مجلة الرسالة/العدد 1/حلقات في الأدب

مجلة الرسالة/العدد 1/حلقات في الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1933



في الفسطاط عدل

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كانت مدينة الفسطاط منذ القرن الثاني للهجرة مركزاًللتفكير والآداب , يحج إليها كثير من أعلام المشرق. وكانت مصر قد بدأت تتبوأ مكانتها الفكرية والأدبية بين الأمم الإسلامية، منذ استقرت شئونها السياسية في عهد الدولة العباسية. ولم تكن مصر منذ افتتحها الإسلام أكثر من ولاية تابعة للخلافة. ولكنها كانت بين ولايات الخلافة أشدها احتفاظاً بشخصيتها وألوانها القومية؛ وكانت منذ البداية تأخذ نصيبها في بناء صرح التفكير الإسلامي؛ ولكنها كانت تشق طريقها الخاص. وكانت منذ الفتح مركزاً هاماً للسنة والرواية، يحتشد فيها جماعة كبيرة من الصحابة الذين اشتركوا في الفتح والتابعين الذين عاصروهم. وفي القرن الأول أيضا وضعت بذور الحركة الأدبية فنمت وأزهرت بسرعة , حتى أنه يمكن القول أن مصر كانت منذ القرن الثالث قد كونت أدبها الخاص. ولم يأت القرن الرابع حتى كان هذا الأدب يتميز بخواصه المصريةالقوية مما عداه من تراث التفكير العربي في المشرق والأندلس.

وكانت الفسطاط عاصمة الإسلام في مصر منذ قيامها عقب الفتح سنة 21هـ (641م) حتى منتصف القرن الرابع. وقد قامت بجوارها مدينتا العسكر والقطائع دهراً. ولكن العسكر كانت مركزاً للإمارة والإدارة فقط، وكانت القطائع وهي مدينة بنى طولون مدينة بلاط فقط، أما الفسطاط فكانت قلب الإسلام النابض في مصر، ومهد التفكير والآداب في تلك العصور وحتى بعد أن قامت القاهرة المعزية سنة 358هـ (969م) لم تفقد الفسطاط أهميتها الفكرية والأدبية، بل لبثت بعد ذلك عصوراً تشتهر بحلقاتها ولياليها الأدبية. وكانت هذه الحلقات والليالي الأدبية من محاسن الفسطاط، يشيد بأهميتها وجمالها أدباء المشرق والمغرب الوافدين على مصر. وكانت في الواقع نوعا من الأبهاء الأدبية فيها الأدباء والشعراء، للقراءة والسمر والجدل والمساجلة , وكانت مهاد اللقاء والتعارف بين الأدباء المحليين والنزلاء الوافدين من عواصم الإسلام الأخرى.

وقد بدأت هذه الحلقات الأدبية في الفسطاط منذ القرن الأول. ولكنها كانت في بدايتها فقهية دينية , وكانت لها أهميتها في تمحيص السنة والرواية. وكانت تجمع بين جماعة من أقطاب الفقهاء والحفاظ والمحدثين الذين يعتبرون في الطبقة الأولى بين فقهاء الإسلام ورواة السُنة، مثل يزيد بن حبيب، والليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، ثم الشافعي وأصحابه. ثم اتخذت هذه الحلقات طابعاً أدبياً، فكان يمزج فيها بين الكلام والأدب، وكان معظم فقهاء هذا العصر أدباء أيضا ًيأخذون من الأدب بحظ وافر، ولبعضهم في الشعر والنثر براعة خاصة. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء الأمام محمد بن إدريس الشافعي قُطبْ الشريعة وحُجة التشريع، فقد كان أيضاً أديباً مبرزاً له في الشعر والنثر محاسن وروائع وكذلك آل عبد الحكم الذين نذكرهم بعد؛ وأبو بكر الحداد قاضي مصر؛ والحسن بن زولاق المؤرخ فقد كان هؤلاء جميعاً من كبار الفقهاء والأدباء وكان الفقه والحديث والأدب تمتزج معاً في مجالسهم وأسمارهم. . ولعل أبهى حقبة في هذه الحلقات الشهيرة في تاريخ الفسطاط مستهل القرن الثالث الهجري ففي ذلك الحين كان الإمام الشافعي نزيل الفسطاط وكان مدى الأعوام التي قضاها بمصر منذ قدومه إليها في أواخر سنة 198هـ (813م) حتى وفاته في رجب سنة 204هـ (819م) قطب الحركة الفكرية فيها وكعبة الصفوة من فقهائها وأدبائها يجذبهم إليه غزير علمه ورفيع أدبه، وبارع خلاله. وكانت حلقات الفسطاط الأدبية شهيرة قبل مقدمه لكنه اسبغ عليها بهاءً وسحراً وروعة. وكان أبو تمام الطائي الشاعر الأكبر إذا صحت الرواية عن مقدمه إلى مصر صبياً واشتغاله بسقي الماء في المسجد الجامع يغشى هذه المجالس الأدبية في حداثته وفيه تفتحت مواهبه الأدبية والشعرية. والظاهر انه كان طبقاً لهذه الرواية يقيم في الفسطاط في خاتمة القرن الثاني أو فاتحة القرن الثالث أعني في نحو الوقت الذي كان فيه الشافعي نزيلها. وكان أشهر هذه الحلقات أو الأبهاء حلقة بني عبد الحكم , وهم أسرة مصرية نابهة كثيرة المال والوجاهة؛ أنجبت عدة من كبار الفقهاء منهم عميد الأسرة عبد الله بن عبد الحكم المصري، وهو من أقطاب الفقه المالكي وأولاده محمد وسعد إبنا عبد الحكم وكلاهما فقيه ومحدث كبير وعبد الرحمن بن عبد الحكم أقدم مؤرخ لمصر الإسلامية. وقد كان بنو عبد الحكم منذ القرن الثاني أعلام الفقه والتفكير والأدب في مدينة الفسطاط وكانت دارهم كعبة العلماء والأدباء ومنتدى للدراسات والأسمار الأدبية الرفيعة، وكانت حلقاتهم العلمية والأدبية تجذب أكابر العلماء الوافدين على مصر من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فلما قدم الإمام الشافعي إلى مصر كان بنو عبد الحكم أول من استقبله وأكرم وفادته؛ وأمدته الأسرة النابهة بالمال ونظمت له سبل الإقامة والدرس؛ وكانت أول من انتفع بعلمه وأدبه. وبث مقدم الشافعي في آداب الفسطاط روحاً جديدة واشتهرت مجالسه وحلقاته الفقهية والأدبية. وكانت حقبة علمية أدبية زاهرة (198 - 204هـ) وكانت حلقات المسجد الجامع أو جامع عمرو منذ إنشائه سنة 21هـ (641م) قلب الفسطاط الفكري وكانت تعقد فيه مجالس القضاء الأعلى كما كانت تعقد مجالس الفقه والأدب الخاصة. وصحن المسجد الجامع شهير في تاريخ الفسطاط الأدبي وقد كان مدى قرون ندوة فكرية أدبية جامعة وكانت بين جدرانه توجه حركة التفكير والآداب في مصر الإسلامية. ويبدو مما كتبه مؤرخو الفسطاط في هذا العصر أن هذه الحلقات دورية وكانت منظمة برغم صفتها الخاصة. أنها كانت تعقد كل يوم تقريباً في المسجد الجامع. ولكن الظاهر أن أهمها ما كان يعقد يوم الجمعة؛ وأن مجالس الجمعة كانت تعتبر كموسم أسبوعي يغص المسجد فيه بجمهرة الفقهاء والأدباء والقراء والنظارة. وفيها كانت البحوث الكلامية، والمناظرات الأدبية، والمطارحات الشعرية والرواية التاريخية تنظم في حلقات فرعية أو متعاقبة.

وكانت هذه الحلقات الأدبية الشهيرة تتأثر بتطور السياسة والأهواء السياسية والدينية، إذ كانت موئل التفكير والدعوة إلى مختلف المذاهب الفقهية والأدبية. ففي سنة 226هـ مثلاً أمر محمد أبن أبي الليث قاضي قضاة مصر تنفيذا لرغبة الخليفة الواثق بالله، بالقبض على جميع الفقهاء والمحدثين والأدباء باسم الامتحان في مسألة خلق القرآن وهي المعروفة بالمحنة فملئت السجون بالمنكرين لخلقه من العلماء والأدباء، وأغلِقَ المسجد الجامع في وجه المالكية والشافعية، وفضت حلقاتهم العلمية والأدبية، ومنعوا من زيارة المسجد، ومن بث آرائهم ونظرياتهم وأخذ بنو الحكم فوق أخذهم بالمحنة بتهمة أخرى، وهي تبديد أموال طائلة ائتمنوا عليها من علي بن عبد العزيز الجروي، وهو زعيم خارج تغلب حيناً على بعض نواحي مصر ثم أخمدت ثورته، وأتهم بالخيانة، وقضي بمصادرة أمواله، فأتهم بإخفائها بنو عبد الحكم، وقبض عليهم وعذبوا واستصفيت أموالهم أداء لما قضي به وتوفي بعضهم في السجن (سنة 237هـ) ثم أفرج عنهم بعد ذلك، ولكن هذه المحنة ذهبت بوجاهة الأسرة النابهة وجاهها وهيبتها فأضمحل نفوذ هذه الأسرة وتضاءلت أهمية هذه الحلقات الأدبية الباهرة التي اشتهرت بتنظيمها وعقدها زهاء نصف قرن. وفي نفس العام أمر الحارث بن مسكين قاضي القضاة بمطاردة الفقهاء الحنفية والشافعية وإخراجهم من المسجد الجامع وقطع أرزاقهم وحظر اجتماعاتهم.

وهكذا شتت شمل المجتمع الفكري في الفسطاط حينا وانزوت حلقاتها الأدبية الزاهرة حتى منتصف القرن الثالث ولكنها عادت فانتظمت وازدهرت واستعاد المسجد هدوءه وسكينته وردت حرية الاجتماع والدرس. وجاءت الدولة الطولونية (254 - 292هـ) (868 - 905م) فازدهرت في ظلها الآداب والفنون وكان أحمد بن طولون أميراً مستنيراً يحب العلوم والآداب ويرعاها بتعضيده وحمايته، ويجل مجالس العلم وحلقات الأدب. وكانت الفسطاط ومسجدها الجامع أيضاً مثوى الحلقات والمجالس العلمية والأدبية في هذا العصر؛ لأن مدينة القطائع التي شيدها إبن طولون لم تكن كما قدمنا سوى مدينة بلاط وبطانة. ونبغ في هذه الحقبة القصيرة عدد كبير من الأدباء والشعراء وبكت دولة الشعر دولة بني طولون عند ذهابها أيما بكاء فقال شاعرها سعيد القاص من قصيدة طويلة رائعة: -

طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها ... بفقد بني طولون والأنجم الزهر

وفقد بني طولون في كل موطن ... أمر على الإسلام فقداً من القطر

تذكرتهم لما مضوا فتتابعوا ... كما أرفض سلك من جمان ومن شذر

فمن يبك شيئاً ضاع من بعد أهله ... لفقدهم فليبك حزناً على مصر

لبيك بني طولون إذ بان عصرهم ... فبورك من دهر وبورك من عصر

وفي أوائل القرن الرابع كانت الفسطاط تضم جماعة كبيرة من أقطاب المفكرين والأدباء وكانت أبهاؤها ومجالسها الأدبية حافلة زاهرة. ففي تلك الفترة اجتمع من زعماء التفكير والأدب أبو القاسم بن قديد وتلميذه أبو عمر الكندي مؤرخ الولاة والقضاة، وأبو جعفر النحاس المصري الكاتب والشاعر، وأبو بكر الحداد قاضي مصر، وأبو القاسم طباطبا الحسيني الشاعر، وأبو بكر بن محمد بن موسى الملقب بسيبويه مصر، والحسن بن زولاق المؤرخ الأشهر وكثيرون غيرهم؛ فكان لاجتماع هذه الصفوة العلمية والأدبية البارزة في هذه الفترة أثر كبير في ازدهار الحركة الفكرية بمصر في أوائل القرن الرابع.

فكانت حلقات الأدب في أوج نشاطها وكان المسجد الجامع يومئذ جامعة حقة يموج بهذه الاجتماعات العلمية والأدبية الشهيرة. وكانت دولة التفكير والأدب في بغداد قد أخذت في الضعف والاضمحلال وأخذت مصر تتأهب للقيام بدورها في رعاية التفكير الإسلامي في المشرق وكان بنو الإخشيد، محمد بن طغج وولداه انوجور وعلي ثم وزيرهم الخصي النابه كافور، مدى دولتهم التي استمرت زهاء ثلث قرن (324 - 358هـ) (935 - 969م) حماة للعلوم والآداب. وقد انتهى إلينا من آثار الحسن بن زولاق المؤرخ، أثر هام يلقي ضياء على تاريخ الحركة الأدبية المصرية في هذا العصر وهو كتاب (أخبار سيبويه المصري) وهو أبو بكر بن موسى الذي سبقت الإشارة إليه وقد كان صديقاً لابن زولاق وزميلا له في الدرس على ابن الحداد. وكانت له أخبار ومُلح ونوادر أدبية طريفة عُني ابن زولاق يجمعِها في هذا الكتاب. وفي دار الكتب نسخة خطية وحيدة من هذا الأثر لا ريب إنها من اقدم المخطوطات العربية التي وصلت إلينا بل لقد انتهينا في تحقيق شأنها إلى أنها اقدم مخطوط أدبي مصري وصل إلينا وأنها من آثار عصر الفسطاط ذاته وبخط ابن زولاق نفسه.

وفي اثر ابن زولاق هذا إشارات كثيرة إلى حلقات الفسطاط الأدبية في عصره في النصف الأول من القرن الرابع الهجري.

ويبدو من سياق كلامه أن المسجد كان مثوى لأهم هذه الحلقات وأشهرها وأنها كانت كما قدمنا دورية منتظمة تعقد على الأغلب في عصر يوم الجمعة وتجتمع بين الفقهاء والأدباء وينعقد فيها الجدل الكلامي والحوار الأدبي والشهري. والظاهر أيضاً أن هذا الجدل والحوار كان ينتهي أحياناً إلى بعض ما ينتهي إليه في عصرنا من مرارة واتهام وتراشق وأن بعض المفكرين الأحرار كانوا ينقمون من عصرهم ما ننقم من عصرنا أحياناً من اعتداء على حرية الرأي والبحث وأن بعضهم كان يرمى بتهم المروق والإلحاد إذا أطلق لنفسه حرية البحث والرأي على نحو ما يشير إليه سيبويه المصري في قوله من قصيدة أوردها ابن زولاق:

أما سبيل اطراح العلم فهو على ... ذي اللب أعظم من ضرب على الرأس

فأن سلكت سبيل العلم تطلبه ... بالبحث أبت بتفكير من الناس وإن طلبت بلا بحث ولا نظر ... لم تضح منه على إيقانٍ إيناس

وأنبذ مقالة من ينهاك عن نظر ... نبذ الطبيب بذل القرحة الآسي

وهذه ظاهرة فكرية خطيرة يسجلها الشاعر المصري على عصره أعني أوائل القرن الرابع (حول سنة 320 - 340هـ) وهي تدل على أن الجدل العلمي والأدبي كان يرتفع يومئذ الى مرتبة الأيمان والعقيدة وينحدر أحيانا أخرى إلى درك التراشق والمهاترة. كذلك هنالك في قول الشاعر ما يدل على أن بعض المفكرين والأدباء كانوا يؤثرون الصمت على الجهر بآرائهم خيفة الاتهام والوقيعة.

وقد كانت حلقات المسجد الجامع بلا ريب أهم الحلقات الأدبية العامة ولكن هناك في أقوال ابن زولاق ما يدل على أنها كانت تعقد أيضاً في المساجد الأخرى. فمثلا كان الشاعر الأكبر أبو الطيب المتنبي الذي وفد على مصر سنة 346هـ (957م) ليستظل بحماية الأخشيد يجلس في مجلس يعرف بمسجد ابن عمروس وهناك يجتمع إليه الأدباء والشعراء؛ وكانت حلقة المتنبي بلا ريب من أهم مجالس الشعر والأدب والفلسفة في هذا العصر. وأما عن الحلقات والأبهاء الخاصة فيشير ابن زولاق إلى المجالس العلمية والأدبية التي كان يعقدها محمد بن طغج (الإخشيد) وولده انوجور ثم مجالس الوزيرين ابن الفضل جعفر بن الفرات والحسين بن محمد المارداني. والظاهر أن هذه المجالس والحلقات الأدبية كانت يومئذ من تقاليد الحياة الرفيعة وكانت نوعا من الترف الذي يأخذ به الأمراء والعظماء والأسر الكبيرة فان لهم جميعاً على نحو ما بينا في سير الأبهاء الأدبية في تلك العصور أكبر نصيب وذكر، ويرجع إليهم في أقامتها ورعايتها أكبر الفضل.