مجلة الرسالة/العدد 1004/الظلم. الجبن. الأنانية هذه هي أعداؤنا

مجلة الرسالة/العدد 1004/الظلم. الجبن. الأنانية هذه هي أعداؤنا

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1952



للأستاذ محمد محمود زيتون

يتشدق الكثيرون بأن الفقر والجهل والمرض هي أعداؤنا التي يجب أن نكافحها، إذا أردنا صلاح أمر هذه الأمة، وأسارع إلى القول بأن هناك فرقاً بين العلة وأعراضها، وليس بدعا من الرأي أن يكون الظلم والجين والأنانية هي العلل الفتاكة التي تنمو في نفوس الأفراد والجماعات وتحطم كيان الأمم حتى يكون من أعراضها الفقر المدقع والجهل المطبق والمرض الفتاك

ومن بداهة العقل أن الظلم هو الصورة السلبية للعدل، والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، من غير إفراط أو تفريط، بحيث تسير الأمور في هذه الدنيا على سواء، ومن مظاهر العدل أن ينسجم الفرد مع نفسه ومع غيره، وأن تتسق الجماعات والهيئات في نشاطها الاجتماعي، وأن تتعاون الأمة مع الحكومة، وأن تتناسق الدول بحيث تكون كفالة الأمن والسلام أمراً لازماً لا معدي عنه. وبعد: فإن من العدل أن تهدف الإنسانية إلى أسمى المثل، وتعمل على تحقيقها قولاً وعملاً

إما إذا اضطرب هذا الانسجام في الفرد والمجموع ساد الظلم في أقصى حديه: الإفراط والتفريط. وعمت الفوضى التي لا يصلح عليها أمر، وينعدم حيالها كل رجاء في الإصلاح والتقدم، وإن أقرب ما يحس به الفرد حينذاك هو الشعور بالفارق بينه وبين غيره، وقد يتنكب هذا الشعور كل حقيقة فإذا به يرد هذا الظلم الواقع على من بيده ملكوت كل شيء، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً

إنه تبارك وتعالى يأمر بالعدل وينهى عن الظلم ويبعث المرسلين مبشرين ومنذرين، ولقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة أنه يقول: (يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظلموا) ومن الطبيعي أنه إذا وقع الظلم انحلت القوى الفكرية، وانتشرت جراثيم الوهم، فلا مناص من أن يثوب المرء إلى رشده ويسحن التدبير ليوقن أن الظلم إنما هو (انحراف الموازين الموضوعة) وليس هذا قضاء حاتما ولا قدر لازماً، وإنما على الفرد والجماعة مكافحة هذا الانحراف وإلا حاق بهم ما يكرهون

قال أبو بكر (أيها الناس: إنكم تقرءون هذه الآية (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، يضركم من ضل إذا اهتديتم) وأني سمعت رسول الله يقول (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوه على يده، أوشك الله تعالى أن يعمهم جميعاً بعقاب) وماذا يمنع المرء أن يكون قادراً على رد الظالم وقد أعزه الله تعالى بقوله الكريم

(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، ولماذا يتخلى صاحب العزة عن سلاحه الذي به يسود، وهو يعلم أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وأن نصر المؤمنين حق. ولقد ساير الإسلام طبيعة البشر في مدارج الإسلام لدفع الظلم بالقلب، فإذا امتلأ بالإيمان نطق اللسان قوياً في الجماعة التي تقوى بدورها لدر كل منكر باليد حتى يزول، وهذا مصداق لقول الرسول (ص) (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)

وما كان لمؤمن أن يرضى لنفسه الضعف أو الوقوف عند مجرد الإنكار بالقلب، وذلك مما لا يؤدي إلى الغرض، وهو القضاء على الظلم، وإلا ارتفعت درجة الظلم كلما انخفضت حرارة الإيمان، ولذا يقول الرسول الأعظم (الساكت عن الحق شيطان أخرس)

إن الجبن الذي يقعد بصاحبه عن المغامرة في شرف دفع الظلم فتتفكك أوصاله وترتعد فرائصه، وتختل قواه، ويقبع في عقر داره، وينعقد منه اللسان إن لم يلجأ إلى الملق والنفاق، ليحجب أفاعيل الخور والهزيمة في نفسه، وهنا يزين له الشيطان مسلكه! فإذا بالجبان طاغية وباغية، وإذا بالرعديد كالصنديد إذا خلا بأرض طلب الطعن والنزال وحيداً

والأصل أن يكون المؤمن قوياً عزيزاً ليكون شجاعاً كريماً، يندفع إلى الحق في صراحة وحماسة، لا تأخذه لومه اللوام، وله في ذلك شرف المجاهدين في أشق ميادين الجهاد وهو النفس، وبهذا يرتفع لواء الخير وتعلو كلمة الحق، ويسود العدل، وما يلبث ضعاف الإيمان أن يتدافعوا نحوه، فتقوى قلوبهم، وتشتد سواعدهم في سبيل الله، والجبان لا يتخلف عن الركب القوي إلا لأنانيته الخسيسة، وحبه لنفسه المتهالكة الواهية، وإمعاناً في إخفاء ما يستذل العنق، وإبقاء على سر موغل بصاحبه إلى عيب دفين، فإذا به ينطوي على نفسه يكتم منافذها جهداً استطاعته، منزوياً بها عن الهواء الطلق والنور الصريح، وهنا يعقد له منطق التبرير ما يطمئن قلبه، بقول فيلسوف العرب ديكارت (عاش سعيدا من أحسن الاختفاء). مثل هذا الشخص مريض، على المجتمع أن يعالجه، بل هو جاهل علينا أن نعلمه، فليسمع قول المتنبي شاعر البطولة:

إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم

وليتمثل علو الهمة في الشافعي:

همتي همة الملوك ونفسي ... نفس حر ترى المذلة كفرا

وعندي أن الأناني لص اجتماعي، لأنه إذا استغنى عن المجتمع بما لديه من مال أو جاه إنما يتسلل في الخفاء وبنهب عرق الكادحين ويمتص دماءهم، وهو في وكره البعد ينعم بالدفء والراحة، فهو يأخذ ولا يعطي

وما علينا إذن إلا أن نحطم أوكار الأنانية على أصحابها، وأن نسوقهم أمامنا إلى ميادين العمل حتى يتذوقوا مرارة العيش التي يمسي فيها العاملون ويصبحون. وهكذا يتدخل الفرد والمجموع وتتفاعل الحياة بينهما على نحو طبيعي تقدمي:

ولقد دل حديث الرسول (ص) على استمرار العمل الإنساني بقوله عليه السلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)

أما بعد: فليعلم كل من لا يعلم أن الفقر والجهل والمرض ما هي إلا أعراض الظلم والجين والأنانية؛ وهي بحق العلل الفتاكة، فلنحارب كل ظالم، وكل جبان، وكل أناني، وإليكم رائدنا قول الشاعر:

متى تحمل القلب الذكي، وصارما ... وأنقاً حميا تجتنبك المظالم

محمد محمود زيتون