مجلة الرسالة/العدد 101/في الجبانة

مجلة الرسالة/العدد 101/في الجبانة

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1935



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

قالت لي أمي - رحمها الله - مرة:

(ألا تنوي أن تزور أباك في هذا الموسم؟)

وكنا قد أوشكنا أن ندخل في رجب، وكانت حريصة على زيارة موتاها في كل موسم، بل في كل خميس وجمعة، لا تهمل منهم أحداً، فتطوف بهم جميعاً وتقرأ لهم الفواتح، ولا تأكل فاكهة جديدة حتى (تفرق) منها على قبورهم، وكان ذلك يثقل علي، ولكني كنت أكلها إلى رأيها فيه، إيثاراً لمرتضاتها

فقلت - بلهجة من ضاق صدره: - (كيف أزوره وهو ميت وأنا حي، وهو تحت الأرض وأنا فوقها، فلا يسمع مني ولا يراني ولا يحسني؟)

فقالت: (إني أراك مغتراً بالحياة ومعتزاً بها، ولا أستحسن لك هذا) ولم تزد، فأقصرت أنا أيضاً وقد شعرت أني آلمتها بسخافتي وحماقتي، وكرت الأيام، فما يقف الدهر، وماتت - كما يموت كل حي - فكان أوجع لي من موتها أنها ذهبت وهي موقنة أني لن أزور قبرها، وكأنما أردت أن أغالط نفسي فيما تحسه من الوخز والندم، فجعلت أزورها من حين إلى حين، ولكني كنت أتسلل كاللص، وأتخير أوقاتاً غير أوقات الزيارة المألوفة، فلا يعلم بذلك أحد، ولا يراني مخلوق، ثم كففت لأني أنكرت هذا كله من نفسي، وكبر علي أن أذهب إلى المقابر على رجلي، وقلت لنفسي: (إذا كان المراد بالزيارة الذكر، فإنها به أبداً بين العين والقلب، وإذا كان صحيحاً ما يقال من أن الميت يموت مرة أخرى كلما نسيه واحد من الأحياء، فإني لن أجني ميتة جديدة على أمي ما دمت حياً)

ولم يفتر ندمي مع ذلك، فظل دائراً في نفسي، فتشددت، وحملت نفسي على مكروهها، ومضيت إلى قبرها في ليلة سوداء - أعني مظلمة - وفتحت الباب ودخلت المقبرة وقلت (السلام عليكم) كأنما أردت أن أونس نفسي بصوتي في هذه الوحشة، فما راعني إلا صوت يقول: (وعليكم السلام! من تراك تكون؟)

فذعرت، وهممت بالجري، ولكني استحييت، فما يمكن أن يرد السلام غير حي، ولعله مسكين أوى إلى هذا المكان الموحش من الفاقة، وما أكثر من رأيتهم يفعلون ذلك! فم خوفي من رجل يقول: (وعليكم السلام)؟؟ ولو كان امرءاً سوء لاستخفى، فتشجعت وأدرت عيني في المكان فلم تأخذ شيئاً في هذا السواد، فقلت:

(من عساك تكون أنت يا صاحبي؟)

فقال الصوت: (وما سؤالك هذا؟ لن تعرفني على كل حال. فإني قديم - قديم، ولكن تعال ساعدني واحتقب شكري)

فدنوت منه - أعني من مصدر الصوت - وسألت: (على أي شيء تريد أن أساعدك؟)

قال: (على حمل هذا الحجر - فقد وهن عظمي جداً)

قلت: (ولماذا تريد أن تحمله؟ دعه حيث هو، فإنه من حجارة المقبرة وليس لأحد أن يزحزحها عن مكانها أو ينقلها)

قال: (إنك معذور)

قلت: (كيف؟ ماذا تعني؟)

قال: (هذا قبري. وهذا من سواه - عليه اسمي مكتوباً. . . تستطيع أن تقرأه إذا شئت)

فكان من دواعي عجبي بعد ذلك أني لم أذعر ولم أول هارباً، بل أقبلت عليه أسأله وأستخبره فقال: (لقد هجرنا جميعاً هذه المقبرة المهملة - لم يبق لنا فيها مقام. وكيف المقام في قبور متهدمة؟؟ لقد كانت جديدة حسنة البناء يوم جئنا، وكان أهلنا - الباقون منا على قيد الحياة - يعنون بها ويرشون أرضها بالماء ويحملون إليها الزهر والرياحين، فكان نشرها يفوح ويتضوع، فإذا جن الليل خرجنا من القبور مسرورين وأقبلنا عليها نشمها وننعم بشذاها، وكان القراء يتلون على أجداثنا القرآن فيندى على قلوبنا وترف له نفوسنا ونحس أن عظامنا قد طريت. أما الآن. . .!؟ لا يا صاحبي، لم تعد هذه المقبرة صالحة للإقامة! وقد هجرناها، وجمع كل منا كفنه وحمل من له حجر حجره، ورحلنا، وكيف كان يسعنا غير ذلك؟ إنها لم تعد جبانة. . . هذه هي مساكن الأحياء أراها من مكاني هنا. . . فهل هذه مقبرة؟ لقد زحف الناس ببنائهم وغزوا أرضنا وجاروا علينا، وجاورونا، فبالله كيف نطيق جوارهم؟ كيف نحتمل لغطهم وضجاتهم التي لا تنتهي؟ ما عسى صبرنا على حركاتهم التي لا يعقبها سكون؟؟ لكأنا ما متنا ولا استرحنا إذن!؟ وأقول لك الحق لقد بدأنا نأسف على أنّا متنا. . . لا يا صاحبي، لم تبق هذه الأرض للموتى، ولم يعد ثم مفر من الرحيل عنها. . . لقد تعبنا جداً هنا واضطررنا إلى ما لم يكن لنا في حساب. ومن لطف الله بنا أن هذه البلاد قليلة المطر، ومع ذلك كنا إذا أمطرت ينفذ إلينا الماء من سوء حال القبور، وتبتل أكفاننا فنضطر إلى الخروج وننشرها بين أيدينا أو على هذا السور حتى تجف وتعود صالحة للبس. وعلى ذكر ذلك أقول إني لا أدري ماذا جرى للدنيا؟ لقد كانت حفيدة لي مدفونة هنا، وكان عليها كفن من الحرير الغالي، فسرقه لص! تصور هذا؟ ولا أعلم هل سرقه واحد من الأحياء، أو تغفلتها ميتة أخرى وسرقته؟ فإن كان السارق من الموتى فلابد أن يكون من جيراننا فما في أسرتنا هذا السوء. وقد شكت إلي ما صارت إليه من العري، فلم أدر أول الأمر ماذا أصنع؟ وكيف أكسوها؟ وخطر لي أن أنتظر حتى يجيئنا ميت جديد، أو يموت ابنها فآخذ من كفنه لها، فإن الميت الجديد يلف في أكثر مما يحتاج إليه، ولكنه لم يمت مع الأسف، فلم أجد حيلة إلا أن أجعلها دقة بدقة، والبادئ أظلم، فذهبت أرتاد هذه الجبانة حتى رأيت كفناً من الحرير لا أشك في أنه الكفن المسروق، فجئتها بشق منه وتركت شقاً)

وضحك - أعني أنه أخرج صوتاً سألته عنه لأني حسبته كلاماً فقال إنه كان يضحك، فسرت في بدني رعدة، واستأذنته في الانصراف

فقال: (ألا تعينني؟ إن الحجر ثقيل، وأنا هرم، وقد فتر نشاطي من طول الرقاد)

فتناولت الحجر من ناحية، وتناوله من طرفه الآخر، ووضعناه معاً على ظهره، وذهب يخطو، وكانت عظامه تقرقع وهو يمشي، فلما بلغ الباب سألته:

(ألم يبق هنا أحد منكم؟)

قال: (لا. . . ماذا نصنع هنا؟ كلا ليبن فوقها الأحياء إذا شاءوا)

قلت: (وأين ذهبتم، فقد نحب أن نزوركم)

قال: (أين ذهبنا؟ وأين تنتظر أن نذهب؟ انتشرنا في فضاء الله، فإن أرضه ما زالت واسعة، ولن نعدم فيها منأى عن مساكن الأحياء. . . وعلى ذكر ذلك أسألك: ألستم تموتون في هذه الأيام؟)

قلت: (يا له من سؤال؟ كيف لا نموت؟)

قال: لماذا إذن هذا الزحف علينا كأن الدنيا تضيق بكم وكأنكم تزيدون ولا تنقصون؟ لماذا لا يكفيكم ما كان يكفينا؟ كل الجبانات المشهورة صارت أحياء عامرة بالسكان فكيف هذا؟)

فسألته: (وجلا عنها الموتى؟)

قال: (بالطبع! وهل يمكن أن يحتملوا الناس؟ إذن لماذا ماتوا؟)

قلت: (هل تفزعكم الحياة إلى هذا الحد؟)

قال: (كما يفزعكم الموت - كلا. لا يطيق الحياة من نجا منها. . . والآن عم مساء يا صاحبي! هل لك في مرافقتي؟ لا؟ لا بأس! كل شيء مرهون بوقته. . .)

فلم أطلق أكثر من ذلك، وخرجت من الجبانة أعدوا. . .

إبراهيم عبد القادر المازني