مجلة الرسالة/العدد 101/الشاطئ المجهول

مجلة الرسالة/العدد 101/الشاطئ المجهول

مجلة الرسالة - العدد 101
الشاطئ المجهول
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1935



نظم الشاعر سيد قطب

للأستاذ محمود الخفيف

في ذهني، عن شعراء الشباب عندنا فكرة عامة، تزداد وضوحاً، وأزداد بها تعلقاً كلما نشر أحدهم مجموعة شعره، ولقد أتيح لي أن أقرأ عدداً من تلك المجموعات في الأيام الأخيرة، فزادتني يقيناً بأن الشعر في مصر يسير الآن لي غير قصد، أو بعبارة أخرى لم تنشأ بعد عندنا في الشعر (مدرسة) لها لونها، ولها غايتها، ولها سبلها المختلفة، التي تنتهي بها إلى تلك الغاية. وعلة ذلك أن شعراءنا إلا أقلهم مقلدون، وقل أن تلمح لأحدهم أصالة أو تتبين له جهة، وكأني بالشاب منهم يتناول القلم والورق، ويجلس لينظم، لا لأن قلبه يخفق بمعنى يريد أن يفصح عنه، بل لأن شهوة النشر تملك زمامه، والرغبة في المحاكاة تصرفه في ذلك عن الصواب، ففي نفسه بقية مما قرأ ولم يحسن فهمه من المسائل، فهو يتطلع إلى التجديد والغموض والرمز والبحث عن المجهول والتشاؤم وما سوى ذلك من معانِ يرددها دون أن يدري كنهها أو المقصود منها، وليت شعري، كيف نسمي إنتاجاً كهذا شعراً؟ وهل كان الشعر إلا الإحساس القوي ثم الإفصاح عنه في صورة تلائم الفن وترضي الذوق؟

وانك لتلتمس الدليل على ما أقول في هذا الديوان المسمى بالشاطئ المجهول، فأني على الرغم من عثوري فيه على بعض قطع أبهجتني قراءتها، قد عجزت تماماً عن استجلاء ما يريد الشاعر بما جاء في قسمه الأول الذي من أجله سماه بهذا الاسم

بيد أني أحب أن أبدأ الكلام عن هذا الديوان من الناحية الشكلية، فقد استوقفتني فيه ظاهرة أمضتني بقدر ما تولاني منها الدهش، ذلك أن الشاعر (سيد قطب)، قد مهد لديوانه بمقدمة نقدية بقلم الناقد (سيد قطب)، وراح في هذه المقدمة يمدح نفسه، ويطنب في هذا المدح في صورة يعروني لمجرد الإشارة إليها كثير من الخجل والحياء! ففي الديوان نظريات علمية وفلسفية، والشاعر ملم بها. والشاعر متصل بالعوالم المجهولة، تربط قواه الروحية بالوحدة الكونية الكبرى. وللشاعر إحساس متيقظ بالزمن ومروره، ويملأ الشغف بكشف المجهول والحديث عن السر حيزاً كبيراً من ديوانه، والشاعر في هذا الديوان يقف موقف المصور في كثير من القصائد وفي الديوان ظاهرة تستحق التسجيل، وذلك أن لوناً من ألوان الموسيقى يتفشى فيه كله، كذلك تبدو في هذا الديوان صورة واضحة للتعبير الدقيق المصور للأفكار إلى ما سوى ذلك مما استحى لذكره من عبارات المدح والإطراء: وتالله لقد ترددت كثيراً أن أصدق أن الشاعر والناقد شخص واحد، واكتفي أن أقول له في احترام: إن مثل هذا أن أجاز في شيء فهو لا يجوز في الأدب وعلى الأخص في الشعر

وبعد فهل رأيت في الديوان ما يتفق مع هذه المقدمة؟ الحق أني إذا أردت الأنصاف مضطر إلى أن أخالفه في كثير مما قال بل في معظمه! فالجزء الأول من ديوانه المسمى (ظلال ورموز) عبارة عن سلسلة من الأفكار الغامضة يشملها جميعاً ذلك التعبير الذي شغف بتكراره الشاعر وهو (الوجوم الكئيب) فتلك الكآبة تخيم على معظم قصائده وعلى الأخص (الشعاع الخابي) و (خراب) و (في الصحراء) حيث (يطل الليل كالشيخ الكئيب) و (في خريف الحياة)، و (غريب). وليتنا نخرج بشيء من هذه الكآبة أو نتبين فيها شيئاً من فلسفة الحياة جديراً حقاً بهذا الأسم، ولست أدري لم أضطلع الشاعر هنا ببعض الموضوعات (كالإنسان الأخير) و (الشاعر في وادي الموت)، وهو لم يخرج منها بطائل، بله العجز عن التصور والتعبير في مثل هذه المواقف الغريبة!

أما بقية ديوانه فيشتمل على بعض قصائد ريفية، وقصائد غزلية، وقصائد وطنية، هي في الجملة جيدة، تحس أنها صادرة حقاً عن القلب، فليس فيها من تكلف والتعمل والتقليد مثل ما في سابقتها؛ ولقد أعجبني بنوع خاص قصائده (توارد خواطر) و (سر انتصار الحياة) و (المعجزة) و (الليلات المبعوثة) وطربت لها كثيراُ. ولو نظر الشاعر أو الناقد سيد قطب معي نظرة حق لفهم السر في نجاحه في تلك القصائد التي يستحق من أجلها أطيب الثناء، ولولا هنات في بعض تعبيراته لعدت هذه من عيون الشعر

والشاعر في قصائده الحديث أقوى على التعبير وأسلس عبارة منه في قصائده القديمة، ولقد لاحظت عليه كجمهرة شعراء الشباب مغرم ببعض الصور الغريبة. لا يتحرج في كثير من تعبيراته، ولا يتوخى فيها البلاغة والسير في مألوف التشبيه والاستعارة، وإلاّ فكيف يتفق مع الذوق مثل قوله (يدوي حوله صمت الفناء) والكون (مفقود القطيم) و (الهول الواجم) و (الرعب الحائم) و (الفناء الجاثم) و (ركام الفناء) و (شخوص الوهم) و (الحياء الوديع) و (الخشوع الوقور) و (العيلم المسجور) و (الصرخة الملتوية) و (الصمت في ظل الوجوم) و (وقف الكون شاخصاً في سكون) و (الذهول الشريد) و (القنوط العقيم) و (الدلال الشرود) و (الرشاد الرزين) و (الفتور الشغوف) وغير ذلك من الصور الذهنية الغريبة وهي مع الأسف كثيرة في الديوان

هذا إلى أنه قليل العناية بانتقاء اللفظ وتجويد القوافي، وأنا على يقين بأني حين أصارحه بهذا أحسن إليه؛ فواجبنا جميعاً أن نتضافر على رفع مستوى الشعر بعد أن نحدده ونتبين وجهته، ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا إذا توخينا الصراحة والصدق والإخلاص في كلُّ ما نقول

الخفيف