مجلة الرسالة/العدد 1/بيت الراعي

مجلة الرسالة/العدد 1/بيت الراعي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1933



للشاعر الفرنسي الفريد دى فني

مهداة من المترجم إلى الأستاذ الجليل احمد لطفي السيد بك

الى إيفا

- 1 -

إذا كان قلبك وهو يتخبط عانيا كالنسر الجريح، لفرط ما أبهظته الحياة، قد قضى عليه أن يحمل كقلبي فوق جناحه المهيض عالماً بارداً مضنياً!

إذا كان لا يخفق بغير نزيف جرحه الأبدي، وقد أصبح لا يرى الحب؛ نجمة الصادق ينير له الأفق المتلاشي!

- 2 -

إذا كانت نفسك المكبلة كنفسي، قد أضنتها الأغلال ومر الطعام، فتركت المجداف فوق زورقها المنحوس، وأطلت برأسها الممتقع باكية على صفحة الماء باحثة وسط الأمواج عن طريق مجهول، فرأت - وهي ترتعد - كلمة الجماعة مرقومة فوق كتفها بالحديد.

- 3 -

إذا كان جسمك الحيّ الرعديد تخجله النظرات، وهو يضطرب بالأهواء الدفينة!

إذا كان يبحث لجماله عن حرم مصون، يحكم إخفاءه، عن المستهتر الجارح!

إذا كانت شفتك تجففها سموم الكذب وجبهتك الجميلة تحمر خجلا إذا مرت بأحلام مجهول غير عفيف، يراك أو يسمعك!.

- 4 -

إذا فارحلي بشجاعة اهجري المدن، لا تدنسي بعد اليوم قدميك بغبار الطريق، أشرفي من سماء أفكارنا على المدن الذليلة كأنها صخور القدر لاستعباد البشر! الغابات المترامية والحقول، المنبسطة ملاجئ فسيحة، طليقة، كأنها البحر يحيط بجزر معتمة. سِيري بين الحقولْ وبيمينك زهرة!

- 5 - الطبيعة تنتظرك في صمت رهيب، العشب يرسل فوق قدميك سحابة الماء، وزفرة الوداع التي ترسلها الشمس فوق الأرض تحرك زهر الزنبق، فكأنه المباخر. الغابة قد نقبت صفوف أشجارها المترامية، وها هو الجبل يختفي والسيسبان ينشر مقاعده العفيفة فوق الأمواج الناصلة.

- 6 -

ها هو ذا الشفق المحب يتوسد الكرى وسط الوادي، فوق زمرد العشب، وذهب الحشائش. تحت القصب الحيية، في المجرى المنعزل، وتحت غابة الأحلام التي ترتعد في الأفق. ها هو يتمايل متسللا وسط عناقيد الزهور البرية، يلقى معطفه الرمادي فوق شواطئ المياه، ويشق عند ظهور الليل باب سجنها!.

- 7 -

فوق جبلي قصب كثيف لا تستطيع أقدام الصائد أن تتخلله. يرفع رأسه الجامح الى ما فوق جباهنا، ويؤوي في الليل الراعي والغريب. تعالى أخف فيه حبك وخطيئتك المقدسة. فإذا اضطرب أو لم يكن علوه كافياً شيدتُ لك بيت الراعي!

- 8 -

يسير الهوينا على عجلاته الأربع. سقفه لا يعلو فوق جبهتك وعينيك سيسبغ الياقوت وخدّاك على عربة الليل لونهما! المدخل عاطر والمخدع واسع معتم. هنالك بين الأزهار سنتخذ وسط الظلال فراشا صامتا لشعرنا المجتمع!

- 9 -

سأزور إن أردت بلاد الجليد. هنالك حيث يشع نجم الحب ويلتهب!. هنالك حيث تصطدم الرياح ويحاصرها الجليد!. هنالك حيث يختفي القطب تحت الثلوج. سنسير كما تشاء المصادفات الى غير سبيل مقرر. وفيم اهتمامي بالزمان؟ وفيم اهتمامي بالمكان؟ سأقول جميلاً ما تراه عيناك جميلا!.

- 10 -

ليهدي الله ذلك البخار الصاعق الى غايته فوق تلك القضب الحديدية، التي تخترق الجبال ليقم ملك كريم على ذلك الموقد الصاخب عندما يدب تحت الأرض أو يهز بجبروته القناطر. عندما يخترق المدن بأسنان نيرانه التي تلتهم المراجل أو عندما يقفز الأنهار بوثبات أسرع من وثبات الوعل، وقد حما قفزه.

- 11 -

ما لم يسهر الملك ذو العينين الزرقاوين على طريق البخار. ما لم يحلق فوقه ويحميه وسيفه بيده؛ ما لم يعد كل دفعة من دفعات الرافعة. ما لم يستمع الى كل دورة من دورات العجلة في رحلتها الجبارة. ما لم يلق ببصره على الماء وبيده على النار كي يتهلل الموقد السحري بالنصر. كفانا حجر صغير يلقيه طفل!

- 12 -

لقد عجل الإنسان بركوب ذلك الثور الحديدي الذي يدخن ويصفر ويخور، وما يعلم أحد ماذا يحمل هذا الأعمى الخشن في جوفه من زوابع عاصفة! ها هو المسافر يسلمه راضياً كنوزه! ويلقي إليه بوالده العجوز وأبنائه رهائن كما كان يفعل الفينيقيون بما يقذفونه في جوف ثورهم المشتعل ناراً ليرده ترابا يلقيه تحت أقدام اله الذهب.

- 13 -

على أنه يجب أن نقهر الزمان والمكان، فأما نصر وأما موت. التجار يتنافسون، والذهب يتساقط كالمطر من دخان البخار الذاهب! الزمان والغاية هما العالم في نظرنا! كل يقول لنفسه هيا، ولكن لا سلطان لأحد على ذلك التنين الذي اخترعه أحد العلماء. أننا نلعب بما هو أقوى منا جميعا!

- 14 -

وعلى كل ليختط كل شيء سبيله، وليخدم النظر العمل فيحمله على أجنحة النار ما أتسع رحاب قاطرات البائع لكل نبيل، وما خدمت شريف العواطف. لتحل البركة على التجارة ذات الرمز الموفق ما دام الحب الذي يعبث بالمعقول قد أصبح في مكنته أن يخترق في يوم دولتين كبيرتين!. 0

- 15 -

ومع هذا فما لم نكن إزاء صديق يرسل صيحات اليأس، وحياته مهددة بالخطر. أو إزاء فرنسا التي تدق البوق لتدعونا الى ساحات الوغى أو اتصال العلم أو إزاء أمٍّ تحتضر في سرير موتها، وتود جاهدة أن تلقي ببصرها الرقيق الحزين على ذويها قبل أن تغمض عيناها إلى الأبد.

- 16 -

لنتجنب السكك الحديدية ما دامت الرحلة بها مجردة عن كل لذة، حيث تجري على تلك الخطوط وكأنما هي سهم انطلق في الفضاء من قوسه الى غرضه، وسط أزيز الهواء، وهكذا ترى الإنسان وقد قذف به الى بُعد لا يستنشق، ولا يرى من الطبيعة الا ضباباً خانقاً يخترقه برق خاطف!

- 17 -

لن نسمع بعد اليوم وقع سنابك الخيل على الطرق الملتهبة. وداعا أيتها الرحلات البطيئة! تلك الأصوات التي نسمعها عن بعد! ضحكات المارة توقف العجلات عن السير. ثم تلك المنعطفات غير المتوقعة في مختلف المنحدرات، صديق نلقاه فننسى معه الزمان. الأمل في الوصول إلى مكان مهجور في وقت متأخر!

- 18 -

لقد تغلبنا على الزمان والمكان! لقد مدّ العلم حول كرة الأرض خطاً مستقيماً نحساً. لقد ضيقت معارفنا من فضاء الأرض وأصبح خط الإستواء عبارة عن حلقة صغيرة ضيقة. لا صدفة بعد اليوم. سيتخذ كل وجهته لا يعدو المكان الذي يحتل من بدء الرحلة غارقا في تقديرات صامتة باردة!

- 19 -

محال على الأحلام الوادعة الملتهبة بالعاطفة أن ترى قدمها الأبيض معلقا بها من غير أن ترتجف مشمئزة لأنه لا بد لها من أن تلقي على كل مرئي نظرة طويلة كالنهر المتدفق وأن تستجوب في لهفة كل شيء وأن تدرس في عناية كل سر الهي، وأن تسير وتقف، وتسير ورأسها منحن.