مجلة الرسالة/العدد 1003/زعماء الحركة القومية

مجلة الرسالة/العدد 1003/زعماء الحركة القومية

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1952



السيد محمد كريم

للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

(2)

اقتربت الحملة الفرنسية من مياه الإسكندرية في اليوم الأخير من شهر يونيو - وكان الفرنسيون ينظرون إلى الشعب المصري. . . نظرة العملاق الضخم. . إلى القزم الضئيل - الذي يستطيعون سحقه في دقائق معدودات!

ألم يقرءوا من قبل ما كتبه الرحالة الفرنسيون عن سهولة فتح مصر؟

ألم يخبرهم (فولني) بأن الاستيلاء على البلاد، والسيطرة عليها. . لا يتطلب إلا عدداً قليلاً من الرجال؟

ألم يبين لهم ضعف الحصون، وقلة الذخيرة، وعجز الإسكندرية عن المقاومة. . فوصفها بقوله:

(إنه ليس في المدينة سوى أربعة مدافع في حالة صالحة - وليس بين الحامية التي يبلغ عددها خمسمائة من يمكنه إصابة المرمى - بل جميعهم من العمال العاديين الذين لا يحسنون سوى التدخين؟)

فماذا ينتظر الفرنسيون بعد كل هذا الوصف الذي وصفه (فولني) وغيره من الرحالة والتجار الذين زاروا مصر من قبل؟!

وهل تعجز مدافعهم الضخمة عن تحطيم أسوار الإسكندرية أو تخريب المدينة كلها إذا لزم الأمر؟

إلا أن ذلك كله سهل يسير، وليست هناك وقوة في الأرض تستطيع أن توقف تقدم الجيش الفرنسي الظافر، أو تحطم آمال نابليون في تكوين إمبراطورية شرقية عظيمة

ولقد كان (نابليون) يظن أن المصريين سيستقبلونه هاتفين مرحبين - وسيضعون فوق رأسه أكاليل الغار. . أينما سار، وحيثما كان - وكان أبعد ما يتصوره. . أين يقف المصريون في وجهه. . أو يقابلوه بالقوة والعدوان! ولذلك بعث إلى قنصل فرنسا يستدعيه، قبل أن يبدأ الجنود بالنزول إلى البر. . . وفي اليوم التالي عاد القنصل ومعه عدد من البحارة أرسلهم السيد محمد كريم لحراسته، وليعودوا به بعد أن ينتهي من مقابلته للفرنسيين

فأخبرهم القنصل بثورة الشعب وهياجه، واستعداده للنضال والمقاومة. . كما أخبرهم أن أسطولاً إنجليزياً يبحث عنهم في عرض البحر. . وأنه كان بالثغر ولم يغادره إلا عشية أمس الأول

فلما سمع نابليون حديث القنصل، خشي أن يباغته الأميرال نلسن بأسطوله، ولذلك أصدر أوامره إلى القواد بمحاصرة الإسكندرية، وتطويقها من ثلاث جهات

(وسارت القوة في منتصف الساعة الثالثة من صبيحة يوم 2 يوليو بحذاء الشاطئ، فوصلت تجاه أسوار المدينة عند شروق الشمس، وأخذت تحاصرها في الضحى - الجنرال مينو من الغرب. . والجنرال بون من جهة باب رشيد. . والجنرال كليبر من باب سدرا - بينما وقف نابليون على قاعدة عمود السواري، واتخذها معسكره العام. . يرقب منها حركة الهجوم، ويصدر أوامره لقواد جيشه. . .)

ولم يكد السيد محمد كريم يرى الجيوش الفرنسية القادمة. . . حتى أصدر أوامره إلى أهالي الإسكندرية بالصعود فوق الأسوار، ومقابلة القوة بمثلها، وصد العدوان بالعدوان

ووقف بنفسه فوق قلعة (قايتباي) ومعه فريق من المقاتلة لا ليشرف على المعركة كما فعل نابليون، ولكن ليحارب بنفسه كما يفعل غيره من أهالي الإسكندرية، وليضرب لهم أروع الأمثلة في الجهاد والكفاح والتضحية

وحينما بدأت المعركة، وضع المصريون أرواحهم فوق أيديهم وباعوها رخيصة في سبيل الوطن، وجعلوا يمطرون العدو بوابل من رصاص بنادقهم

وكان السيد محمد كريم - طوال المعركة - يثير النفوس، ويستحث الهمم، ويقوي العزائم، وقد استطاع المصريون خلال هذه المعركة أن يواجهون الفرنسيين، ويقتلون منهم عدداً ليس باليسير. . .

وقد أصيب الجنرال كليبر أثناء الموقعة بعيار ناري في جبهته، كما أصيب الجنرال مينو بضربة حجر أسقطته من أعلى السور، وكادت تودي بحياته، ولذلك كتب الجنرال مينو إلى نابليون يقول:

(إن الجنود يستحقون الثناء العظيم على ما بذلوه من الإقدام والهمة والذكاء، وسط المخاطر العظيمة التي كانت تحيط بهم. . . لأن الأهالي قد دافعوا عن المدينة بشجاعة كبيرة. . وثبات عظيم)

ولما رأى (نابليون) استماتة الشعب المصري في الدفاع عن الإسكندرية، نظر إلى أسوار المدينة فلاحظ أن بالسور رغم ارتفاعه وضخامته ثغرات كبيرة رممت حديثاً. . .

فطلب من رجال أن يوجهوا مدافعهم تجاه هذه الأسوار، وظلوا يضربونها حتى عجزت عن المقاومة، وبدأ الجنود يدخلون المدينة من الثغرات التي أحدثوها، حتى وصلوا إلى الجهة الآهلة بالسكان. . فأخذ الأهالي يطلقون عليهم الرصاص. . حتى كاد نابليون نفسه أن يصاب برصاصة قاتلة. . وكذلك قال سكرتيره الخاص:

(دخل بونابرت المدينة من حارة ضيقة. . لا تكاد لضيقها تسع اثنين يمران جنبا إلى جنب. . وكنت أرافقه في سيره. . فأوقفتنا طلقات رصاص. . صوبها علينا رجل وامرأة من إحدى النوافذ. . واستمرا يطلقان الرصاص فتقدم جنود الحرس، وهاجموا المنزل برصاص بنادقهم، وقتلوا الرجل والمرأة)

ولقد ظل السيد محمد كريم يدافع عن المدينة، حتى ضعفت الحامية عن المقاومة. . فكف عن القتال، وسلم المدينة. . ولم يكن في ذلك التسليم ما يقلل من جهاد السيد محمد كريم. . وحسن بلاء أتباعه. . وإنما كان ذلك منه حكمة وحزما. . وحسن تقدير لعواقب الأمور. . .

يقول أحمد الحكماء:

(لا عار على أمة قليلة العدد. . ضعيفة القوة. . إذا تغلبت عليها أمة أشد منها قوة. . وإنما العار الذي لا يمحوه كر الدهر. . هو أن تسعى الأمة. . أو أحد رجالها. . أو طائفة منهم. . لتمكين أيدي العدو من نواصيهم. .)

للكلام صلة

عبد الباسط محمد حسن