مجلة الرسالة/العدد 1008/من أدب التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 1008/من أدب التاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1952



أبو مروان الخرائطي

للأستاذ محمود عزت عرفة

في عام 229 من الهجرة حبس الخليفة العباسي الواثق كتاب دولته وألزمهم مغارم جسيمة، متهما إياهم بالخيانة واحتجان المال.

وكان بين هؤلاء: أحمد بن إسرائيل، وسليمان بن وهب كاتب إيتاخ القائد، وأخوه الحسن بن وهب، وأحمد بن الخصيب، وإبراهيم بن رباح، ونجاح بن سلمة، وأحمد بن خالد الملقب بأبي الوزير.

وقد تولى تدبير هذا الأمر محمد بن عبد الملك الزيات وزير الواثق. وكان ابن الزيات - على رجاحة عقله ووفور علمه وأدبه - ينطوي على أبلغ ما تنطوي عليه جوانح رئيس من القسوة والظلم والاعتساف.

وكان سليمان بن وهب من أشد هؤلاء المنكوبين تعرضاً للأذى، وإن كان قد خلص بنفسه من العطب تحت شروط ثقال ارتضاها وأقر بها. ويسجل الطبري ذلك في تاريخه فيقول:

(أمر الواثق بحبس سليمان بن وهب كاتب إيتاخ، وأخذه بمائتي ألف درهم - وقيل دينار - فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم. وسأل أن يؤخر بالباقي عشرين شهراً، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد).

ويروي القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة): بإسناد لسليمان بن وهب نفسه، قوله:

(كنت في زمن محمد بن عبد الملك في أيام الواثق لما صادرني عن كتابة إيتاخ على أربعمائة ألف دينار، وقد أديت منها مائتي ألف ونيفاً. فاستحضرني يوما وطالبني بالباقي، وحدني فيه وأرهبني، ولم يرض مني إلا أن أجبت أن أؤدي خمسين ألف دينار قاطعة للمصادرة، على أن يطلق ضياعي. .)

جلس محمد بن عبد الملك الزيات يوما يجد في مطالبة هؤلاء المنكوبين ويمعن في إرهابهم واحدا بعد الآخر. فلما كانت نوابه سليمان أعاد عليه المطالبة وأغلظ له في القول، وسامه أن يقر كتابا بقدر من المال جسيم. وقبل أن يأخذ خطه بما قرره عليه خرج من دار الح خادم صغير ودس في يد الوزير رقعة مكتوبة، فلم يستوعب بنظره كليماتها حتى نهض في إثر القاضي معجلاً.

وكان من بين الحاضرين الحسن بن وهب أخو سليمان، وهو لا يزال موضع رضا الوزير، وإن كان ليخشى أن يتحدث إليه في شأن أخيه فهو يشهد ما يجري عليه وقد انطوت نفسه على أسف بالغ أسى كظيم.

. . كان قصارى جهد الحسن إذ حضر مجلس المطالبة - وهو يحضره غالبا بحكم موضعه من خدمة الوزير - أن يستقبل أخاه بنظرات التشجيع، ثم يشيعه وهو خارج يجر قيوده بنظرات ملؤها الأسف والإشفاق.

ولكن الحسن في ذلك اليوم كان على غير عادته، يلوح كمن يسر خبراً مفرحاً تكاد تنطق به قسمات وجهه. ولعل أخاه على شغله الشاغل بنفسه استشف من ذلك شيئاً، فبادله نظرات خفية فيها الحيرة وفيها التساؤل. ولم يمتد هذا الموقف بالأخوين كثيراً؛ فقد انتهز الحسن فرصة تغيب الوزير بدار حرمه وألقى إلى سليمان برقعة لطيفة استقرت في حجره، فراح يلمسها بأنامله في اضطراب ثم بسط ثناياها وقرأ هذه العبارة بخط أخيه: (جائني الخبر الساعة من دارك أنك قد رزقت ابناً، خلقاً سوياً، وهو جسم بغير اسم. فما تحب أن يسمى ويكنى؟)

واتجه سليمان بنظره إلى ناحية أخيه ثم همس: عبيد الله. . أبو القاسم!

وسرت في سليمان منذ هذه اللحظة روح جديدة، وتداخله فيما قرأ سرور وقوة نفس. وفي حلم خاطف من أحلام اليقظة رأى ابنه طفلاً رضيعاً، ثم غلاماً، ثم فتى يافعا، ثم رجلاً قوي الأسر كامل النفس موفور الحلم، يتبوأ المناصب الخطيرة، ويشد من أزر أبيه بماله وبجاهه.

وعاد الوزير بعد حين إلى مجلسه فأمسك قليلاً، ثم أقبل يعيد المطالبة على سليمان، ويريده أن يوقع على ما رضي الإقرار به. فما أدهشه إلا أن يرفض مرة، ويستمهل أخرى، ثم هو فيما بين ذلك يجادل ويدافع، ويدلي بالحجة وراء الحجة. .

كان سليمان بحال من انبعاث النشاط وتجدد الأمل لم يخطر للوزير أن تكون. فانعقد لسانه من فرط البغتة، وأقبل يرمق سليمان في حيرة ولإنكار، ثم قال له: - يا أبا أيوب، ما ورد عليك بعدي؟ أرى عينيك ونفسك ووجهك بخلاف ما خلفتك منذ ساعة!

فأجاب سليمان: ما ورد علي شيء!

قال الوزير: والله لئن لم تصدقني لأوقعن بك من العذاب ما يستخرج منك الحق واضحاً.

فقال سليمان في غير مبالاة: ما عندي ما أصدقك عنه.

ونظر الوزير إلى الحسن بن سهل وقال: لتخبرني بشان أخيك.

ولم يطل بالحسن التفكير، فقد كان يعلم من عسف الوزير ومن زعارته أضعاف ما يترامى علمه إلى سائر الناس: فأخبره بالحديث على وجهه حتى سكنت نفسه، ثم قال:

أتدري لأي شيء قمت أنا؟

- قال: لا.

- كوتبت بأن ولداً ذكراً سوياً قد ولد لي، فدخلت فرأيته وأسميته باسم أبي، وكنيته بأبي مروان!

وبرقت في ذهن سليمان خاطرة، لم يلبث معها أن ينهض إلى موضع الوزير، فأكب على يديه ورجليه، وأقبل يهنئه بكلمات رقاق، ويدعو له ولمولوده، ثم قال:

(أيها الوزير، هذا يوم مبارك، وقد رزقت ابنا. فارحمني وارع سالف خدمتي لك، واجعل ابني موسوما بخدمة ابنك، يسلم معه في المكتب ويتعلمان وينشان في دولتك فيكون كاتبا له).

ولم يكن محمد بن عبد الملك ممن يطبيهم مثل هذا الحديث. . كان في قلبه لدادة وقسوة وجنوح إلى العسف والانتقام، مما جعل شعاره الذي لا يخل به، قولته المشهورة (الرحمة خور في الطبيعة).

فلم يزد على أن تشظت عروق جبينه قسوة وحرداً، ثم قال:

- يا أبا أيوب، أعلي تجيز هذا؟ وإياي تستغل وتخاتل؟ قد حدثتك نفسك بان ابنك هذا يبلغ المبالغ وتؤمل له الوزارة. . ورجوت في نوائب الزمان وقلت: أرجو أن يحتاج ابنه إلى ابني حتى يطلب منه الإحسان والفضل. فإني استحلفك بالله وأحرج عليك، إن بلغ ابنك هذا المبلغ، إلا وصيته إن جاء ابني لشيء من هذا ألا يحسن إليه! وأعظم الحاضرون جميعاً هذا الخطاب العنيف، وخيم على مجلس الطاغية صمت ثقيل لم يقطعه إلا كليمات خافتة متعثرة من سليمان، تنصل بها مما أتهم به واعتذر مما قاله، ثم دعا للوزير وصمت.

وعاد سليمان بعد قليل إلى ظلمات محبسه وهو يحدث نفسه أن هذا غاية البغي، وان ما تحدى به هذا الطاغية القدر بعباراته المريرة، سيقع على وجه من الصحة يستخرج العبرة والعجب.

على أنه عاد بعد أيام فقبل ما قرر عليه، ورد عليه الواثق ضياعه وأقره على كتابة (إيتاخ).

ومرت سنين، أصبح بعدها وليد سليمان - الذي اختار له أبوه وهو رهن المحبس عبيد الله اسما، وبالقاسم كنية - أصبح فتى يافعاً، وشابا يتوسم فيه أهل الفراسة آيات النجابة وعلائم المجد، وطارت خلال ذلك لأبيه سليمان شهرة، وتأثل له مجد عريض.

ولما مات الخليفة الواثق تولى بعده أخوه المتوكل (بغير عهد منه) وكان يحمل أشد الضغينة لمحمد بن عبد الملك، ويحفظه عليه ما كان يجبهه به من المهانة زمن أخيه، ثم ما رامه يوم وفاة الواثق من تحويل الخلافة إلى أبن للمتوفى صغير. فلم يشف غليل نفس المتوكل إلا أن وثب على محمد بن عبد الملك وثبة سلبه فيها أسباب نعمته، ثم قتله بعد تنكيل وعاب (في صفر سنة 233هـ).

وعهد المتوكل في مستهل نكبته لمحمد بن عبد الملك، إلى سليمان بن وهب بمناظرته وإحصاء متاعه. فوافى داره في كوكبة من الجند، وهو لاهج اللسان بشكر الله على ما أولاه من نعمة، وبلغه في عدوه من رغبة.

ولقى في الدار ذلكم الابن الصغير - أبا مروان عبد الملك بن محمد أبن عبد الملك - يبكي ويتظلم. فاستدناه إليه وسأله عن قصته فقال:

- منعت كل مالي، وأدخل ما أملك كله في الإحصاء.

فقال سليمان: لا بأس عليك. ثم أمر أن يرد إليه كل ما كان له. وخر ساجداً لله على أن هيأ له أداء ذلك الصنيع.

وقص سليمان بعد حين على ابنه عبيد الله حديثه مع الوزير محمد بن عبد الملك، في يوم مولده ومولد أبي مروان ابن الوزير، ثم قال لعبيد الله: يا بني، بالله - إن رفعك الله والزمان ووضع ابنه حتى يحتاج إليك - إلا أحسنت إليه!!

ووعى أبو القاسم عبيد الله بن سليمان عن أبيه هذا الحديث.

ولما تولى المعتضد الخلافة استوزر عبيد الله بن سليمان بن وهب (في رجب 279 هـ)؛ فكان من عادته أن يتخذ للمظالم مجلساً عاماً. وفي يوم من هذه الأيام المشهودة دخل عليه فيمن دخلوا رجل رث الهيئة عليه ثياب غلاظ فعرض عليه رقعة. وقرأها الوزير قراءة متثاقل عنها، ثم متفكر متعجب مما بها. ولما أتم استيعابها قال: نعم وكرامة، أفعل ما قال أبي لا ما قال أبوك. كرر هذا القول ثلاثا ثم قال له: عد إلي وقت العصر لأنظر في أمرك.

والتفت إلى خاصة صحبه فقال: إذا خلوت فذكروني بحديث هذا لأخبركم منه بعجب عجيب. فتشوقت نفوس القوم إلى هذا الحديث.

واصل الوزير عمله يأمر وينهي بقية المجلس ثم قام واستراح ودعا بالطعام فتناوله معه من حضر، فلما بلغوا من ذلك حاجتهم أو كادوا قال الوزير: ما أراكم ذكرتموني بحديث صاحب الرقعة ثم أقبل يسوق إليهم ما حدثه به أبوه حتى بلغ منهم العجب غايته.

ثم قال متمما حديثه: ولقد ضرب الدهر مضربه فما عرف لأبي مروان خبرا، حتى رأيته اليوم، فكان ما شاهدتم.

وأمر الوزير بإدخال أبي مروان عليه عند مقدمه. فلما قدم وهب له مالاً وخلع عليه وحمله. ثم قلده ديوان البريد والخرائط فشغل هذا المنصب ثلاثين سنة أو أكثر.

وكان يكتب إلى عبيد الله - عندما يكاتبه - متقلد هذا الديوان: (عبد الوزير وخادمه، عبد الملك بن محمد).

ولكن الوزير أراد أن يعفيه من هذه المخاطبة الذليلة فقال له: أنت ابن الوزير على كل حال، ولا أحب أن تتعبد لي فاكتب اسمك فقط على الكتب.

فقال أبو مروان: لا تسمح نفسي بهذا، ولكني أكتب (عبد الملك بن محمد خادم الوزير). فقبل منه ذلك، فلم يوقع بهذه العبارة إلى جميع الوزراء الذين كتب لهم حتى وافته منيته وزارة ابن الفرات الثالثة.

وكان أبو مروان كالمترتب على هؤلاء الوزراء جميعاً بما من ذلك عبيد الله، فلزم هذا المنصب إلى أن مات.

وقد غلب عليه طوال هذه الفترة لقب أبي مروان الخرائطي حتى نسي الناس نسبه إلى ابن الزيات، إلا من كان يلم شأنه من جماعة الكتاب وغيرهم.

محمود عزت عرفة