مجلة الرسالة/العدد 1002/نحو بعث جديد

مجلة الرسالة/العدد 1002/نحو بعث جديد



لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان

إن الحركة الموقفة هي التي يتبعها بعث، والوثبة المباركة هي التي تتبعها نهضة. ومن ألزم اللوازم لحركة الجيش بعث جديد، بعث في الشعب والحكومة والدستور، وبعث في الأزهر والدين وبعث في الأحزاب والهيئات، وبعث في الإذاعة والمسرح، وبعث في كل شيء يتصل بحياتنا ونهضاتنا ومثلنا العليا.

فالشعب المصري يجب أن يبعث من جديد إزاء هذه الحركة المباركة، فقد ظل السنين الطوال الثقال لا يؤمن بغير العبودية دينا، ولا يعتنق غير المسنة عقيدة، ولا يتخذ غير المصابرة والمسالمة مبدأ. وظل السنين الطوال الثقال لا يعترف له بوجود، ولا يقر له على الإنكار على الباطل، وقدم التواري على تقويم الاعوجاج. وظل السنين الطوال الثقال في حضيض الفاقة، بينما السادة الأغنياء فوق القمة من الثراء؛ ووسط أمواج من التعاسة والشقاء، بينما السادة الأغنياء داخل أبراج من الترف والبذخ. وظل السنين الطوال الثقال محكوما كما يحكم العبيد، ومسوقا كما تساق الأنعام، وتستبد به كل حكومة منحت سلطة الحكم المطلق، ووهب لها سياط الحكم الإقطاعي الجائر. وهذه الحركة المباركة فرصة للشعب المصري حتى يبعث من جديد، فيكون مصدر السلطات كما تتضمنه دساتير العالم، وتكون إرادته فوق إرادته حكومته كما هو في دول الدنيا الناهضة، ويكون حرا متحررا لا يقر بالعبودية لإنسان، ولا ينكس رأسه لمخلوق، ولا يرغم على اعتناق عقيدة لا يرتضيها، ولا على الاستمساك بمبدأ لا يرغب فيه. ولا على سلوك حياة لا يطمئن قلبه إليها.

والحكومة في حاجة إلى بعث جديد، فقد كانت من قبل أداة فاشلة يستغلها الاستعمار لمصالحه، ويسخرها لرغباته، ويسيرها الطاغوت المتربع على عرشه كما يهوى ويحب، وما كان يهوى إلا الفوضى في شتى ألوانها، وما كان يحب سوى الهرج، شأنه شأن الصبية في الأزقة والدروب، وكانت الحكومة موظفة لدى الطبقة الأرستقراطية ترضي أهواءها، والطبقة الرأسمالية تحرس ضياعه وتزيد في أموالها، والطبقة المترفة العابثة تهيأ لها سبل الترف وتمهد لها الطريق إلى العبث، وتجلب لها الفرق الراقصة الأجنبية على حساب الشعب المكدود حتى لا تتكبد مشاق السفر إلى أوربا، ووعثاء الجو إلى الدنيا الجديدة، وهذه الحركة المباركة يجب أن تضع حدا لتلك الفوضى، فتصوغ الحكومة في قالب جديد حتى تفهم كل حكومة أنها موظفة لدى الشعب تعمل على إسعاده وراحته ونهضته، وتعمل على استقراره ورفاهيته، وتضع لأسس السليمة للعدالة والمساواة بين أفراده.

والدستور في حاجة إلى بعث جديد. وحسبنا دليلا على هذه الحاجة أنه ظل قرابة ثلاثين عاما لم يقدم مصر خلالها شبرا نحو الأمام، وأنه تضمن من المواد ما يجعل الملك في منزلة الآلهة، وحاشيته في درجة الأحبار، وأعضاء حكومته في صفوف الملائكة؛ ومن المواد ما يجعل هؤلاء جميعا فوق القانون لا يسألون عما يفعلون ولا يحاسبون عما أجرموا. والدستور الجديد الذي يتفق وهذه الحركة المباركة يجب أن يكون دستورا حيا يحقق الخير لمص والعدالة الاجتماعية لشعبها. ولا نعتقد أن ترقيع الدستور يحقق الغرض، فحسبه من الهوان أن دستور مرقع. ولسنا ندري لم نهمل دستور الله الخالد الذي لا يأتيه باطل من يديه ولا من خلف تنزيل من حكيم حميد، وفيه عنى عن كل دساتير العالم، ونحن أمة مسلمة لا خير فينا إذا لم نعتز بتراثنا ونعتد به

والأزهر في حاجة إلى البعث، يجب أن يطهر من الحزبية الهزيلة لأنه أكبر من أن يتحزب، ويطهر من التعصب لأنه أجل من أن يتعصب، ويطهر من المناورات الصغيرة حتى ينال تقدير العالم وثقة المسلمين. إن له رسالة دينية إنسانية فيجب أن يعيش من أجلها، ويبتكر المناهج التي تحقق أغراضها. إن للشعوب المسلمة عليه واجبا، فيجب أن يرفع مستواها وينهض بأفكارها والدين في حاجة إلى البعث، لأن عهد الإقطاع والإرهاب قد جعل منه دينا هينا لينا، وجعل منه مخدرا يخدر الفقير حتى لا يعرف حقه على الغني، ويخدر المحكوم حتى لا يعرف حقه على الحاكم، ويخدر الشعب في مجموعه حتى لا يعرف قدر نفسه، وحصره في حدود التكاليف الشرعية، وتوافه الأمور التي لا تتصل بأسسه، حتى يظل بمعزل عن السياسة وبمعزل عن الحياة، وبعث الدين يجب أن يقوم على عاتق الأزهر والجماعات الإسلامية الناهضة حتى يؤدي الدين رسالته التي ارتضاها الله له، ورضيها لعباده، والتي يجب أن تحقق العزة والسعادة لأتباعه في مشارق الأرض ومغاربها.

والأحزاب والهيئات في حاجة إلى بعض جديد، لأن الأحزاب السياسية لم تكن طيلة السنين الماضية سوى نواد لعلية القوم وأعيان مصر، يدلفون إليها لاحتراف السياسة والتعلق في حبال الزعامة التي هي أوهي من خيوط العنكبوت. ويثرثرون بين جدرانها ليليقوا بكراسي الوزارة أو مقاعد البرلمان - أما منهاج هذا الأحزاب هو تضياع الأوقات في غير جدوى، وأما هدفها فهو كراسي الحكم التي تحيا وتموت عليها، ولأن الهيئات الدينية والاجتماعية ظل معظمها مظهرا لا جوهر له، وشكلا لا حقيقة له. وعلى الأخص الهيئات الدينية التي احترفت الظهور، في توافه الأمور، والتعصب للقضايا الفاشلة. وحسبك أن تضحك من جماعة دينية ضخمة تنادي باللحية والعذبة ولا ترى الإسلام إلا منحصرا فيهما، وجماعة ثانية تندد بالأضرحة والأولياء ولا ترى الإسلام إلا منحصرا في التنديد بهما، وجماعة ثالثة تطارد المرأة ولا ترى في المسلمين خيرا إلا إذا طاردوها، ورابعة وخامسة إلى مالا ينتهي حصره من هذه الجماعات التي حصرت جهادها في سفساف الأمور، أما مهامها فهي أعجز من أن تجاهد في سبيلها. ومن حق هذه الحركة على هذه الجماعات الضئيلة أن تبعث من جديد، فتحصر جهادها فيما يقدم الإسلام وأمته، ويحل مشكلاتها ويحقق أمانيها.

والإذاعة المصرة والمسرح والسينما جميعها في حاجة بل في أمس الحاجة إلى البعث الحديد، لأنها موارد طيبة ومنابت خصبة للنهوض بالثقافة والأدب والعلم والمجتمع، فعلى الإذاعة أن تتعفف عن الأغاني الساقطة والتمثيليات الهزلية والقصص الركيكة، وعليها أن تسقط من برامجها التواشيح المهلهلة التي تسيء إلى الإسلام، والأحاديث الدينية المضطربة التي تشوه جماله، وعليها بعد هذا أن تبدأ عهدا لا تكون فيه تكية من التكيات التي تؤوي العجزة والعاطلين. وعلى المسرح والسينما أن ينتقل على حياة مشرفة لا تعيش فيها الأفلام الساقطة التي تلطخ جبين الفن بالعار، وتسود صفحته بالفضيحة، وتنزل بمستوى الشعب إلى الحضيض. وإذا كان للرقص والمجون والعربدة أثر فعال في نجاح كثير من الأفلام في العهد البائد، فلا نظن أن هذه المخازي سيكون لها ذرة من الأثر في نجاحها في هذا العهد المشرق، لأن مصر اليوم في حاجة إلى أفلام تجعل مصر في المقدمة، وتجلس شعبها فوق القمة، وتعالج المشكلات المستعصية، وتكافح الأمراض الاجتماعية المتوطنة، وليست في حاجة إلى الأفلام التي تثير الغرائز، وتشجع على الرذيلة، وترسم طرق الاحتيال والنصب للمشردين والعاطلين.

نريد بعثا جديدا في كل شيء يتصل بحياتنا وتتأثر به نهضاتنا حتى تؤتي حركة الجيش المباركة أكلها كل حين بإذن ربها، وتثبت للدنيا أن مصر جديرة بها، وأن شعبها خليق بثمراتها.

محمد عبد الله السمان