمسهما حيث الأطباء غير موجودين وابغهما حيث الناس لا يعرفون ما الأمراض وما عواقبها ودر عليهما بين من لا يحفلون بالموت ولا يذكرونه. لأن الإنسان الفطري يعيش ويموت في سكينة كما تموت الأشجار. وإنما يهزم فؤاده وينسبه كيف يموت الأطباء بما يصفون والفلاسفة بما ينصحون والقس بما يخوفون.

فائتني بتلميذ لا حاجة به إلى هؤلاء جميعاً وإلا فإليك به عني فإني لا أحب أن يفسد عليّ غيري من أمره ما أصلح. وأطلق لي أن أفعل به ما أشاء أو فدعني وانظر غيري من الناس فهم كثر فإني رأيت (لوك) وهو من تعرف يقول وكان قد أنفق على طلب الطب بعض العمر (لا ينبغي أن يطب للأطفال لا على سبيل الحيطة ولا فيما ينتابهم من العلل البسيطة) وأنا أزيد على ذلك وأضيف إليه أني لما كنت لم أستوصف طبيباً أبداً فكذلك لن أستطب لتلميذي أميل: إلا أن تكون حياته في خطر ظاهر وما أحسبهم يقدرون إذ ذاك على أكثرهم من أن يقتلوه:

وخير علوم الطب عندي وأنفعها (قانون الصحة) وما هم لو تدبرت إلا فضيلة لا علم فإن الاعتدال والعمل خير ما يتداوى به المرء لأن العمل يرهف من حد شهوته (يعني شهوة الطعام) والاعتدال يمنعه كم أن يسيء بها إلى نفسه.

وما خلق الناس ليحتشدوا كالأغنام في مكان واحد بل خلقوا ليتفرقوا في مناكب الأرض وينتشروا في نواحيها ويحرثوها ويستخرجوا خبراتها. وما يفسد الناس إلا من اكتظاظ البلاد بهم فإن أمراض الجسم والروح بعض نتائج الازدحام والإنسان أقل الحيوانات صبراً على الاحتشاد وإطاقة للازدحام وأكثر ما يودي الموت بالناس إذا غص بهم مكان وامتلأت منهم ناحية. والمدن فاعلم قبور النوع الإنساني واجد أنه وسكانها أسرع الناس فناءً وفساداً وما زالت القرى هي التي تمد المدن بالصالح من أهلها وناسها فابعث ببنيك إليها لتثوب إليهم نفوسهم وليسترجعوا من قوتهم ما فقدوه في الأماكن المكتظة بالناس.

وينبغي أن تستكثر للطفل من الاستحمام وليكن الماء في أول الأمر حميماً حاراً ثم فاتراً ثم بارداً حتى لا يشقى عليه الاستحمام في الشتاء بالبارد من الماء ولو كان مثلوجاً ولا بأس من اتخاذ مقياس للحرارة ليكون الانتقال من الحار إلى البارد تدريجاً ورياضة من غير أن يحس الطفل أو يتأذى به.

ولا ينبغي أن يعتاق الطفل شيء عن الاستحمام أو يحول من دونه حائل واعلم أنه ليس أرد على الجسم ولا أعود عليه بالصحة من الاستحمام لا لما يستدعيه من نظافة البدن وبضاضة البشرة وحسن الرواء ولكن لأنه يلين ألياف الجسم وأنسجته ويكسبها شدة تقاوم بها اختلاف درجات الحر والبرد ومن أجل هذا أرى أن يعود الطفل الاستحمام بالماء في جميع درجاته لتشتد بضعته ويصلب عضله وأنت خبير أن من يحتمل اختلاف درجات الماء وهو المباشر لكل موضوع في جسمه فهو على اختلاف حالات الجو أقوى وأصبر.

واعلم أنك لن ترى شيئاً أكثر من الذي عليه الناس في أمر الثياب وذلك أنه ما من أحد إلا وهو يأخذ على يد طفله ويهيضه بما يلبسه من الثياب ويلفه فيه من الخرق والقمط ويضع على رأسه من القبعات والقلانس من حيث يحسب أنه يقيه غائلة البرد وأضرار التعرض للهواء وما إلى ذلك وإني لست أعلم شيئاً هو أسخف من هذا الرأي ولا أقبح ولا أسوأ وإنما الرأي أن تكسو طفلك الثياب الواسعة الفضفاضة التي لا تغل أعضاءه عن الحركة ولتكن لا ثقيلة فتقعده ولا غليظة النسج فتمنعه من الإحساس بالهواء. لأن إلباس الطفل أثقل الثياب وحبسه في الغرف يوهن عظمه ويرقق جلده والهواء البارد لا خوف منه بل لعله أبعث على النشاط وأرفق بالجسم وإنما يلحق الضرر البين بالجسم ويدخل عليه الأذى الجسيم الهواء السخين الذي يترك للجسد التوصيم والتكسير والفتور فضعوا الطفل في مهد واسع دمث الوثار ليملك أمره وحريته حتى إذا بدأ يشتد ويتماسك فدعوه يدب في نواحي الغرفة فإن هذه الحركة توثيقاً لأعضائه وأمراراً لقواه وأنت إن كنت في شك من ذلك فقارن بين طفل نشأ على الحرية والحركة وآخر مساوٍ له في العمر لكنه موثق الكتاف مقيد الحركة تر فرق ما بينهما في النماء والقوة.

أكرر أن تربية الطفل تبتدىء يوم يولد وأن تعليمه يسبق النطق والفهم وأن التجارب تتقدم الدروس وأنه حين يفطن إلى ظئره قد عرف شيئاً كثيراً. ولو أن قسمنا معرفة الناس وعلمهم إلى قسمين وجعلنا أحدهما سواء فيه كل الناس والثاني قاصراً على العلماء منهم لألفينا الثاني شيئاً خصوصه كالعموم وإنما كان هذا كذلك لأننا لا نجعل بالنا إلى ما تفيدنا الحياة ولا نلتفت إلى ما نكتسبه من التجارب إذ كان حاصلاً من غير أن يتعلق به إحساس أو قبل أن نرتفع عن سن الحداثة على حين أن المعارف والعلوم التحصيلية إنما نلتفت إليها من أجل ما توجد من الفروق والمميزات ومثل هذا جميعه مثل المعادلات الجبرية لا يلتفت فيها إلى المشترك.

والعادة الوحيدة التي يجب أن يجري عليها الطفل في حياته هي أن لا يجري على عادةٍ قط لا أحب أن يكون تحامله على ذراع أشد من تحامله على الآخر أو أن يكون بسطه ليمينه أكثر من بسطه لشماله واستخدامه لها أغلب وأكثر. أو يأكل أو ينام أو يستيقظ في أوقات معينة وأحيان معلومة أو أن لا يطيق الوحدة بالليل أو النهار وعلى هذا فإن فرضاً عليك أن تخلي جسمه وشأنه وتوليه خطة رأيه وتبيح له جانب عزمه متى صح له على شيء عزم. ومتى استطاع الطفل أن يعرف فرق مابين الأشياء فإن خليقاً بصاحب أمره ووليه أن لا يختار له إلا ما يحسن عرضه عليه فإن في طبيعة المرء أن يرتاح للجديد من الأشياء ولكنه من الإحساس بضعفه والشعور بقصوره وعجزه بحيث يتخوف مما لا يعرف ويستهول ما لم تقع له خبرة به ومن جهل شيئاً خافه وليس خيفته ويزيل حذاره إلا اعتياد النظر إلى الجديد من غير أن يصيبه منه أذى فإنك لتري الطفل الذي نشأ في بيوت النعمة والرفاهة حيث لا يطلق للعنكبوت أن ينسج بيته يرتاع من العنكبوت ثم ينمو وينمو معه هذا الخوف وما أن رأيت حتى اليوم قروياً رجلاً كان أو طفلاً هاله منظر العنكبوت.

وإذا كان اختيار ما يعرض على عين الطفل من الأشياء كافياً لتعويده الجرأة والإقدام أو الجبن والخور فكيف لا يصح القول بأن تربيته تبتدىء قبل أن يحسن أن يتكلم أو يفهم؟ أما إميل فسأعوده النظر إلى كل شيء لاسيما ما هو بشع المنظر منكر الشكل جافي الصورة من الهوام والحشرات والحيوان مليحاً له بها على بعد بادىء الأمر فإذا ألفتها جعلتها منه أدنى شيء تدركه عينه حتى لا يتخوف أن يمسها بأطراف أصابعه أو يقلبها في كفه وإذا كان في حداثته يرى الضفادع والأفاعي والسرطانات ولا يستشعر منها خوفاً فلن يروعه في رجولته حيوان لأن من اعتاد شيئاً لم يخفه.

ما من طفل إلا وهو يخاف الوجوه المستعارة ويليح منها وأميل طفل كسائر الأطفال فليس أحسن في أذهاب الروع عنه وإزالة الخوف من أن أريه وجهاً حسناً بملك طرفه ويستولي على ميله ثم أشير إلى بعضهم أن ضعه على رأسك حتى إذا ما فعل ضحكت وضحك الجميع وضحك أميل مثلهم ثم لا أزال أروضه على رؤية هذه الوجوه وآخذه بذلك وأريه الأقبح منها فالأقبح حتى يتم لي ما أريد وحتى يضحكه منها أشنعها صورةً وأفظعها منظراً وما أحسبك إلا عالماً بما كان من أمر هكتور مع غلامه لستيانكس حين راعه من خوذة أبيه ريشها فأنكره ولم يعرفه وأخذه الرعب فبكي وتشبث بأذيال ظئره وأمه تنظر إليه وعلى فمها ابتسامة والدمع يترقرق في عينها، وهل تدري بأية حيلة سكن هكتور من جأش ولده، لقد تناول الخوذة وألقاها على الأرض ثم قبله. ولو أني كنت موضعه لما وقفت عند هذا القدر ولتناولت الخوذة وجعلت أعبث بريشها وحملته على العبث به أيضاً ثم لأمرت ظئره أن تضع الخوذة على رأسها وهي تضحك - لو أن امرأةً تقوى على حمل خوذة هكتور وعلى هذا النحو أيضاً أجرى مع أميل ليألف الأصوات المفزعة من مثل صوت البنادق وما إليها. فأضرم على مرأى منه (رشاً) في مسدس فان وميضه وبرقه خليقان أن يفرحاه ثم أعيد ذلك وأزيد مقدار البارود وهكذا أتدرج به وأروضه حتى يألف صوت الرصاص والقنابل والمدافع وما هو شر من ذلك وأفظع.

وبعد فإن أكثر شيء في الطفل البكاء وهذا أمر طبيعي لأنه لمل كان إحساسه فهو يتمتع به في سكون مادام لذيذاً طيباً فإذا آلمه منه شيء أعلن بثه وشكاك ما يجد عللك تساعفه بما ينفس كربته ويذهب عنه شدته والطفل إما أن ينام أو ينفعل لما يقع ويتأثر لأنه لا يستطيع أن يغضي عن شيء مما يرى ويحس والطفل لا يبكي إلا إذا عانى برحاً أو كانت به حاجة لا سبيل له إلى سدها وقضائها فإن اهتدى إليها أهله أو القائمون عليه أسعفوه بها وإلا لجّ في الاستعبار واسترسل في البكاء وهم يلاطفونه ليرقأ دمعه وتغيض عبراته أو يغنونه ليأخذه النوم ويخمد أنفاسه النعاس وربما أرفض صبرهم وضاق ذرعهم فتهددوه وتوعدوه بل ربما ضربوه كما تفعل بعض المرضعات اللواتي لا خلاق لهن ولا أدب. فالله ما أغرب هذه التربية وما أعجب هذا التهذيب.

إن معالجة الغضب في الأطفال والحنق والعناد والبكاء وما إلى ذلك مطلب صعب ومرام معضل لا بد فيه من حسن التدبير وأصالة الرأي وبعد مسافة النظر وطول حبل الأناة ومن رأي (بورهاف) أنها جميعاً أمراض عصبية لأن رأس الطفل أكبر إذا قيس إلى جسمه من رأس اليافع وجهازه العصبي أكثر امتداداً فهو لذلك أسرع انفعالاً وأحد طبعاً وأقصر أناة وإذا كان هذا كذلك فخليق بك ألا تدخر وسعاً في إبعاد الطفل عن الخدم الذين يثيرون حنقه ويستورون غضبه ويمتحنون صبره فإن قربه من هؤلاء أضر عليه وأبلغ في إلحاق الأذي به من سوء فعل الهواء وتأثير الأقاليم واعلم أن الطفل إذا لم يجد من الناس ثانياً لعزيمته وقابضاً ليده ولم يصادف مقاوماً له إلا من الأشياء انكسرت في نفسه حدة الغضب ولانت عريكته وسلست مقادته وصح جسمه وأنت إن تدبرت هذا علمت السبب في أن أبناء العامة والخملة الذين نشأوا على حرية الحركة وربوا على الاستقلال أقل في الجملة ضعفاً وأوثق.