مجلة الرسالة/العدد 1010/في افتتاح العام الدراسي

مجلة الرسالة/العدد 1010/في افتتاح العام الدراسي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 11 - 1952



المعلم في عهد التحرير

للأستاذ محمد رجب البيومي

أشرق على مصر فجر جديديبعث الضوء والأمل، ويطرد الظلام واليأس، وقد أحس كل مصري انه بدأ يعيش لوطنه ونفسه، بعد أن كان يعيش غريباً لغيره، فأخذ يفكر في مهمته، ويبحث عن خير مصر، ويعمل على رفعتها بين الأمم بعد أن تمهدت الصعاب، واستوى السبيل الواضح أمام السائرين.

والمعلم ذو رسالة سامية في امته، فهوالذي يخط سطور المستقبل، ويبني صرح الحياة، إذ يتعهد الناشئ بالتربية والصقل والتقويم، ويبعث في رجال الغد قوة عاتية تحطم الأغلال والسدود، ويخلق فيهم يقظة واعية تتفهم الأمور وتدرك الأسباب، وقد حرص على أن يقوم بمهمته الشاقة في دأب وكفاح، دون أن تعوقه المدافع والحوائل، ليرضي ضميره المتيقظ في أحنائه، ويقضي حياته مثلوج اصدر، هانئ البال.

وقد وفق المعلمفي أداء رسالته إلى حد كبير، ففي العهد الماضي حينما كان الظلام الدامس يرين على الآفاق في كل مكان فالصحف مكمممة الافواه، لا تسطر غير ما يرضي الباطل ويغضب الحق، والألسنة المخلصة معقولة حبيسة، تحاول النطق فلا تستطيع، الأحرار في كل ناحية يلاقون من البلاء والعنت، ما يوهي العزائم ـ ويفت في الاعضاء،!! حينما كان ذلك كله، كان المعلم يجد في ميدانه متسعاً فسيحاً لإيضاح الحق وإزهاق الباطل، فهو يتحدث إلى تلاميذه كما يتحدث الوالد إلى أسرته، كاشفا ما يرتكبه الآثمون من ضروب الخيانة والرشوة والطغيان، وقد يضطر إلىالتلميح حينما يخشى المغبة المخفية، ولكنه لا يني عن أداء رسالته المخلصة لوطنه وأمته ودينه، لذلك كان التلاميذ في كل مدرسة من مدارس القطر أول من هتفوا بسقوط فاروق وهو في شوكته وسلطانه وجنده، بل انهم حاصروا وقصوره اسمعوه من السباب والتهكم ما اقض مضجعه، وشرد النوم عنعينيه، وبذلك أتيح للمعلم أن يخلق واعيا يعرف الخائن والمخلص، ويميز الطيب من الخبيث.

ولقد اجتهد النفاق الآثم في تزييف الحقائق، وتشويه الوقائع، فامتلأت الكتب المدرسية بالثناء الكاذب على الأسرة العلوية، وجعلت كل طاغية فاسق من أبنائها الفجرة ملاكاً طاهراً، يراقب ربه، ويعمل جاهداً لرفعه وطنه ودينه، وتعاونت معها الصحف والمجلات في رفعة أناس لا يستحقون غير الضعة والهوان، فكانت الجرائد اليومية تظهر مكدسة بصورهم الضخمة، ومتخمة بالأكاذيب الفاضحة تختلق اختلاقاً، عن مرؤتهم وفضائلهم في كل ذكرى تمر، أو مناسبة تحين، اجل! كانت الكتب المدرسية، والصحافة الخادعة تقوم بمجهودها الفاشل في هذا المضمار، والمعلم من وراء ذلك كله يقف بين تلاميذه ليدحض الأكاذيب المنمقة، ويميط اللثام عن الحقائق الفاضحة، حتى سطع الحق في الأذهان وضيئاً لامعاً، وعرف كل مصري تاريخ بلاده، كما كان لا كما أريد له أن يكون، وأمامك الثورة العرابية، مثال صدق لما نقول، فقد تواطأت الأقلامالآثمة، على إبراز زعيمها المجاهد في صورة المبهور الجاهل، الذي لا يقدر العواقب، ولا يتبصر الامور، واجتهدت الصحافة المتملقة في إخفاء كل مقال يكشف وجه الحق في هذه الثورة الشعبية المجيدة، فإذا حانت مناسبة ملحة للحديث عنها وجدت ضروبا بشعة من التلفيق والتضليل، ورغم ذلك كله فقد استطاع المعلم أن ينشئ أجيال متعاقبة تهيم بعرابي الخالد، وترى فيه رمز البطولة والتضحية والإيمان، وجاءت حركة الجيش المباركة فأتاحت لهذه العواطف المشبوبة نحوه أن تجد متنفساً على الأوراق ـوبين أمواج الاثير، فانطلقت الأقلام في الصحف، وانبعثت الأصوات في الإذاعة، تهتف بذكرى عرابي الخالد، وترتفع به إلى أوج البطولة والتقديس.

لقد أدى المعلم في العهد البائد المنصرم، وبقي عليه في عهد التحرير واجب شاق مرير، فهو مطالب بان ينشئ الأجيال القادمة على حب الحرية والعزة والاستقلال، ومكلف أن يحمي الأذهان الغضة مما يغيم في سمائها من الأباطيل، إذ أن حركة الجيش المباركة تصطدم في وثوبها بمن يروجون الإشاعات المغرضة، ويرجفون بالمفتريات الخادعة، فقد دأبت الرأسمالية الحاقدة على نشر السموم في كل مكان، وانحاز إليها فريق من ذوى الأغراض الخبيثة كالمحتكرين من التجار، والمطرودين عن مناصبهم اللامعة لما علق بهم من الشبه، والمآثم، وهؤلاء وأشباههم يتأوهون في مضاجعهم حسرة على ما انتهوا إليه من مذلة وهوان، ويحاولون الثار فلا يجدون غير الإشاعات والمفتريات، وان من المؤسف اللاذع انه يجدوا آذاناً تسمع، ونفوساً تصدق! ولو لم يكن ذلك: ما استطاع إقطاعي آثم في مغاغة، أن يقود شرذمة من الجهلة والرعاع، وليعلن عصيانه وطغيانه على رؤوس الأشهاد، وما اندفع عامل ابله في كفر الدوار إلى قيادة عصابة تحطم المصانع وتحرق المنسوجات، ولو عقل هؤلاء الجهلة من الطغأم لعلموا أن حركة الجيش لم تبعث من مرقدها إلا لتمهد لهم سبيل الكرامة والسعادة والثراء، ومن هنا كان واجب المعلم خطير شاقاً فهو مطالب - فوق واجبه التعليمي - بإزالة الشبه والمفتريات، ولن يقول قائل انه يتدخل بذلك في السياسة، وهي محظورة على التلاميذ، إذ أن السياسة الحزبية التي تقوم على الأشخاص وتغفل المبادئ، هي المحظورة الممنوعة، أما السياسة القومية التي تسعى لخير الوطن واستقلاله، فلن يستطيع عاقل أن يحرمها على الطلاب، ولاسيما أن كل أسرة من اسر الوطن العزيزة تبعث بأفرادها إلى المدارس والمعاهد، فإذا عرف التلميذ من معه وجه الحق فيما يدور على مسرح السياسة المصرية استطاع أن يقنع أهله وذويه بما يقوم العهد الجديد من إصلاح، فيقطع السبيل على الشائعات المغرضة ويأمن الوطن ما يهدده من الزلزلة والانشقاق.

إن دراسة الأحداث الجارية من سياسية واجتماعية، تأخذ نصيبها الأوفر من مدارس الغرب ومعاهده، ولكنها لا تجد في مصر من نظر إليها نظرة جدية، بل يكتفي في بعض المدارس المصرية، بكتابة موجز يومي لأهم الأنباء السياسية، على سبورة توضع في الفناء، واكثر المدارس لا تلتفت إلى ذلك، وتراه عبر لا يفيد التلاميذ في شيء!! وهذا خطا يجب أن يلتفت إليه فالأحداث السياسية هي التي تؤلف تاريخ الدولة، ويترتب على مستقبل البلاد، ولن تكون غير حلقات مشتبكة من سلسلة الحياة، فالمدارس حين يوجه إليها اهتمامه إنما يبصر الأذهان يمثل في الوطنمن أدوار، وقد يقول قائل أن انشغال المعلم والطالب بالأحداث الجارية في مجتمعه يحول دون أداء الرسالة الثقافية التي تضطلع بها المدرسة، إذ أنها ستزاحم المواد الأخرى من رياضة وعلوم ولغات، وقد تكون سبباً فعالاً في هبوط المستوى العلمي هبوطاً لا تحمد عقباه، ونحن نقول أن دراسة الأحداث الجارية في الدولة، والعالم أيضاً، لا يكون بتخصيص أوقات خاصة تقتطع اقتطاعاً، من اليوم المدرسي للتلميذ، ولكن مدرسي المواد العلمية يقومون بهذا الواجب في دروسهم المختلفة دون أن يشعر التلاميذ انهم قد انتقلوا من موضوع لموضوع؛ فمدرسالتعبير مثلا يستطيع أن يجعل مواضيعه الإنشائية تدور حول الاصطلاحات الهامة التي تشغل الاذهان، كتحديد الملكية الزراعية، ومحاربة الغلاء الصحراء، وتأميم الطب، وتشجيع الإنتاج القومي، وإلغاء الرتب والألقاب، وعلى المعلم أن يفسح لتلاميذه مجال النقاش بالحصة الشفوية في جو من الحرية والاخلاص، كما يستطيع أن يعقب على كل رأي بما يعن له من توجيه وتصحيح، وبدراسة هذه الموضوعات الهامة يلم الطلاب بمشاكل مجتمعهم وأحداثه الهامة، ويتقبلون ما يدور من الإصلاح بنفس راضية، وصدر منشرح، بل يصبحون من دعائه وحملة لوائه في كل مكان.

وقد كنا في العهد البائد ندرس التربية الوطنية دراسة مضحكة فنكتفي بالمذكرات الموجزة عن البرلمان والدستور والملك ومجالس القرى والمديريات، تاركين للطلاب أن يستظهروا ما يدونونه من القشور الجافة دون أن يتشبعوا بالروح الديمقراطية الصحيحة التي يجب أن تغمر البلاد، وكان من المؤسف أن يحفظ الطلاب فيما يحفظون أن الأمة مصدر السلطات، ويرون بعد ذلكما نعرفه من تزييف الانتخابات وتمزيق الدستور، والعبث بالحريات، كان ذلك في العهد البائد لن يكون في عهد سطعت فيه أضواء الحرية، وعرف كل مواطن حقوقه وواجباته، واصبح المعلم ملزما بدراسة التربية الوطنية تخلق النفوس، وتعرض الواجبات، وتقدس الحرية والعدل والمسأواة، وتجعل كل تلميذ يشعر بكرامته الإنسانية، وينشد وطنه الحرية والاستقلال.

لقد لاحظ بعض الباحثين ما يشيع لدى شبابنا المثقف من جهل بالأحداث الجارية، خارجية وداخلية، حتى أصبحنا نواجه مشكلة دقيقة، اصطلح الكتاب على تسميتها بمشكلة (أمية المتعلمين) فأنت ترى الشاب الجامعي يحمل مؤهلاً عالياً، فتظنوه يلم بما يلم به المثقف عادة من حوادث العالم وشؤونه في وقت كثرتفيه الصحف وتنوعت الإذاعات، ولكنك تناقشه في أمر ذائع فلا تظفر بشيء مما فطن، فترجع باللائمة على الدراسة الجافة التي عكف عليها في مدرسته وجامعته، ونحن لا نريد أن نستمر على هذا النهج المعوج فننشئ شباباً غلف العقول والقلوب، بل لا بد أن نعيد دراسة المنهاج من جديد، فنظم إلى كل مادة ما يخلع عليها الجدة والطرفة ويجري في شرايينها دماء الحياة، نريد أن نبتعد عن التوافه الحقيرة التي لا تفيد الطالب في شيء غير ازدحام الذاكرة بكل مشوه بال، نريد أن نبعد عن التاريخ أرقام الميلاد والوفاة لبعض اللامعات من السلاطين والوزراء، نريد أن ندرس الوثبات الاجتماعية والسياسية للشعوب ونغفل ما كل الملوك، وهدايا الأفراد، وتحف الخلفاء، نريد أن تبتعد عن الشكلية الضيقة في تدريس الجغرافية التقليدية، فلا نقف بها عند الحاصلات والمناخ والتضاريس، بل ننتهز ما يجد من الأحداث الخارجة، فنكشف عن أسبابها ثم نتطرق إلى الدولة التي كانت مسرحا لهذه الحوادث، فنتحدث عن مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي ذلك من التشويق ما يبعث الرغبة ويولد الاهتمام، ولن يقف المنهج الرسمي عقبة معترضة، إذ لا يتعذر على الوزارة إيجاد منهج مرن يدرس الدول الهامة ذوات السيطرة والتأثير في شتى البقاع.

إن المعلم يستقبل مع تلميذه عهداً نظيفاً طاهراً، ترفرف عليه ألوية الحرية والعدالة والمساواة، فعليه أن يبذل جهده الجهيد في إنارة الأذهان، وتقويم النفوس، والتشبع بمبادئ الأخلاق، وبذلك يخلع عن وطنه نير العبودية والهون، ويحقق رسالة مصر الخالدة في موكب الحضارة والعمران.

(أبو تيج)

محمود رحب البيومي