مجلة الرسالة/العدد 1012/علي هامش الدفاع عن الشرق الأوسط

مجلة الرسالة/العدد 1012/علي هامش الدفاع عن الشرق الأوسط

مجلة الرسالة - العدد 1012
علي هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1952



للدكتور عمر حليق

جوهر السلوك الاقتصادي في أمريكا

عندما ألمت بالعالم أزمة سنة 1929 وما بعد، وعانى العالم من شرها ما عانى، كانت نفسية الشعب الأمريكي ودوافعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية غير مهيأة لقبول هذه الصدمة العنيفة. وكتب الأدب والاجتماعوإحصاءات الاقتصاد وصحف التاريخ مليئة بأوصاف الهزة العنيفة التي أصابت المجتمع الأمريكي من جراء هذه الأزمة العالمية الخانقة.

وهيأت الأقدار للولايات المتحدة الأمريكية - رجلان: زجل يفكر وآخر ينفذ، وانطوى تحت لوائها المتطوعون من الاقتصاديين ورجال الأعمال والكتاب والمثقفون والجهلة - والمجتمع الأمريكي بأسره. ورغم أن أزمة سنة 1929 وما بعد زعزعت كيان الاقتصادي الأمريكي زعزعة عنيفة؛ إلا أنها لم تقوضه، يولي الكثير من المراقبين تلك الفترة والمعقبين عليها الفضل للمستر فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وللبروفيسور جون مينارد كينز الاقتصادي البريطاني الذي استوحى روزفلت من نظرياته الاقتصادية برنامج (العهد الجديد) الذي طبقه روزفلت على الاقتصاد الأمريكي القومي في سنوات 1929 - 1940 والذي هو اليوم الدستور السياسة الاقتصادية للشعب وللحكومة لأمريكية والمجال هنا لا يسمح بالانزلاق إلى بحث النظريات الاقتصادية، ولكن وصفا قصيرا لعقلية (كينز) تلقي ضوءاً نافعاً على فلسفته الاقتصادية وعلى جوهر السلوك لاقتصادي للحكومة وللاقتصاد القومي في الولايات المتحدة الأمريكية.

قال مترجم حديث لهذا الاقتصادي الشهير (إن كينز لا يرى الأمور في حالها الراهنة، وكان همه أن يثبت الفكرة التي يحملها لتخدم هذه الحالة الراهنة ولا يجد ضراً في أن ينفى ما أثبته في حالة سابقة أو أن ينشط غداً لينفى ما أثبته اليوم. وكان يستجمع الجهد والنشاط والمنطق والدهاء والحصافة ليثبت فكرته عن الحالة الراهنة، وأن يعتبر الماضي والمستقبل تواقة لا قيمة لها، ومن ثم فإن أفكاره عن الحقائق والأوضاع كانت وليدة الساعة وعلى ذلك فإنها - أي الأفكار - في تطور مستمر لا يتقيد بالأمس ولا يعبأ بالمستقب البعيد.

ويخيل إلى هذا الوصف لشخصية البر فسور كينز البريطاني وصف واقعي مطبق للعقلية الأمريكية في نشاطها الاقتصادي والسياسي وكذلك. فلا غرابة أن تتصل أسباب التلمذة العقلية والتعاون العلمي بين رئيس الجمهورية الولايات المتحدة فراكلين روزفلت وبين هذا العالم (الاقتصادي البريطاني).

شغل كينز في أعقاب الحرب العالمية الأولى بمعالجة المشاكل الاقتصادية الناتجة عن هزيمة ألمانيا القيصرية، وطال تفكيره وتدريسه لفنون الاقتصادي النظري والتطبيقي، وخرج بنتيجة مستحدثة فحواها أن شر المساوئ الاقتصادية هو في خط النظام النقي المعمول به في العالم المتمدن؛ أو على الأقل في الدول التجارية والصناعية الكبرى صاحبة القول الفصل في تسيار الاقتصاد العالمي.

كان ذلك في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة وبريطانيا موطن كينز تعاني أزمة بطالة وضائقة اقتصادية لعينة. ووجد كينز أن تقيد النقد المتبادل، أي الجنيه الإسترليني في بريطانيا وأنواع العملة الأخرى في بقية أقطار العالم - تقيد النقد بأسعار الذهب شيء يخنق التجارة الدولية ويزيد من ضائقة العالم الاقتصادي.

لم يقل كينز بالقضاء على معدن الذهب كأساس للنقد الرصين، بل انه دعا إلى تحرير النقد من استعباد معدن الذهب وجعل الذهب ملكا دستوريا للعملة الصعبة - كملك بريطانيا سلطته صورية اكثر منها فعلية.

وقال (كينز) إن الذهب معدن واحد من المعدن الثمينة وصنف واحد من أصناف الإنتاج الثمين؛ فهنالك مواد اثمن منه في خدمة الناس والتجارة الدولية، وإن من الجنون أن نربط أسعار كل شيء بسعر معدن الذهب - وهو معدن إنتاجه محدود والحصول عيه صعب شاق، وإن من غير الأنصاف أن نقيد النشاط الاقتصادي لشعب ماله إمكانيات واسعة في كثير من المواد الصالحة والإنتاج النافع لمجرد أن هذا الشعب لا يملك حصة وافية من معدن الذهب، فهذا التقيد مسؤول عن انتشار البطالة وانقطاع رزق الناس وتفشي الفوضى الاقتصادية بين الشعوب التي لا يتوفر لها معدن لذهب؛ بينما يتوفر لها إنتاج اقتصادي قيمته الفعلية تعادل قيمة الذهب إن لم تفقه.

وبمثل هذا المنطق نشر (كينز) هجومه على معدن الذهب كأساس للنقد الثابت الرصين، متهماً إياه بأنه (من مخلفات العهود الإقطاعية المتوحشة) ودهش الناس لآراء هذا العالم الشهير! وكانوا بين شاك في اتزانه العقلي وبين ومنتظر لميلاد فلسفة عملية جديدة للسياسة النقدية.

ثم سرعان ما نشر كينز في سنة 1930 تفاصيل مشروعه لاستبدال معدن الذهب بشيء آخر يصون النقد ويثبته على أساس محترم مضمون، وشرح هذه الفكرة الجديدة في (بحث عن المال) في أهم الكتب في علم الاقتصاد الحديث.

وفي نهاية استعراض دقيق ممتع عن النقد والشؤون المالية - والحديث عن المال ممتع في جميع المناسبات - اقترح (كينز) إنشاء سلطة نقدية دولية تتحكم في تقدير أسعار الذهب بحيث لا يصبح هذا المعدن الأصفر متحكماً في رقاب النقد المحلي لكل دولة ولكل شعب، واقترح صاحبنا أن تقوم هذا السلطة الدولية التي تضم جميع الدول الراغبة في الانضمام بتنسيق أسعار العملة لكل دولة، وتحديد أسعار المواد الأولية وما إلى ذلك من اوجه الشؤون المالية التي يهم بها أهل الاختصاص.

وأشار كينز كذلك أن يكون من ابرز (أهداف سلطة النقد الدولية) بعد تنسيق أسعار النقد في كل دولة تشجيع استثمار الأموال الحكومية والخاصة في داخل البلد وفي البلدان الخارجية ضمن ترتيبات وإجراءات معينة تحددها سلطة النقد الدولية هذه بالتشاور مع الدول والهيئات المعنية بالأمر.

وأخذت بريطانيا بمشورة كينز فتخلت في سنة 1931 عن اعتبار القيمة التقليدية لمعدن الذهب أساساً للجنيه الإسترليني.

ثم أغرم رئيس الجمهورية الأمريكية فرانكلين روزفلت في ذلك الحين بآراء كينز واقتبس منها جزءاً كبيراً وطبعه على سياسة أمريكا المالية في داخل الولايات وفي خارجها.

وفي كلتا الحالتين - في بريطانيا وأمريكا - كانت مشورة كينز وآراءه عاملاً قوياً في الإفراج عن ضائقات البلدين في الشؤون المالية والاقتصادية أجمالاً.

وجدير بنا أن نستذكر بأن عقلية (كينز) كما وصفها كاتب سيرته وسجلناها في مستهل هذا الفصل - هذه العقلية كان همها معالجة حالة راهنة غير مقيدة بأحداث الأمس ولا مترقبة خفايا الغد.

وهنا سر إغرام الأمريكان بنظريات (كينز) وعودتهم إليها بين آونة وأخرى كلما استعصى عليهم أشكال عاجل بينما تعمد البريطانيون - أهل كينز ومواطنوه - تجاهل جزء كبير من مشورته ونظرياته. فالعقلية البريطانية تحتسب الأمور ولا ترى في الحالة الراهنة كل شيء! بينما يميل الأمريكان إلى معالجة مشاكل الساعة بالمسكنات وحبات الأسبرين والأقراص الكيماوية المنومة.

وتطورت فكرة (كينز) عن النقد فأصبحت برنامجاً تطبيقياً عملياً. فقد شغل هذا العالم في سنوات الحرب باستثناء المشاكل الاقتصادية والنقدية العويصة التي تأتى عادة في أعقاب الحروب، وخرج من تحليله لمستقبل الاقتصاد العالمي ببرنامج (لاتحاد دولي للقضية النقدية) على أساس عالمي. ونشر هذا البرنامج في عام 1943 عندما كانت رحى الحرب لا زالت دائرة. وهدف هذا البرنامج تنسيق المعاملات النقدية على أساس عزم الدول جميعها على ضمانة هذا التنسيق ضمانة رسمية، وأن تقوم هذه الدول في نفس الوقت على توسيع تبادلها ونشاطها الاقتصادي والتجاري على أفسح مجال ممكن. فهذه الضمنة النقدية وهذا التوسيع الاقتصادي سيجعل نقد الدولة مستندا إلى نشاطها التجاري والاقتصادي لا إلى سعر الذهب فحسب.

واقترح (كينز) في برنامجه عن (الاتحاد الدولي للتصفية النقدية) أن يقوم الاتحاد بجمع اكبر عدد ممكن من الضمانات النقدية للدول الأعضاء، وأن يوضع هذا المبلغ المجموع تحت تصرف الدول الأعضاء تقترض منه إذا شاءت بقدر ما يراه الاتحاد ضرورياً لها وبنسبة متمشية مع حصة الدولة في ميزانية الاتحاد، على أن يقوم الاتحاد باتباع سياسة سمحة تعين الدول في الحصول على النقد العزيز حتى لو كان الميزان التجاري لهذه الدولة تعترضه بعض النكبات.

واقترح على الاتحاد كذلك أن يشجع الاستدانة والإقراض بين الدول الأعضاء على أساس المسؤولية الحكومية المتبادلة. أما تحديد أسعار النقد لأي دولة فأمر لا لزوم له في برنامج هذا الاتحاد، ويترك أمر هذا التحديد للتطورات ولمدى النشاط الاقتصادي في تلك الدولة على أن يكون ذلك خاضعا لرقابة دولية نزيهة.

ووافقت بريطانيا فوراً على هذا البرنامج. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية تقاعست أول الأمر عن قبوله بحذافيره، وادعى الأمريكان أن هذا البرنامج يفرض على أمريكا دفع اكبر حصة من ميزانية الاتحاد، فالحصص في الاتحاد تتناسب مع سعة النشاط الاقتصادي في الدول المشتركة فيه. ولما كانت أمريكا أعظم بلدان العالم نشطاً في المجال الاقتصادي فأن حصتها في الدفع لميزانية الاتحاد ستكون اكبر حصة. ورأى الأمريكان فضلاً عن ذلك أن اشتراك جميع الدول في هذا الاتحاد ودفعهم نقدا محلياً (دعائمه غير ثابتة في كثير من الدول) ثم تخويلهم سحب القروض من الاتحاد بالعملة التي يشاؤونها (ومعظمهم راغب في اقتراض الدولارات الأمريكية) - هذا التخويل يشجع الدول الهزيلة الكسولة في النشاط الاقتصادي على الاقتراض في غير وعي وحساب، ويكون ذلك الاقتراض على حساب الدول الصناعية الفنية الكبرى وفي طليعتها أمريكا.

ولم يرفض الأمريكان فكرة (الاتحاد الدولي للتصفية النقدية) وإنما اقترحوا تعديلات جوهرية عليها. وفي مؤتمر (بريتون وودز) الذي عقد في الولايات المتحدة الأمريكية في عقاب الحرب العالمية الأخيرة مباشرة اقنع الأمريكان المستر (كينز) (الذي من ابرز المشرفين على هذا المؤتمر) بتعديلاتهم - أقنعهم كينز ببعض نظرياته التي كانت موضوع جدل، ونجح الأمريكان في ذلك المؤتمر بتقييد عملية الاستدانة والإقراض للدول الأعضاء التي تنضم إلى الاتحاد النقدي الدولي. وغضب (كينز) لهذه القيود الشديدة التي وضعها الأمريكان على برنامجهم العالمي ولكنه رضى بها وكان من نتائج هذا الرضى أن استطاعت (بريطانيا التي كان المستر كينز يمثلها في مؤتمر بريتون وودز) في الحصول على أول قرض وهبات سخية من الدولارات الأمريكية.

وذهب الأمريكان إلى ابعد من ذلك، فلما تبلورت فكرة الاتحاد الدولي للتصفية النقدية في مؤتمر (بريتون وودز) (وتأسس صندوق النقد الدولي التابع لهيئة الأمم المتحدة) بعد المؤتمر بقليل أصرت الحكومة الأمريكية أن يكون لها إدارة هذا الصندوق مع أنه اصبح وكالة فنية خاصة تابعة لهيئة الأمم. وعارض (كينز) في ذلك وقال بما أن للأمريكان تحفظات شديدة في هذا البرنامج فإن إدارتهم لصندوق النقد الدولي (الذي وكل بتنفيذ البرنامج) ستؤثر تأثيراً شديداً في مستقبل الفائدة المطلوبة من هذا الصندوق الدولي. ولكن الحكومة الأمريكية أصرت على أنها إذا كانت ستدفع اكبر حصة في هذا الصندوق فأن من حقها أن تفرض النغم الذي يطيب لها عزفه.

وانزعج كينز من هذا ووجد في إصرار الأمريكان على إدارة هذا الصندوق الهام رغبة الحكومة الأمريكية في أن تفرض رقابة شديدة على الأوضاع النقدية في جميع الدول الأعضاء.

وسلم (كينز) للأمريكان واكتفى بتحذير المسؤولين عن وخيم العواقب، ثم عكف عن التأمل في وضعية العالم الاقتصادية في عالم ما بعد الحرب ونشر ذلك في سفر اقتصادي نفيس هي آراؤه العلمية.

وخرج كينز من تأمله العميق وخبرته العملية والتطبيقية الواسع بنتائج اقتصادية عظيمة الخطورة في التعرف عليها اليوم لبعض دقائق السلوك الاقتصادي (والسياسي) للأمريكان حكومة وشعباً.

وكان هم (كينز) أن يضع العلاج للمساوئ التي تكتنف الاقتصاد الحر الذي تعيش عليه الدول الاقتصادية الكبرى في أمريكا الشمالية وبريطانيا، وأن يثبت بأن تنبؤات كارل ماركس الشيوعي عن إفلاس النظم الرأسمالية هي تنبؤات خاطئة لو تيسر لهذا الاقتصاد الحر أن يتبع أساليب مستحدثة في نشاطه الاقتصادي وسياسته المالية والتجارية.

وقد وجد كينز أن عهد الاستعمار المباشر قد انتهى وأن السياسة الاقتصادية الصائبة تقتضي جعل حرية التبادل النقدي أساسا للرخاء الاقتصادي بدل أن تكون السيطرة الاستعمارية على الأسواق التجارية هي عماد الرخاء في البلدان الصناعية الكبرى كأمريكا وبريطانيا، فحرية التبادل النقدي كفيلة بأن تضمن استقرار للأوضاع الاقتصادية وإصلاحا للمساوئ السياسية والاجتماعية التي ترافقها.

وكان الفكر الاقتصادي والتقليدي المعمول به في بريطانيا وأمريكا يؤكد بأن النظام الرأسمالي كفيل بأن يصون نفسه إذا استطاع أن يحقق العمالة الكاملة. فإذا توفر العمل لجميع الأيدي العاملة تولدت حلقة اقتصادية سليمة. فالعمل المستمر يحقق دخلاً مستمراً للناس ويزيد الإنتاج ويتوفر الدخل يزداد الاستهلاك المنتجات، أما استقرار أجور الأيدي العالمة وأسعار المنتجات المستهلكة فسيتوقف على طبيعة المنافسة الحرة في الاقتصاد الحر وعلى مدى إدراك الناس لفضائل الادخار والاستثمار والإقبال على رفع مستوى معيشتهم وترك النقد المتداول جاريا مجرة سليم.

وتعمق كينز في هذه النظرية الاقتصادية القويمة على ضوء الأضرار الواسعة التي جلبتها الحرب على اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى وعلى مصانعها وموارد إنتاجها، وعلى ضوء التقلبات السياسية والاجتماعية التي ألمت بجزء واسع من آسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا (إلى حد ما) وهو جزء كان فيما مضى أجزاء من إمبراطوريات استعمارية واسعة. وخرج كينز بعد هذا التعمق بنتيجة مخالفة لهذه النظرية الاقتصادية القديمة فوجد:

أن العمالة الكاملة ليست أساس كل شيء، ففي استطاعة الدول أن تعيش على اقتصاد سليم إذا توفر فيها الاتزان - عمالة معتدلة لا هي بالكاملة ولا هي بطالة متفشية.

يجب على الدول الصناعية الكبرى التي تعيش على الاقتصاد الحر أن تدرك من أن النكسات الاقتصادية الخطيرة التي تصيبها بين آن وآخر - ليست عوارض تأتى وتزول - بل إن من الممكن لهذه النكسات أن تتطور فتولد إفلاساً تاماً لهذه الدول.

ويهمنا هنا أن نتعرف على موقف الأمريكان من نظرية (كينز) الجديدة؛ فقد استمر (كينز) يدخل تعديلات وإصلاحات على نظريته مما لا مجال لذكره هنا، وكان لا يجبن عن أن يناقض نفسه في رأي كان قد قرره سابقاً ثم وجد أنه مخالف لحقائق اكتشفها الآن. فهذه المرونة وجدت قبولاً حسنا لدى العقلية الأمريكية التي وجدناها طلقة لا تتقيد بحدث مضى ولا تترقب خفايا الغد البعيد.

فقد وجد الأمريكان أن كينز يعطي أهمية فائقة للاستهلاك الفعال في النشاط الاقتصادي. فقال إن علة القلق الاقتصادي الذي يعتري النظم الرأسمالية هو في الاستعمال الخاطئ للدخل والدخل على أنواع: دخل ينفق ودخل يدخر ودخل يستثمر في المشاريع المربحة. وأمر كينز ضرورة الاهتمام الرئيسي بالنوعين الأخيرين من أنواع الدخل وهما الدخل المدخر والدخل المستثمر في المشاريع المربحة. وقال إن ثروة الشعوب لا تقدر بكمية ما تملكه من مال مدخر بل بكمية الاستهلاك الفعال المستمر الناتج عن سياسة الاستثمار النافع الواسع النطاق.

وحذر كينز الدول الرأسمالية الكبرى بأنها يجب أن تتبع النصائح التالية إذا شاءت لنفسها البقاء عزيزة سالمة.

(1) يجب أن تسرع في تنفيذ الأساليب المستحدثة على ضوء التطورات الاقتصادية والسياسية الجديدة وألا فإن على النظام الرأسمالي السلام.

(2) إذا ظل الدخل قاصراً عن استهلاك المنتجات التي تنتجها الصناعة والزراعة وسائر ألوان النشاط الاقتصادي فإن عجل الحياة الاقتصادية ستتوقف؛ فالدول الصناعية الكبرى بما لها من تفوق واستعداد فني حديث ستظل تنتج إنتاجاً هائلاً قد لا يوقى استهلاكه الشعبي في تلك الدول بسبب التفاوت بين مبلغ الدخل الفردي وبين كمية الإنتاج الهائلة وبسبب اكتفاء الناس بحاجات معينة تجعل لاستهلاك الفرد حداً لا مزيد عليه. ولك تتفادى الدول الصناعية الكبرى وقوف عجلة الحياة الاقتصادية فإن عليها أن تشجع سياسة الاستثمار - استثمار الأموال المدخرة للفرد وللمؤسسات المالية والصناعية - فهذا الاستثمار سيزيد من الدخل الفردي والدخل القومي ويشجع بالتالي على زيادة الاستهلاك ويوفر لعجلة الحياة الاقتصادية (الصناعية والزراعية) أن تتابع سيرها في أمن وسلامة.

وللاستثمار أوجه عديدة: منها استثمار محلي نافع خصوصا في الدول التي لها إمكانيات واسعة في الموارد الطبيعية والصناعية كأمريكا مثلاً، واستثمار في المشاريع المربحة في البلدان الخارجية.

(وجدير بالذكر أن الاقتصاد المنظم في الدول الشيوعية والاشتراكية إلى حد ما؛ يفرض على عجلة الاقتصاد خطوط السير ويحاول أن يقيد الإنتاج الصناعي والزراعي بحيث يعادل الإنتاج مع مقدرة الناس على الاستهلاك والشراء. وهذا التقييد يكون عادة على حساب حرية النشاط الاقتصادي ويأتي عن طريق مركزية حكومية صارمة تضع للنشاط الاقتصادي برامج لخمس أو لعشر سنوات أو لأكثر من ذلك أو اقل).

ولما كان النظام الاقتصادي الحر في الولايات المتحدة الأمريكية ينفر من المركزية الحكومية في التقييد والتوجيه الصارم؛ لذلك ولما كان شبح أزمة 1929 الاقتصادي يتراءى للأمريكان من بعيد في عالم ما بعد الحرب العالمية الأخيرة، وجدت نظرية الاستثمار - استثمار الأموال المدخرة أو الأموال الفائضة - التي جاء بها كينز - مكاناً عزيزاً في تفكير الأمريكان حكومة وشعبا.

وعلى ضوء هذه الحقائق يجدر بنا أن ننظر إلى (مشروع مارشال) وما استتبعه من خطوات أمريكية أخرى (كمشروع النقطة الرابعة) (ومشروع الضمان المتبادل) وبقية النواحي في سياسة أمريكا الخارجية في مجالها الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري - بما فيها الدفاع عن الشرق الأوسط.

وقبل أن نستعرض ذلك دعنا نتعرف على أهمية العنصر الأيديولوجي على المبادئ والعقائد والأسس العاطفية التي تكمن وراء فكرة الدفاع المشترك التي يبشر بها الأمريكان.

نيويورك

للكلام بقية

عمر حليق