مجلة الرسالة/العدد 1009/عدونا الأول: الرجل الأبيض

مجلة الرسالة/العدد 1009/عدونا الأول: الرجل الأبيض

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 11 - 1952


للأستاذ سيد قطب

في أمريكا يتحدثون عن (الرجل الأبيض) كما لو كانوا يتحدثون عن نصف إله. ويتحدثون عن (الملونين) من أمثالنا المصريين والعرب عامة كما لو كانوا يتحدثون عن نصف إنسان!

فالذين يعتقدون أن الأمريكان يمكن أن يكونوا معنا ضد الاستعمار الأوربي هم قوم إما مغفلون أو مخادعون، يشتغلون طابوراً خامساً للاستعمار الأمريكي المنتظر لبلاد الشرق الأوسط!

إن مصالح الاستعمار الأمريكي قد تختلف أحياناً مع مصالح الاستعمار الأوربي. ولكن هذا ليس معناه أن يكون في صف استقلالنا وحريتنا. إنما معناه أن يحاولوا زحزحة أقدام الأوربيين ليضعوا هم أقدامهم فوق رقابنا. وفي الغالب هم يجدون حلا لخلافاتهم مع الاستعمار الأوربي على حسابنا.

إن الرجل الأبيض هو عدونا الأول. سواء كان في أوربا أو كان في أمريكا. . وهذا ما يجب أن نحسب حسابه. ونجعله حجر الزاوية في سياستنا الخارجية، وفي تربيتنا القومية كذلك.

إن أبنائنا في المدارس يجب أن تربى مشاعرهم وتفتح أذهانهم على مظالم الرجل الأبيض وحقارة الرجل الأبيض. ويجب أن تكون أهداف التربية عندنا هي التخلص من نفوذ الرجل الأبيض وحقارة الرجل الأبيض. وجشع الرجل الأبيض. ويجب أن تكون أهداف التربية عندنا هي التخلص من نفوذ الرجل الأبيض. لا سياسي فحسب، ولا اقتصادياً فحسب، ولكن اجتماعياً وشعورياً وفكرياً كذلك.

ولكن الذي نفعله هو عكس هذا على خط مستقيم. . عندنا في وزارة المعارف عبيد للرجل الأبيض. عبيد يعبدون هذا الرجل كعبادة الله. بل إنهم ليلحدون في الله ولا يلحدون في أوربا أو أمريكا. سراً وعلانية!

وعندنا في معاهدة التربية التي تخرج المدرسين، فتؤثر في ذلك بعقلية أجيال بعد أجيال. . عندنا فتات آدمي ينظر إلى الرجل الأبيض نظرة التقديس، ويطبع مشاعر الطلبة الذ سيصبحون مدرسين بطابع الإعجاب والقداسة لأولئك المستعمرين القذرين، الذين يحتقروننا ويهينون كرامتنا، فنتلى ذلك منهم بالشكر والثناء وهذه جناية قومية، وجناية إنسانية. . جناية قوميةلأن الرجل الأبيض يستغلنا ويستغل أوطاننا استغلالا شنيعاً، ومن واجبنا أن نعبئ أعصابنا ومشاعرنا ضده، لنسترد حقوقنا المسلوبة. وجناية إنسانية لأننا بتمجيدنا للأوربي والأمريكي إنما نمجد مثالاً مشوهاً للإنسان، ونقيم تمثالاً للجشع والطمع والسلب والنهب والاحتيال. ثم نضع تحت أقدامه أكاليل المدح والثناء!

أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة جريدة مصرية صباحية يتحدث كاتبها فيها عن مأساة تونس مع فرنسا فيقول مخاطباً رئيس الدولة الفرنسية:

(أما إذا كان يقصد شق الطرق وإنشاء السكك الحديدية، وتشييد الأبنية وزيادة الرخاء الاقتصادي. . فلعله يعرف أن هذا كله تم لفائدة المستعمرين من الفرنسيين. أما أهل البلاد الأصوليون فيعيشون كالغرباء. لا يزالون جهالا حفاة عراة. وقد ساومت أمريكا على أرض مراكش، فأعطت أمريكا امتياز إقامة المطارات والاستحكامات الحربية على الشاطئ في مقابل أن تنصرها أمريكا، وتمهد لها السبيل لتنفيذ سياستها).

ولكن الكاتب يقول مع هذا عن فرنسا إنها (البلاد التي علمت الدنيا مبادئ الحرية والإخاء والمساواة)!

وهذا هو الاستعمار الروحي، الذي يقيد مشاعرنا حتى ونحن ثائرون على الاستعمار السياسي!

هذا هو الاستعمار الروحي الذي ينطق الكاتب بهذه الخرافة حتى وهو يستعرض تاريخ فرنسا الأسود، ومساومات أمريكا الاستغلالية.

هذا هو الاستعمار الذي في أرواحنا المدرسة المصرية التي تنفذ أهداف الاستعمار إلى اللحظة الحاضرة. بل يقوم على رأسها وزير كان من عباد إنجلترا، ثم أضحى من عباد أمريكا ومعه معاهد تربية تتعبد أمريكا من دون الله في الأرض!

هذا هو الاستعمار الذي بثته في أرواحنا كتاب خانوا أماناتهم للوطن، وخانوا أماناتهم للإنسانية، فوقفوا أقلامهم طويلاً على تمجيد فرنسا. ومع ذلك فغن بعضنا لا يزال يهتف لهم، وبعدهم رواداً للفكر في الشرق! إنني أفهم أن تهتف لهم فرنسا، أو أن تهتف لهم إنجلترا، أو أن تهتف لهم أمريكا. . أما أن نهتف لهم نحن العرب فهذا هو الهوان البشع، الذي لا يقدم عليه فرد وله كرامة!

إن مكان هؤلاء اليوم كان ينبغي أن يكون مكان الجواسيس والخونة والطابور الخامس، لا مكان التمجيد والتقدير والاحترام.

كل رجل غمس قلمه ليمجد فرنسا أو يمجد إنجلترا أو يمجد أمريكا. . هو رجل منخوب الروح، مستعمر القلب، لا يؤتمن على النهضة القومية، ولا يجوز أن يكون له مكان في حياة هذه البلاد بعد نهضتها.

إنني لا أكاد أتصور أن هناك إنسانا له مشاعر الإنسان يرى (الرجل الأبيض) يدوس بأقدامه على أعناقنا في كل مكان ثم يجد نفسه قادراً على تمجيد هذا الرجل، أو حتى مصادقته إنني أشك في آدمية هؤلاء الكتاب، وهؤلاء الوزراء، وهؤلاء الأساتذة. نعم أشك في آدميتهم لأن أول مميزات الإنسان أن يحس بكرامة الإنسان.

أفهم أن تكون هناك ظروف اضطرارية تلجئنا إلى تبادل التمثيل السياسي والقنصلي، وإلى المبادلات التجارية والصلات الاقتصادية مع هؤلاء المستعمرين القذرين. . أما أن يتبادل العواطف والمشاعر، وأما ن نتحدث عن المآثر والمفاخر وأما أن نفتح قلوبنا وصدورنا. . فدون هذا ويعجز خيالي عن تصور المهانة، وتصور المذلة، وتصور المسخ الشعوري الذي يصيب الفطرة البشرية، فيهوي بها إلى ذلك الدرك السحيق من الهوان.

من الذي يسمع عن وحشية الفرنسيين في الشمال الأفريقي ثم لا يمزق كل ما هو فرنسي، إن لم يكن بيديه وقدميه، فعلى الأقل بمشاعره وقلمه ولسانه؟

من الذي لا يحتقر أمريكا ويحقر معها آدمية الأمريكان وهو يجد المعدات الأمريكية والدولارات الأمريكية تشد أزر الاستعمار الأوربي في كل مكان. . لقاء مساومات اقتصادية أو استراتيجية أو عسكرية؟

من الذي يملك أن يقف على الحياد في معركة الحرية بين الاستعمار الغربي وبين البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها ثم لا يكتفي بموقف الحياد بل يمد يده بالمصافحة والمحالفة لهذا الاستعمار القذر، الذي تلعنه الأرض والسماء؟

إن الاستعمار لا يغلبنا اليوم بالحديد والنار. ولكنه يغلبنا قبل كل شيء بالرجال الذين استعمرت أرواحهم وأفكارهم، يغلبنا بهذا السوس الذي تركه الاستعمار في وزارة المعارف، وفي الصحف، والكتب؛ يغلبنا بهذه الأقلام التي تغمس في مداد الذل والهوان الروحي لتكتب عن أمجاد فرنسا، وأمجاد بريطانيا، وأمجاد أمريكا.

ولن نستطيع التغلب على هذا الاستعمار، إلا إذا حطمناه في مشاعرنا، وحطمنا معه لأجهزة التي تستحق إيماننا بأنفسنا. هذه الأجهزة الممثلة في وزارة المعارف ومعاهد التربية، والأفلام الخائنة الممسوخة التي سبحت يوما وما تزال تسبح بحمد فرنسا أو إنجلترا أو أمريكا.

وأنا لا أطمع في الجيل الذي شاخ أن يصنع شيئاً. هذا الجيل قد انتهى. جيل منخوب مهماً بدا كالطود الشامخ. جيل مزيف لأنه لا يؤمن بنفسه، ولا يأنف من تقبيل الأرجل التي تركل قومه ووطنه وإنسانيته أيضا. جيل لا بأس أن تكرمه فرنسا، وأن تكرمه إنجلترا، وأن تكرمه أمريكا؛ لأنه يعمل لحسابها ويؤدي لها خدمات، لا يؤديها جيش مسلح كامل.

كلا! لست أطمع في هذا الجيل الذي شاخ. إنما أنا أطمح في جيل الشباب المتحرر. الذي يحترم رجولته، ويحترم قوميته، ويحترم إنسانيته. .

أطمع في جيل الشباب أن يخرس كل صوت يرتفع في مدرسة أو معهد أو كلية بتمجيد الرجل الأبيض، الذي خان أمانة الإنسانية.

أطمع في جيل الشباب أن يحطم كل قلم ينغمس في مداد الذل والعار، ليمجدوا الرجل الأبيض الذي يدوس أعناقنا بحذائه

أطمع في جيل الشباب أن يحتقر كل رجل يصادق الرجل الأبيض، طائعا مختارا، بدون ضرورة ملجئة تحتمها الأوضاع الدبلوماسية!

ويوم ننقض الاستعمار على هذا النحو من أرواحنا وعقولنا. .

يوم تغلي دماؤنا بالحقد المقدس على كل ما هو أوربي أو أمريكي. .

يوم نسحق تحت أقدامنا كل من يربطنا بعجلة الاستعمار. .

عندئذ فقط سننال استقلالنا كاملا؛ لأننا نلنا الاستقلال من داخلنا: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا). .

سيد قطب