مجلة الرسالة/العدد 1010/الإسلام في موكب الإصلاح
مجلة الرسالة/العدد 1010/الإسلام في موكب الإصلاح
توحيد الزي
للأستاذ محمد عبد الله السمان
حين وثب الجيش المصري الباسل وثبته المباركة، رجونا الله عز وجل أن يهب فقهاً في عقليته، حتى يهضم معانيهاويساير خطواتها، فتؤتي أكلها، وتقدم للوطن من ثمراتها الطيبات ما ينهض به، ويعلي كلمته، ويرفع قدره
ولقد أتاحت وثبة الجيش المباركة فرصة طيبة للإصلاح حتى يقوم على أسس ثابتة؛ ومهدت للنهضة حتى ترتكز على أصول مستقرة، وكان يحدوها الأمل في أن تجد الفقهاء من المصلحين حتى يضعوا أسس الإصلاح، والفقهاء من المشرعين حتى يضعوا أصول النهضة؛ ولكن يظهر أن الفقهاء من المصلحين يضنون بفقههم على مصر، والفقهاء من المشرعين يدخرون فقههم لبلد غير مصر، أو أن الفقهاء من المصلحين والمشرعين لم يزل اليأس الذي أورثهم إياه العهد البائد يجثم على صدورهم، فاثروا الدعة على النشاط، والانزواء على النهوض، وتركوا الميدان خاليا إلا من شراذم تتصنع الثرثرة في توافه المسائل، والجلبة في سفساف الأمور، والرغاء في كل ما من شانه أن يثير الجدل والمراء!
ولعل في مهزلة (توحيد الزي) التي تمثل اليوم المسرح دليلا على ما قدمت. فأي معنى لان يرتفع سعرها وتروج سوقها في وقت لا حاجة لنا بها، نحن في مستهل عهد جديد مشرق نريده جداً لا هزلاً، وحقاً لا عبثاً، ونرجوه مقوضا أركان العهد البائد وماحياً آثاره، ومحققاً لأمال الشعب وأماني الوطن! أي معنى لان يرتفع سعر المهزلة وتروج سوقها اليوم، وهي لا تعود على البلد بذرة واحدة من الخير؟ إنها لا تدفع جوعاً عن بطون أعياها الجوع، ولا تستر أجساداً أضناها العرى، ولا تهدئ نفوسا أثقلها الفقر، أنهكها الشقاء، أفزعها الحرمان!
البلد ما زال مسيس الحاجة إلى الانتعاش الاقتصادي حتى تهدا النفوس، والبلد في مسيس الحاجة إلى كثير من نواحي الإصلاح حتى تستقر الأوضاع، والبلد ما زال في مسيس الحاجة إلى الخطوات العمرانية حتى تستقيم الأمور، وشعب هذا البلد في شدة الحاجة إلى بعثة من جديد، وخلقه خلقاً آخر حينها يكون جديرا ببلد يبغي الإصلاح في شتى صورة، ويبغي النهضة في اكمل منازلها، ويبغي الرفعة في اسمي درجاتها، وليس البلد في حاجة إلى توحيد الزي، ومعظم الشعب يجهد في سبيل الحصول على رقعة تغطي سؤته، وتستر عورته، وتدفع عن رزايا الشتاء!
كان الأجدر بهذه الشرذمة الداعية إلى توحيدالزي أن تتجه اتجاهاً يمس الإصلاح الحقيقي في صميمه. وما اكثر نواحي الإصلاح التي يحتاجها البلد اليوم ويحن إليها ويهيم بها، حتى لا تضيع جهودها سدى، وتضيع أوقاتها في غير جدوى وتتبخر هممها في سماء النقاش الممل، والجدل المتعب. كان الأجدر بها أن تتجه نحو إصلاح القرية حتى تليق بسكن الآدميين، أو نحو إصلاح الفلاح حتى يليق بالآدمية التي أكرمها اللهتبارك وتعالى، أو نح وإصلاح العامل حتى يثمر الثمرة المرجوة في العهد الجديد، وكان الأجدر بها انه تتجه نحو إصلاح المجتمع فتهب له أوقاتها، وتجود عليه بجهودها حتى ينهض فتنهض مصر بجانبه، وحتى يسعد فيسعد الشعب في ظلاله.
لتذهب هذه الشرذمة إلى الريف لترى بأعينها من الماسي ما تشيب من اجلها النواصي، ولتذهب إلى بلد الصعيد لتقضي بنفسها على الآلام التي تحطم الأعصاب وتهز القلوب، لتذهب إلى القرى لترى كيف يعيش الفلاحون هناك في حظائر تزاحمها عليها مواشيهم، وكيف يأكلون طعاماً تزاحمهم عليه كلابهم وكيف يحيون بعد هذا حياة لا وزن لها إلا في دنيا التعامل والشقاء. . لتذهب هذه الشرذمة إلى أية جهة من هذه الجهات لتوقن بان جهادها في بدعتها هذه عبث، وبان أوقاتها في سبيلها لهو، وبان حملتها لتحقيق هدفها ضرب من ضروب التسلية التي لا تليق بهذا الفجر الجديد.
إن هذه المهزلة خلقت جواً من الجدل كنا في غنى عنه فقد ولدت (القبعة) وجعلت منها مشكلة معضلة، أثاره مواكب التزمت والجمود الراكدة التي تعودت أن تتحرك في التوافه والسفاسف، لتثبت وجودها وتأكد بقائها في مسرح الحياة. ولوإنها ثارت باسم عقليتها وأفكارها لما القينا لها بالاً ولما حسبنا لثرثرتها وضوضائها حساباً، لان ثورتها مصيرها إلى التلاشي، وثرثرتها وضوضائها مصيرها إلى التبخر، ولكنها تحرص على أن تثور باسم الإسلام وكان الإسلام آمن من كل جانب فهي تخشى عليه القبعة وعزيز في كل ناحية فهي تخاف عليه انتشارها، ولو فقهت مواكب الجمود هذه لناقشت المهزلة قبل أن تعرض بالإسلام وتزج به، وتصوره للشرذمة الداعية إلى توحيد الزي كمنهج إصلاحي، بصورة مشوهة تجعل منه عقبة في سبيل كل إصلاح. فإذاكان توحيد الزي وسيلة من وسائل الإصلاح فالإسلام يؤيده ويؤازره ويباركه ويدعو له، لان الإسلام لم يحتم على الناس زيا خاصا، ولا يتحكم في أزيائهم، بل يتركها لتطورات الزمن واختلاف البيئات فقد كان الرسول (صلوات الله عليه) يلبس القميص والجبة والقباء والحلة والبردة وما إلى ذلك وكان يلبس العمامة وتحتها القلنسوة، والقلنسوة بغير عمامة، والعمامة بغير قلنسوة، ولبس العمامة الخضراء والبيضاء والسوداء، ولبس الصوف والقطن والكتان، وكان هديه في هذا أن يلبس الإنسان ما تيسر له. .
تثور مواكب الجمود على القبعة لأنها من أزياء الكفار. . . ومن تشبه بقوم فهو منهم. . . ولا بد أنها لا تفقه أن رسول الله (ص) ارتدى (مستقة) - وهي نوع من الثياب - أهداها له ملك الروم، وانه (ص) ارتدى (القباطي) وهي نوع من الثياب أيضاً كان يصنعه أقباط مصر. فانظر كيف تؤول حديثه الشريف تأويلاً فاسداً، وتفسره تفسيراً يتفق مع جمودها وجهلها وتزمتها
والإسلام لا يعيب على المسلمين أن يتبعوا سنن من سبقهم إلى الإصلاح، ولكنه يعيب عليهم أن يقفوا إزاء الإصلاح موثوقي الأكتاف أو يقفوا في طريقة عقبة كأداء. والإسلام مرة أخرى لا يتحكم في الأزياء ولا يزج نفسه فيها، لان الأزياء مرتبطة بتطورات الزمن وأمزجة الشعوب وهو أيسر من أن يعوق تطور الزمن، أسمى من أن يحجر على أمزجة الشعوب.
وبعد. . فنحن مضطرون إلى أن نهمس في إذا ن دعاة مهزلة توحيد الزي حتى يعلموا إلى أي واد هم مسوقون. وليدركوا أن العهد الذي كان يشجع أشغال الرأي العام بسفساف الأمور قد انقرض إلى غير رجعة، وان الوعي الجديد لن يسمح بعد اليوم بان يستغل استغلالاً سيئاً يشينه ويشين البلد معه، وخير لها أن تعلو بهمتها إلى ما يفيد الوطن والمجتمع، من أن تبعثر جهودها لتتلاشى في مهب الريح؛ ومضطرون أيضاً إلى أن نهمس في إذا ن مواكب الجمود حتى تفيق من جمودها، وتعلم أن الإسلام ليس سلعة رخيصة تلقى بها في كل سوق، وليس مطية هينة تحترففوقها الدجل والشعوذة، وتصطنع الجدل والثرثرة؛ لانالإسلام اكرم على الله وعلى المسلمين من أن يكون شيئاً من هذا أو ذاك وخير للإسلام أن يرسم خطط الإصلاح، ويضع أسس النهضة، ويشرع نظم الاستقرار، من أن يزج به في توافه الأمور وصغائرها!
محمد عبد الله السمان