مجلة الرسالة/العدد 100/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 100/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 06 - 1935



ضحى الإسلام

الجزء الثاني تأليف الأستاذ أحمد أمين

للأستاذ عبد الوهاب حمودة

لقد أخرج للناس الأستاذ الجليل (أحمد أمين) كتابه ضحى الإسلام، الجزء الثاني منه، فقرأته قراءة ناقد متفحص؛ فألفيته قد هوى جهدا محمودا، ونهج منهجا جديدا. استقصى الأستاذ فأحسن الاستقصاء، وقرأ فأجاد القراءة، وفهم فأتقن الفهم، واستنبط فوفق إلى الصواب، في حسن ترتيب، وجمال تصوير، وقدرة على الإحاطة، وصبر على التفصيل.

وصف الأستاذ في الفصل الأول من (الضحى) قوانين الرقي العقلي، ثم طبقها على الفكر العربي، وتدرج من ذلك إلى انقسام العلوم عند العرب في العصر العباسي، ثم ختم هذا الفصل بالكلام على حرية الرأي في ذلك العصر، فكان الأستاذ في هذا نسيج وحده، مبتكرا لمنهج جديد في البحث، وأسلوب طريف في التعليل.

وفي الفصل الثاني والثالث تكلم الأستاذ على معاهد التعليم ودرجات التدريس، وعلى المكتبات والمناهج، ثم انتقل بعد إلى الحديث عن مراكز الحياة العقلية، فأبدى في مطاوي هذا البحث عن شخصية قوية، ورأي مستقل. وقد وفق الأستاذ التوفيق كله في المقابلة بين الروايات المختلفة عن (بيت الحكمة) وفي الاطمئنان إلى نتيجة معقولة حسنة، ولاسيما عند استخدام الأستاذ في تحقيقه (فقه اللغة) وتاريخ الألفاظ. فهو طرافة في التفكير، وجدة في الأساليب. وما أجمل الأستاذ وهو يعلل ضعف الفن في الحجاز في عصر الدولة العباسية تعليلا متواضعا مقنعا. أما كلامه عن (المربد) في هذا الفصل، فكلام المستقصي الدارس. ولست مغاليا إذا قلت إن باحثا لم يسبق الأستاذ في إلقاء نور وضاء قوي على هذا (المربد) وبيان أثره في الحياة العقلية عامة، واللغوية خاصة، بل كان المؤلفون يمسونه مسا رقيقا، ويمرون به في أبحاثهم مرا رفيقا.

وجاء الأستاذ أيضاً في هذا الصدد بنظرية العصبية للقطر، ثم للبلد، ثم تدرج بعد ذلك إلى نشوء مدارس النحو المختلفة حتى وقف بمصر فإذا بالشعور القومي الخالص يملك على الأستاذ عواطفه، وإذا بالوطنية الصادقة تأسر عليه مشاعره، فيأبى إلا أن يجلي مصر في مضمار النهضة العلمية تجلية مشرقة، فينصفها في البحث وإن لم ينصفها الدهر في الحظ، في غير محابة ولا تحيز، شأن العالم الورع، والمحقق العادل.

أما في الفصل الرابع والخامس فقد تكلم الأستاذ عن الحديث والتفسير والتشريع. ومن أجدر من الأستاذ (أحمد أمين) بتوفيه هذه البحوث والقيام بواجب تحقيق هذه المسائل، فهو ابن بجدتها، وأبو عذرتها. ولا يرضيني في الكشف عن محاسن هذين الفصلين إلا أن أشير على القارئ الكريم بقراءتهما، وأرغب إليه في دراستهما حتى يتذوق جمال حقائقهما بنفسه؛ ويقف على بديع تنسيقهما بدرسه. إذ هما يقعان فيما يقرب من مائة وخمسين صفحة من الكتاب. فجزى الله الأستاذ عن الحديث والقرآن خير الجزاء.

أما في الفصل السادس من الكتاب، وهو الفصل الذي يمت إلى الأدب في صميمه، ويرتبط في اللغة في أصولها. فقد بحث فيه الأستاذ اللغة والأدب والنحو، فتراه في هذا الفصل أمينا محافظا على طبيعة هذه العلوم من الوقوف عند النقل والاقتصاد في الرأي والنقد في غير ما سرف ولا إفراط.

أما الفصل السابع وهو الأخير في الكتاب فكان الكلام فيه عن التاريخ والمؤرخين. أتى فيه الأستاذ بتقسيم جميل لأنواع التاريخ، من تاريخ في السيرة، وتاريخ للحوادث، وتاريخ للأنساب، وتاريخ للرجال، وأخبار وقصص. فكان موفقا جد التوفيق في تحليله لمغازي ابن اسحق تحليل المنصف الدارس في بصيرة نافذة ورأي حر طليق. ثم ختم الأستاذ هذا الفصل بالكلام على عيوب المؤرخين الإسلاميين ومزاياهم فأنصفهم ووفاهم حقهم.

وبعد، فسأذكر ما أخالف الأستاذ فيه من الرأي، وهي مخالفة يسيرة واختلاف هين. وقد عودنا الأستاذ تقبل ذلك بما عهدناه فيه من سمو في الخلق ونبل في القصد.

أولا: أحصى الأستاذ في ص (173) المذاهب الفقهية التي ظهرت في العصر العباسي سوى المذاهب الأربعة، ولكنه أغفل مذاهب الشيعة. مع أنها مذاهب لها قوتها ولا يزال بعضها منتشرا كمذهب الزيدية في اليمن والإمامية في العراق وإيران. فلهذا المذهب أئمة ومؤلفون وكتب فقهية تطبع وتدرس.

إلا إذا كان الأستاذ قد رأى تأخير ذلك إلى الكلام على عقائد الشيعة في الجزء الآتي بعد من الضحى.

ثانيا: ذكر الأستاذ في ص (245) أن من نتائج الاختلاف بين القبائل كثرة المترادفات في اللغة العربية ثم ساق مثلا لذلك فقال (إن السُّكّر اسمه المِبرَت بلغة اليمن).

ولي على هذا اعتراضان: الاعتراض الأول أن لفظ السكر ليس بعربي بل هو تعريب للفظ شكَر الفارسية وهي قريبة جدا في نطقها من لفظها في اللغة الإنجليزية (راجع ص 92 من كتاب الألفاظ الفارسية المعربة للسيد أدّي شير. وص 8 و105 من شفاء الغليل للخفاجي. والقاموس للفيروز أبادي وص 326 من مجلة مجمع اللغة العربية الملكي. وجـ 6 من اللسان وص 166 جـ1 من المزهر لليسوطي).

والاعتراض الثاني هو أنني كنت أود أن يذكر الأستاذ من آثار ذلك الاختلاف بين القبائل، المشترك من الألفاظ بقسميه لأن هذا النوع له أثر واضح في اختلاف المذاهب في التشريع كلفظ القروء في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء).

ثالثا: ذكر الأستاذ في ص (248) أن استعمال الكلمات المعربة كثر بعد الإسلام والفتح، ثم أخذ يسرد أمثلة للألفاظ التي تغلغلت في اللغة إثر الفتح.

واعتراضي أن بعض تلك الألفاظ التي ساقها الأستاذ كان قد دخل اللغة العربية وعُرّب منذ عصر الجاهلية فلم يكن دخوله إذن نتيجة للفتح الإسلامي. مثال ذلك لفظة (الفلفل) قال امرؤ القيس في معلقته:

ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل

وقال أيضاً:

كأن مَكاكِيَّ الجواء غُدَيّةٌ ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل

وجاء في اللسان خمر مفلفل ألقى فيه الفلفل.

مثل آخر لفظة (الورد)

فقد جاء في اللسان ص (470) من الجزء الرابع (الورد ببلاد العرب كثير ريفية وبرية وجبلية. قال الزجاج في قوله تعالى: فكانت وردة كالدهان: أي صارت كلون الورد). وقد جاء في القاموس أن أم طرفة سميت بوردة.

ومثل ثالث وهو لفظة (مسك) ويكفي في إثبات جاهليتها في التعريب ورودها في القرآن الكريم قال تعالى (ختامه مسك).

رابعا: لقد استقصى الأستاذ الكبير الفروق في اللغة والنحو بين مدرسة البصرة والكوفة.

وودِدتُ لو أنه أعقب ذلك بذكر خصائص المدرسة البغدادية في النحو أيضاً. وهو قد ألمع إلى هذه المدرسة في ص (83) حيث قال: ثم تظهر في النحو مدرسة بغدادية لها طابعها الخاص ولها لونها ولها متعصبوها.

ومهما يكن من شيء فهذه هنات يسيرة لا خطر لها ولا أثر في حسن الكتاب وقيمته. وإني أشهد مع الدكتور طه بحق أن الأستاذ (أحمد أمين) قد وفق في هذا الكتاب إلى الإجادة العلمية والفنية، وكشف عن الحياة العقلية الإسلامية كشفا، ثم عرضه عرضا هو أبعد شيء عن جفاء العلم وجفوته، وأدنى شيء إلى جمال الفن وعذوبته. فلينعم القراء بفصول هذا الكتاب ولينعم المؤلف بما ينعم به الظافر الموفق.

عبد الوهاب حمودة