مجلة الرسالة/العدد 101/قصة المكروب

مجلة الرسالة/العدد 101/قصة المكروب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1935


15 - قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم

بستور

صلة حديثه

وصل الفائت: ذهب بستور إلى شرقي فرنسا يبحث فساد الخمور فأصلحها، ثم ذهب إلى أواسط فرنسا على نداء الخلالين واستغاثتهم فأصلح ما فسد من صناعة الخل. وما كاد يستقر في معمله بباريس حتى جاء القدر يدق بابه، جاءه أستاذه القديم (دوماس) يتطبب لدود القز المريض في جنوب فرنسا

- 6 -

فأجابه دوماس: (إن إقليم الحرير في الجنوب هو مسقط رأسي، وقد حضرت تواً من هناك. وقد رأيت، ويا هول ما رأيت! رأيت بلدي المسكين، قريتي (ألياس) المنكودة، تلك البلاد التي كانت ثرية بالأمس، زاهية بشجر التوت حتى أسموه الشجر الذهبي، تلك البلاد أصبحت عراء بلقعا، وتلك العراص الخضر أصبحت غبراء ذابلة، وأهملها وهم أهلي أصبحوا لا يجدون القوت). وكان صوت الشيخ فيه حزن وضيق حتى كاد يتندى بالدمغ

وكان بستور يقدر نفسه ويعضها فوق الرجال، وكان قليل التقدير للغير، إلا أنه حفظ في قلبه إجلالاً خاصاً لدوماس. واعتزم أن يبذل المعونة لهذا الأستاذ الشيخ الحزين. ولكن كيف؟ فبستور في هذا الوقت لم يكن يستطيع على الأرجح أن يميز دود القز من دود الأرض. بل لقد حدث بعد ذلك الوقت أنهم أعطوه شرنقة حرير فرفعها إلى أذنه وهزها وصاح: (ما هذا! كأن داخلها شيء!). جهل مطبق بالشرانق والدود

وكره بستور السفر إلى جنوب فرنسا ليفحص مرض هذا الدود، لأنه كره أن يخيب، والخيبة كانت أبغض الأشياء إلى نفسه. ولكن الجميل فيه أنه برغم كبريائه، وبرغم اعتداده المرذول بنفسه، استبقى من صباه حب الطفل واحترامه لعلمه القديم. فقال لدوماس: (أنا ذ طوع يديك، فمرني بالذي تريد، وارم بي حيث شئت من الأرض)

وحزم أدواته ومكرسكوباته، وحزم ثلاثة أعوان نشيطين من خلصائه ومريديه، وحزم كذلك أولاده، ومدام بستور - تلك المرأة الصبور التي لم تكن تشكو أبداً - وسافر بهذه الحمولة كلها إلى حيث الوباء يفتك بالملايين من دود القز، ويفقر الألوف من الخلق في جنوب فرنسا. وبلغ (ألياس) فأخذ يتعلم هناك أن دودة الحرير إن هي إلا دودة كالديدان تغزل حول نفسها ثوباً من الحرير يعرف بالشرنقة، وأنها تتحول إلى يرقة داخل الشرنقة، ثم إلى فراشة ترفض ثوبها الحريري فتخرج عنه فتتسلق الشجر وتبيض البيض، وهذا يتفقس في الربيع التالي عن جيل جديد من دود جديد. واستاء رعاة الدود من جهله الفاضح. وذكروا له أن المرض الذي يصيب دودهم يعرف بالندوة، وأنه يتراءى على الدود في صورة بقع صغيرة سوداء كالفلفل. ووجد بستور هناك مئات من النظريات تدعى كلها تفسير هذا المرض، ولم يجد من الحقائق الثابتة غير اثنتين، أولاهما تلك البقع السوداء التي تظهر بظهور المرض، وثانيتهما كريات صغيرة تتكون داخل الدودة، صغرت حتى لا ترى إلا بالمجهر

وقبل أن يستقر في مهبطه الجديد، وقبل أن تستقر أسرته في بيتها الجديد، كشف عن مجهره وأخذ يحدق في باطن هذا الدود المريض، ولا سيما في تلك الكريات، وخرج سريعاً على أن هذه الكريات عرض ثابت من أعراض الداء. وبعد خمسة عشر يوماً من حلوله بـ (ألياس) دعا إليه أعضاء اللجنة الزراعية وقال لهم: (عندما يحين أوان اللقاح، ضعوا كل أنثى وذكر وحدهما، ثم اتركوهما لينسلا وتبيض الأنثى، فإذا خرج البيض فافتحوا بطنيهما وأخرجوا من تحت الجلد شيئاً من شحمه، وانظروا إليه بالمجهر، فإذا هو خلا من تلك الكريات فاعلموا أن هذا الزوج من الدود سليم، وأن بيضه سيفرخ في الربيع المقبل دوداً سليماً

ونظر الريفيون إلي المكرسكوب وهو يلمع وقالوا: (نحن الزراع لا نعرف كيف نعالج مكنة كهذه). وكان في قلوبهم ارتياب وكان فيها قلة إيمان بهذه البدعة الجديدة، فعندئذ تراجع عنهم بستور العالم، وتقدم إليهم بستور الداهية الخبير بأهواء الرجال، فقال لهم: (حسبكم! حسبكم! واخفتوا أصواتكم حتى لا يتناقل الناس هذه الفضيحة عنكم! كيف تعجزون يا رجالاً ضخاماً عن استخدام المكرسكوب وعندي في معملي بنت لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات تعالجه في لباقة، وتكشف هذه الكريات في سهولة؟!). وقررت اللجنة شراء مكرسكوبات وانصرفوا يعملون بنصائحه

وذهب بستور يبذل من نفسه لحركة لا تعرف السكون، فطاف بالمناطق المصابة بالداء وألقي المحاضرات، ويسأل الأسئلة، ويعلم الفلاحين استخدام المجاهر. ثم يعود في رجعة الطرف إلى معمله يوجه مساعديه ويزودهم بالنصائح في تجارب لم يستطع هو أجراءها حتى ولا ملاحظتها. ثم يملي في المساء على مدام بستور أجوبة كتابات وخطباً ومقالات، ولا يطلع الصباح حتى تراه عاد إلى مناطق الوباء يروح عن الزراع البائسين، ويخطبهم ويبشر فيهم بالفرج القريب

ولكن عاد الربيع بغير الفرج والبشرى. وجاء الوقت الذي يبدأ الدود يصعد فيه إلى أفرع التوت لينسج عليها الشرانق فعجز عن الصعود. وقعت الواقعة وخابت الآمال وأنفقت الجهود في غير طائل! أنفق هؤلاء القوم الطيبون أيامهم على المكرسكوب حتى نال الكلال من عيونهم وأوجع ظهورهم، يطلبون الفراش السالم الصحيح ليخرج لهم البيض الخالي من تلك الكريات اللعينة، فلما حصلوا على هذا البيض السليم، أو الذي حسبوه سليماً، فرخ فخرج منه دود سقيم، قل نماؤه، وضعفت شهيته فقل طعامه، وذهب نشاطه، فأخذ يدور حول عيدان التوت عاجزاً عن تسلق أطرافها، زاهداً في الحياة وفي أطوارها، غير آبه لهوى الغواني الحسان في مفوفات الخز وجوارب الحرير

وا رحمتاه لبستور في تلك الخيبة! جمع المسكين كل همه لتخليص صناعة الخز مما دهاها، فسار ودار وخطب، ولم يبق لنفسه وقتاً يقبع فيه في معمله هادئاً ساكناً يتعرف كنه الداء الذي أصاب الدود. أغراء المجد فخدعه عن العلم، وأغواه الصيت فصرفه عن الحقيقة، والحقيقة لا يفوز بها إلا ساخر بالمجد، عازف عن الصيت، صبور على العمل، جلد على التجربة المسئمة الطويلة

ودفع البأس بعض أصحاب الدود إلى السخرية به والضحك منه، ودفع بعضهم إلى السخط عليه والنيل منه. واسود بياض أيامه، وطلب الخلاص في العمل فزاد انهماكاً فيه، ولكنه كان الغريق ينهمك في العوم يرجو النجاة ويبغي الساحل، ثم يقف هنيهة بعد إجهاد ليحس الأرض عله يجد قراراً فلا يجد قراراً. واختلط عليه أمر هذا الدود، فقد كان يقع أحياناً على نسائل تسرع في تسلقها عيدان التوت وتأخذ في نسج شرانق جميلة فيأخذ منها أفراداً للتشريح وينظرها تحت المجهر فيجدها مليئة بتلك الكريات التي كان يحسبها دليل الداء. وأحياناً أخرى كان يقع على نسائل أخرى من الدود سقيمة لا تكاد تهم بالصعود إلى أفرع التوت، حتى يعتريها إسهال غازي ثم تنضمر فتموت، فهذه أخذ منها أفراداً للتشريح ونظرها تحت المجهر فلم يجد فيها من تلك الكريات شيئاً. فأخذ بستور يتشكك في اعتبار هذه الكريات عرضاً من إعراض الوباء. وزاد الطين بلة والحالة سوء أن دخلت الفئران إلى دوده الذي كان يجري عليه تجاربه فاستطعمته فالتهمته، وأخذ أعوانه الثلاثة المساكين (ديكو) و (مايو) و (جرنيه) يسهرون الليل بالتناوب على حراسة الدود واصطياد الفئران. وقد يطلع الصباح فلا يكاد ينصرف كل إلى عمله، حتى تظهر السحب في الغرب قائمة، فيترك كل عمله ويهرول إلى شجر التوت يغطيه من المطر. وكنت ترى مدام بستور في أعقابهم والأطفال في أعقابها. وبستور المتعب المجهود كان لا يستقر في المساء في كرسيه الكبير المريح حتى يأخذ في إجابة رعاة الدود المناكيد الذين خسروا كل شيء باتباعهم طريقته في تصنيف البيض

ومضت أشهر طويلة ثقيلة على هذه الحال، جاءته بعدها غريزته تحضه على التجريب، والقدر يمهد له سبيل الخلاص، قال لنفسه: (أنا على الأقل نجحت في الحصول على بعض نسائل من الدود صحيحة سليمة، فإذا أنا غذيتها على ورق التوت بعد تلويثه بإفرازات الدود المريض، فهل يا ترى تموت هذه النسائل السليمة أم تمرض وتذهب؟!). وفعل هذا فماتت النسائل يقينا. ولكن غاظه أن التجربة لم تأت بكل الذي حسبه، فبدل أن يتغطى الدود بنقط كالفلفل سوداء ويموت بطيئاً في خمسة وعشرين يوماً كما يفعل الدود المريض بهذا الوباء، إذا به يتقوس وينضمر ويقضي في اثنتين وسبعين ساعة. واغتم بستور وناله اليأس فأوقف التجربة، وخاف عليه إخوانه الخلصاء مما هو فيه، وودوا لو أنه يعيد هذه التجربة مرة أخرى

(تبع)

أحمد زكي