مجلة الرسالة/العدد 101/من الأدب الإيطالي

مجلة الرسالة/العدد 101/من الأدب الإيطالي

مجلة الرسالة - العدد 101
من الأدب الإيطالي
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1935



الليالي العشر

ترجمة اليوزباشي الأديب أحمد الطاهر

2

قصة حب سيمون وأيفيجينا

قال: سمعت من القصص شيئاً كثيراً وكان أحبها إلى نفسي قصة الحب التي ستسمعون. هي قصة تريكم متا للحب من قوة وبأس بالغين الغاية في العجب، موفيين على النهاية في الغرابة

كان يسكن جزيرة قبرص في الزمن الخالي رجل عظيم القدر بين الرجال، واسع الثراء بين أصحاب المال، وكان أسمه (استيبوس)؛ غير أن الرجل لم يكن مكتمل الحظ من السعادة، فقد كان له ابن طويل القامة وسيم الطلعة، ولكنه ضعيف الإدراك سقيم الفهم مطبق الغباء. ولم يكن في وسع أبرع الأساتذة والمهذبين أن يوقظوا غفلته، أو يصقلوا طبيعته أو يهذبوا غلظته، فلم يجد الوالد بداً من أن يقصى هذا الفتى المنكود عن مرآه، ويبعده عن موطنه. فأرسله إلى منزل له في الريف يعيش فيه بين الأتباع والعبيد. ولقد كان الفتى أميل إلى طباع أولئك وأقرب: ففيه خشونتهم وجفاؤهم وغلظة طباعهم

- كان الفتى يوماً يمشي في المزرعة وقد أسند عصاه إلى كتفيه، واعتمد على طرفيها بذراعيه، فلقي فتاة بارعة الجمال مستغرقة في نوم عميق، قد اطمأنت إلى الحشائش الخضراء فراشاً وثيراً، ونام عند قدميها امرأتان وخادم. لم يكن لسيمون - وهذا أسم الفتى - عهد بوجوه النساء فاتكأ على عصاه، وحدق ببصره في وجه الفتاة، أن كانت بارعة الجمال في نومها، ساحرة الحسن في غمضها، هاج مرآها من نفسه شعوراً وإحساساً لا عهد له بهما ولا بأقل منهما، وكلما أمعن في النظر أزداد هذا الشعور وأسرف عليه هذا الأحساس، وإنهما ليغريانه بإطالة الوقوف وإمعان النظر فهو لا يريم، وينفرج جفنا الفتاة عن عينين يقرأ فيهما هذا الغبي في طلاقه وسهولة معاني الجمال، ومن معانيه الحلاوة والرفق والبشر. ثم هذا فمها الصغير ينفرج عن كلمات يدرك الفتى الأبله ما صيغت فيه من جمال في اللفظ وعذوبة في الجرس:

- (لم ترمقني هكذا؟ أرجو أن تنصرف عني. يفزعني مرآك)

- قال الفتى: (لا أتنحى، بل لا أستطيع)

ودار بينهما حوار أنتهي عند الفتى فلم يغادرها حتى أبلغها دارها.

ثم أرتد إلى أبيه وقد فهم اليوم معنى من أدق معاني الحياة. ولم يكن قبل اليوم يفهم أن للحياة معنى. قال: (يا أبتِ إنني أود أن أحيا حياة الرجل المهذب، ولقد برمت بحياة المتأبدين)

كان عجباً للوالد أن رأى أبنه يفكر ويصيب في التفكير، ويريد ويحسن الإرادة، ويتكلم ويجيد التعبير، في صوت رقيق، ولفظ رفيع

وألبسه ثياباً تليق بقدر أسرته ومكانتها وبعث به إلى المعلمين والمهذبين فقضى بينهم أربعة أعوام كان الحب فيها قوام تهذيبه وعنصره المستساغ، فما أوفى الفتى على نهاية الأعوام الأربعة حتى كان أكمل فتيان الجزيرة أدباً وأحسنهم خلقاً

وخطب الفتاة إلى أبيها وكانت تدعى (ايفيجينا) ولكن أباها أعتذر أن كانت الفتاة مخطوبة إلى الفتى (باسيمونداس) من أشرف أسر رودس وأعرقها مجداً وإنهما نجز الزفاف.

وجم الفتى وضاق الكون في عينيه، وأصرها في نفسه ليصرحن للفتاة بحبه، وليشهدنها على هذا الحب وفعله في نفسه، وليطعنها على ما خلق الحب منه من خلق جديد، وما يستشرف إليه من سعادة ترفعه إلى مقام الآلهة وعظمتهم إذا نعم منها بالزواج؛. .

(إما أن تكون الفتاة لي أو أكون من الهالكين)

وسار إلى أترابه من الفتيان الأشراف الأوفياء وائتمر معهم على أن يصنعوا سفينة قد استكملت عدتها من آلات الحرب والقتال، وتربص بها للسفينة التي تقل الفتاة إلى رودس مع زوجها باسيمونداس. فما أشرفت هذه عليها حتى رمى عليها مجذاباً ضمها إلى سفينته، وكان أول من ألقى بنفسه بين أعدائه وساقهم إلى الحرب ورداً حتى ألقوا سلاحهم واستسلموا خاضعين. قال لهم الفتى: (ما قصدت إليكم أبغي سلابكم ولكن لأنال هذه الفتاة النبيلة التي أحبها حباً لا يعادله حب ولا يتطاول إليه محب. فإن أسلمتموها إليَّ ألقيت إليكم السلم، وما لي عليكم سبيل، وإلاّ فلن تجدوا عن الهلاك محيصاً)

فتقدمت إليه الفتاة وفي مآقيها دموع. قال: (لا تبكي يا فتاتي، فلقد ساقني إليك حبي ومناك. ولن يعدل هذا الحب ما يسوقه إليك باسيمونداس من أعز ما يساق إلى الأزواج). وفصلت عن وجه الفتاة ابتسامة شقت طريقها إلى قلب الفتى من بين الدموع. وأخذ بيدها إلى سفينته واتخذ سبيله في البحر سرباً، حتى أشرف على جزيرة كريت أن كان له فيها أخوان وخلان، ولكن تنكرت له الأقدار ولم ينعم بهذا النصر طويلاً. فما أقبل الليل حتى أقبلت معه عاصفة نكباء، ترسل حسباناً من السماء، وطوحت بالسفينة بين شطى اليأس والرجاء، حتى ألقت بها في أحضان خليج صغير ينفرج عنه جزء من ساحل رودس على مرمى قوس من مستقر السفينة الرودسية، وما كادوا يستقرون حتى قدم باسيمونداس في فئة من أصحابه وفي أيديهم السلاح وهاجموا الفتى سيمون ومن معه وساقوهم أسرى إلى قاضي القضاة في رودس

وحوكم الفتى على ما أقترف فحكم عليه قاضي القضاة بالسجن خالداً فيه أبداً وقيد إلى السجن ذليلاً حسيراً

هنا فتانا تبرح به الآلام، وتمزق جلده الأغلال، وهناك باسيمونداس غارق في بحار الآمال ينعم بتحقيق المنى، ويعد العدة لزفافه إلى ايفيجينا. ولنترك الخصمين الآن، أحدهما يشقى بآلامه، والآخر ينعم بآماله

وكان لباسيمونداس أخ أصغر منه (هرمسداس) وكان يعلل النفس بالزواج من فتاة موفورة الحظ من الجمال أسمها (كسندار) أغرم بحبها وأخذت بشغاف قلبه. وكان ينازعه في الحب قاضي القضاة قضى على فتى هذه القصة يسجن أبداً. ولقد حسب الأخوان أن سينعمان بزفافهما إلى عروسيهما في ليلة واحدة، وأعد العدة في ثقة واطمئنان لهذا الغرض. ولكن قاضي القضاة لا يهدأ له بال، ولا يزال يحتال للأمر من كلُّ وجوهه وقد عقد العزم صادقاً على أن يحظى بالفتاة دون هذا الفتى (هرمسداس). ولكن كيف السبيل؟ أيختطفها؟ وهو قاضي القضاة؟ هذه عزة منصبه، وهذا شرف مكانته، يأبيان عليه هذه الفعلة النكراء، أم يقهر في نفسه سلطان الحب ويكظم الغيظ ويصبر على الكمد؟ إن سلطان الحب لقوي، وإن بأسه لشديد، وإنه لغالب، وانتهى به التفكير إلى حيث لم يعصمه الشرف المغلوب من سرف الهوى الغالب، ومضى ينفذ عزمه باختطاف الفتاة

ولم يعوزه النصراء في هذه الفعلة الهوجاء، إذ ظهر سيمون مرة أخرى على مسرح القصة. وليس أيسر على القاضي من أن يصطنعه بإخلاء سبيله وفك إساره لينال غرضه على ساعديه القويين فيختطف الفتاة، وليس أحب من ذلك إلى نفس سيمون فهو سينال حريته المسلوبة - لا شك في ذلك ولا مراء - وهو سينتقم لنفسه بنفسه من قرنه العنيد وخصمه المناجز بفجيعة أخيه في محبوبته واختطافها من بين أحضانه

وجيء إلى قاضي القضاة بسيمون وأصدقائه فوضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وزودهم بالسلاح وآلات الكفاح وأخفاهم في مسكنه حتى تحين ساعة العمل

وأقبل يوم الزفاف: زفاف باسيمونداس إلى ايفيجينا وزفاف هرمسداس إلى كاسندار وأقبلت معه ساعة الانتقام وإشباع الشهوة: انتقام سيمون من باسيمونداس خصمه ومزاحمه، وإشباع شهوة قاضي القضاة من الفتك بهرمسداس مناوئه ومناجزه

وأحكم قاضي القضاة التدبير: فقسم أعوانه إلى فئات ثلاث: فئة اتخذت سبيلها إلى الشاطئ واجتسرت البحر بسفينة، وثانية كمنت عند باسيمونداس، وثالثة كانت تحت إمرة سيمون وقاضي القضاة اندفعت إلى مقصورتي العريسيين الأخوين فقتلتهما واختطفت الفتاتين وولت بهما الفرار

وكانت الفتاتان تبكيان، ولكنه كان بكاءً لا يدل على الأسى ولا على الحسرة فعيونهما كانت تنم عن رغبة ورضى

وسار الجماعة منتصرين مهللين إلى كريت وتزوج قاضي القضاة بفتاته كاسندار، وتزوج سيمون بمحبوته ايفيجينا، وأقبل عليهم أصحابهم وأوفيائهم يهنئون

وعاد سيمون بفتاته المحبوبة إلى قبرس، وحمل قاضي القضاة فتاته إلى رودس، وعاشوا في نعيم ورخاء، حتى أدركهم الفناء

(عن الإنجليزية)

اليوزباشي أحمد الطاهر