مجلة الرسالة/العدد 1003/المسرح والسينما

مجلة الرسالة/العدد 1003/المسرح والسينما

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1952



زكي طليمات المفترى عليه

للأستاذ عبد الفتاح البارودي

كنت آمل أن أستقبل الموسم المسرحي الجديد بما استقبلت به الموسمين الماضيين من بشر وتفاؤل. بل كنت آمل أن أزداد بشراً وتفاؤلاً كما تقضي بذلك سنة التطور. غير أن الأحداث التي تواجه المسرح المصري في الآونة الراهنة تدعوني مع الأسف الشديد إلى الحزن والأسى إشفاقاً على مصيره. ذلك لأنها ليست من قبيل الأحداث الكثيرة التي واجهت مختلف المسارح في مختلف الأمم حينما كانت في دور التكوين، وإنما هي أحداث مفتعلة من شأنها - لو تحققت مراميها - تقوض مسرحنا وتدمر كيانه وتجهز على حاضره ومستقبله، وتعصف بالجهود المضنية التي بذلها المخلصون من رجاله حتى وصل إلى ما وصل إليه من ارتقاء نسبي ولعله من العجيب أن تحدث هذه الأحداث في الوقت الذي تطالب فيه البلاد بتطهير مرافقها - والمسرح في مقدمتها - من الجهل والفوضى، بل الأعجب من ذلك أن تحدث هذه الأحداث باسم التطهير دون أن يفطن مفتعلوها إلى الفارق الجسيم بين التطهير والتدمير

بدأت هذه الأحداث عملياً منذ منتصف الشهر الماضي عقب أو أوفدت قيادة الجيش الباسلة مندوباً عنها إلى الهيئات الفنية ليعاونها في استنقاذ النشاط الفني من براثن الرجعية وتوجيه الفنون وجهة قومية تحقق بها وظيفتها المثلى. وكم كان غريباً ومريباً أن يجتمع ممثلو الفرقة المصرية وفرقة المسرح الحديث لا ليعملون على تحقيق هذه التوجيهات القويمة؛ ولكن ليقدموا إلى ولاة الأمور مذكرات لا تمس الفن والإصلاح الفني إلا بقدر ضئيل، وهي بعد ذلك تتضمن مطالب ينحو بعضها منحى شخصياً ويستهدف غايات غير فنية وينطوي على مثالب وترهات يندى لها الجبين. وليس أدل على ذلك من أن يطعن ممثلو فرقة المسرح الحديث عميدهم (زكي طليمات) طعنات قاتلة! والأدهى من ذلك أن يطالبوا بتنحيته عن إدارة الفرقة التي تعتبر ثمرة جهاده الفني

وأبادر فأؤكد أنني لا أبتغي الدفاع عن تصرفاته ولا أبتغي مهاجمة أعضاء الفرقة في وضعهم الجديد الذي استقروا عليه الآن، بل لا أبتغي تناول النواحي الشخصية التي انزلق إليها، تاركا تقدير ذلك لحكمة ولاة الأمور وفطنتهم. وإنما أبتغي، كناقد، أن أكشف عن بواعث هذه المحنة من الناحية النية وحدها، وأن أوضح مدى ما يترتب عليها من خطورة على الفن المسرحي

وربما لا يفي لإيضاح ذلك أن نسرد تاريخ زكي طليمات وجهاده الفني في أكثر من ثلاثين عاماً؛ بل يجدر بنا أن نتلمس أثره العميق في الحقبة الأخيرة التي بدأت بإنشاء فرقته وانتهت باستقالته وندب غيره لإدارتها وانقطاع الصلة الوثقى بينه وبين تلامذته الذين تألبوا عليه لنرى نتائج هذا الأثر في تطور المسرح المصري وبالتالي لنرى مدى الخسارة آلتي ستلحق به بفصل المتأبين. . . الناشئين!

ولنعد قليلاً إلى الوراء. وحسبنا أن نعود إلى الفترة التي سبق إنشاء هذه الفرقة لنستذكر ما جاهر به النقاد وقتئذ، فقد أجمعوا على أن المسرح المصري بلغ من الهزال حدا لا رجاء فيه، وحاول بعضهم تأويل ذلك إما بغلبة السينما عليه على اعتبار أنها أكثر منه ملاءمة لروح العصر. . أو بانصراف الناس إلى أمور معاشهم أو ما شبه ذلك ونسوا جميعاً أن المسرح فن لا يزال يزدهر عند الأوربيين وهم أكثر منا انشغالاً بالسينما وتكالباً على الأمور المعاشية. . . والمهم أن أحداً لم يتمكن من تشخيص الداء ووصف الدواء سوى زكي طليمات. . إذ اهتدى بثقافته وتجربته وتخصصه إلى أمرين جوهريين:

الأمر الأول أن النهاية التي وصول إليها مسرحنا لم تكن إلا نتيجة حتمية للبداية التي بدأ بها. فقد بدأ في أواخر القرن الماضي بداية ساذجة بمعنى أنه لم ينبت نبتاً طبيعياً كما حدث عند الإغريق، ولم ستنبت استنباتاً سليماً كما حدث في أوربا، فكان لابد من أن ينتهي إلى تلك النهاية الساذجة

والأمر الثاني أن المسرح فن لا تستقيم له الحياة إلا إذا توافرا له البيئة التي تحيى فيها والعقلية التي تدركه، وهذا ما لم يتهيأ لمسرحنا في شتى عهوده. فكما أن فكرة الجيل القديم عنه لم تخرج عن اعتباره إحدى وسائل التسلية والتلهية والتنفيس. . كذلك ظلت فكرة الجيل الأخير مع اختلاف في التفاصيل دون الصميم

من أجل ذلك وضع سياسته الفنية على أساس تقريب إنتاجنا من الأوضاع الفنية الصحيحة وتهيئة بيئتنا وأذهاننا لتقبل هذه الأوضاع، وتحقيقاً لهذه السياسة أنشأ فرقته على دعائم منهجية وحدد برنامجها في ثلاث مراحل رئيسية: المرحلة الأولى مرحلة الترجمة عن الغرب والتتلمذ على الغربيين فيما امتازوا فيه، والمرحلة الثانية مرحلة التجربة والممارسة، والمرحلة الثالثة مرحلة الخلق والابتداع. وكما وفق في التصميم وفق أيضاً في التطبيق، ولهذا أعرضت فرقته عن الوسائل الارتجالية، وترفعت عن ممالأة النزعات السطحية، وآثرت تقديم المترجمات الممتازة، فقدمت في مستهل عهدها ثلاث روايات لموليير ورواية لتشيكوف وأخرى لبريستلي دون أن تمسخها بالتمصير والتعريب. . وظلت تسير على هذه الوتيرة حتى تأججت الثورة على الاستعمار في الموسم الماضي. . فكان زكي طليمات أول من استجاب للدواعي الوطنية من رجال المسرح. . وقدم روايتين وطنيتين. . وآثر أن يرجئ برنامجه ليشارك الثوار ويضئ الطريق للأحرار

وهكذا نجح مادياً ومعنوياً. . وأفلح فنياً وقومياً. . وفاز برضاء الوطن والفن وتأييد المخلصين

هذه هي قصة زكي طليمات موجزة ظلال العامين الماضيين، وهذه هي أيضاً قصة بجماليون القرن العشرين

فقد روت الأساطير الهلينية أن الفنان بجماليون ابتدع تمثالاً رائع الجمال فشغف به حباً وتوسل إلى الإلهة أفروديت أن تمنحه زوجة شبيهة بهذا التمثال. واستجابت الإلهة لهذا التوسل بأكثر مما كان يتصور. . إذ منحت الحياة للتمثال ذاته وتزوج بجماليون تمثاله الذي ابتدعه بيديه. وما أظن أن رمزية هذه الأسطورة في حاجة إلى إيضاح. . لكن ما يجدر بنا إيضاحه أن أحدا من شعراء الإغريق لم يحاول إخراجها مسرحياً وإنما اكتفوا واكتفى الأدباء من بعدهم باستلهامها واستيحائها. . فاستلهمها (مارستون) في أشعاره التي ظهرت عام 1598 واستوحاها (موريس) في مجموعته القصصية التي ظهرت عام 1868 وجاء المحدثون فوجدوا فيها معينا لمسرحيات كوميدية. . نذكر من هؤلاء جلبرت ثم شو ثم توفيق الحكيم وغيرهم. . ومع هذا لم يرتض أحدهم أن يخرجها من إطارها أو أن يزري بكرامة الفنان بجماليون في الصراع بينه وبين تمثاله. . واحتفظوا له بكيانه وأخرجوه منتصراً على تحفته الفنية باعتباره مبتدعها ونافخ الروح والجمال فيها. ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الرونق الفني فرموا المبتدع بحجارة تمثاله وخلقوا من الكوميديا مأساة. . أولئك هم الزملاء الفضلاء ممثلو فرقة المسرح الحديث وهذه مسرحيتهم التي مثلوها أخيراً مع عميدهم الذي ابتدع فرقتهم، ونفخ فيها الحياة والجمال، وعشقها وتفانى في الإخلاص لها فكان جزاءه الجحود والعقوق

وإني لأذكر في يوم ميلادها كيف حرص على أن يكتب في أول نشه أذاعها: (إن هذه الفرقة لن تهلك إلا إذا ائتمر أعضاؤها على قتلها) وكنت مع إيماني بحصافته وبعد نظره أعجب لذلك وأعجب أكثر من ذلك لإصراره على تسجيل هذه العبارة في كل نشراته بلا استثناء، وما كان يدور بخلدي أن ما توقعه سيحدث بعد عامين اثنين من إنشائها على الرغم من نجاحها نجاحاً منقطع النظير. لم يكن زكي طليمات نبياً ولا مطلعاً على الغيب؛ وإنما أدرك - وهو اسبق من زمنه - أن منهاجه العلمي سيؤدي به إلى النجاح بين قوم لم يتوسلوا من قبل بمنهاج علمي بديل أنهم كانوا يتوقعون له الإخفاق. . وأدرك من جهة أخرى أن هؤلاء القوم سيحاولون هدم ما بناه. . وأدرك أيضاً أن لا شيء ينال منه إلا أن ينهار البناء بذاته. وربما كان أبرز ما يؤيد صحة مدركاته أن مما تتجه إليه الآن إدماج فرقته. . بعد ما أوشكت أن تتداعى - بالفرقة المصرية. . . وهكذا يتكشف الباعث الأصيل للمطالبة بإقصائه أو بعبارة أخرى لهدم الصرح الذي أقامه. . . وتتكشف تبعا لذلك أغوار هذه المحنة الأخلاقية التي أصبحت مضرب الأمثال

إن شيئاً واحداً أريد أن أصارح به زملائي، وهو أن زكي طليمات (الفنان) حقيقة تاريخية لا سبيل إلى طمسها، وإذن فلا ضير عليه، وإنما الضير على أبنائه الذين ضربوا مثلاً رائعاً في انتهاز الفرص حتى لقد استباحت ضمائرهم إهدار كرامته وهانت أبوته وأستاذيته، وكل ما أخشاه أن تكون في الإطاحة به إطاحة بهم وبمدرسته الفنية وبالأمل الذي يراودنا في تحقيق نهضة المسرح المصري الحديث

عبد الفتاح البارودي