مجلة الرسالة/العدد 1014/ تركيا
مجلة الرسالة/العدد 1014/ تركيا
4 - تركيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
طاغية
وعدت القراء في نهاية المقال السابق أن أحدثهم عن الحركة المجيدة التي أنقذت تركيا من الحرج الذي كانت فيه 1920 ومن الأزمات والنكبات التي حلت بها في ذلك التاريخ، ولكني أرى لزاما على أن أشير إلى العوامل الداخلية التي كانت سبب تلك الكوارث بعد أن تحدثت عن أسبابها الخارجية، وبذلك نضع أمام القراء صورة انحلال تركيا الداخلية والخارجية ثم بعد ذلك نتحدث عن الحركة الكمالية أو حركة الإنقاذ.
كانت أوربا تتحدث جميعا منذ القرن الثامن عشر عن قرب انحلال تركيا، وأكثر من هذا قامت بعض الدول بمفاوضات بقصد تقسيم تركة تركيا. والواقع أن ضعف تركيا كان يرجع إلى عوامل متعددة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي.
ولعل من أهم العوامل الداخلية كثرة الشعوب والأجناس التي كانت تركيا تحكمها، فقد كانت تحكم إمبراطورية واسعة يسكنها البلغاريون واليونانيون والصربيون والجبليون والرومانيون والسوريون والعراقيون والمصريون والعرب والمغاربة وغيرهم، وكانت هذه الشعوب تختلف في الجنس واللغة والدين والعادات والتقاليد، وتختلف أيضاً عن الدولة الحاكمة في تلك النواحي الأمر وذلك ما جعل الإمبراطورية العثمانية معرضة للانحلال بمجرد ضعفها.
وكان أهم أسباب ضعف تركيا فساد الحكم التركي في تركيا ذاتها وفي أملاكها، فقد كان الخليفة أو السلطان رأس الدولة موطن الفساد والانحلال وسبب السوء والضعف.
صحيح أن بعض المحاولات للإصلاح قد قامت فعلا ولكنها فشلت. . أولا لأن الدولة كانت حريصة على أن تظل تركيا ضعيفة منحلة تستطيع الدول أن تقتطع لنفسها من أملاكها ما تشاء حين تحين الظروف أو تواتي المناسبات. وثانيا لأن العقلية الرجعية كانت تسيطر على الخلفاء والأتراك وحاشيتهم ووزرائهم مما جعل هذه الحركات الإصلاحية عديمة القيمة.
وتناهت الأمور إلى السلطان عبد الحميد 1876 الذي تولى العرش على أكتاف الأح من أبناء حزب تركيا الفتاة الذي كان يتزعمه مدحت (باشا) وقد كانت الحياة النيابية أهم أماني مدحت الذي كان يرى أن الحياة الدستورية الصحيحة هي السبيل الوحيد لإنقاذ تركيا.
وقد كانت تركيا إذ ذاك في موقف لا تحسد عليه، فالشعوب البلقانية ثائرة والدول تتدخل لإنهاء الموقف فوجد لسلطان عبد الحميد خير وسيلة للخروج من هذا المأزق هي إصدار الدستور فهو كفيل بإسكات الأحرار من الأتراك والثوار من رعاياهم؛ بل أكثر من هذا أنه سيقضي على محاولات الدول للتدخل في شؤون تركيا.
أصدر عبد الحميد الدستور 1877 ولكنه كان غير مؤمن به ولذلك لم يلبث طويا أن قضى عليه فحل البرلمان ونفى مدحت (ذلك المجرم الذي أحتل الناس وساقهم في طريق الغواية) وشتت أنصاره وأتباعه وأصبحت تركيا سجنا للأحرار من الرجال.
وأقام عبد الحميد من نفسه طاغية جبارا يتحكم في الرقاب وينشر الظلم والذل والاستعباد وملأ الحكومة برجال لا أخلاق لهم ولا مبدأ ولا عهد ولا دين، غايتهم الوحيدة الإثراء وجمع المال بأي طريق (هذا هو العهد الذي كان فيه المال والثروة غرض الحياة الأعلى، وما كان ذلك الغرض يستدعي سوى أن يتبرأ الإنسان من قومه ويتجرد من شخصيته ويضحي ابنه وأمه وأخته وأصحابه وذمته وكل العواطف الوطنية والمبادئ البشرية).
وحتى لا تتسرب بذور الحرية إلى تركيا منع عبد الحميد الأتراك من السفر إلى الخارج وشدد الرقابة على الصحف والكتب ومنع الصحف التي تصدر في أوربا من دخول تركيا؛ وانتشرت الجواسيس وراقبوا الناس وانتهكوا حرمة المنازل وعاش الأتراك تحت نير هذا العسف ثلاثين عاما.
ومنع الأئمة والخطباء في المساجد من ذكر الأحاديث أو الآيات التي تحط من قدر الطغاة والتي تذكر الظالمين بسوء العاقبة، وكان حديث الجمعة الثابت (إن الله جميل يحب الجمال) أما الأحاديث التي تشير إلى العدل أو تذكر الوالي بمسئوليته نحو رعيته فكانت ممنوعة منعا باتا.
وكشأن الملوك الطغاة المفسدين كان قصر عبد الحميد يعج بالنساء والجواري. ويذكر المؤرخون الأجانب أن عبد الحميد حين ولي العرش وعد بأن يقضي على تقاليد الخلفاء الذميمة ومنها الإكثار من النساء في قصورهم كما وعد بأنه سيقتصر على زوجة واحدة ولكن لم يمض عام واحد حتى كان عدد الحريم بالقصر السلطاني قد بلغ تسعمائة!
ومدحت (باشا) زعيم الأحرار نفي إلى الطائف حيث قضى بقية حياته على الفجل والماء! إلى أن مات شهيدا في سبيل الحرية.
وكان الطاغية ضعيفا أمام الأجانب وللوقوف في وجههم عمد إلى إذكاء روح الجامعة الإسلامية وكان يهدد الأجانب بمحاولة إثارة المسلمين ضدهم وكان التهديد سلاحه الأول والتسليم سلاحه الأخير.
ثورة يوليو 1908
حين عطل عبد الحميد الدستور 1878 ونكل بالأحرار هاجر كثيرون منهم إلى الخرج. وفي 1891 اجتمعوا في جنيف وأسسوا جمعية الاتحاد والترقي وظل هؤلاء الأحرار يعملون على قلب حكومة لطاغية التي أنزلت بالبلاد المصائب وذاقت على يد الأجانب الذل والهوان.
وفي ديسمبر 1907 قرر هؤلاء الأحرار بدأ العمل وتقرر أن تكون مقدونيا مركز الحركة.
وعمد أعضاء الجمعية إلى نشر دعوتهم في صفوف الجيش فأنضم أغلب رجاله إليهم وحدد يوم 3 يولية 1908 لإعلان الثورة على يد أركان الحركة أمثال نيازي (بك) وأنور (بك) وصلاح (بك) أولئك الفدائيون الذين حملوا أرواحهم في أيديهم وخرجوا إلى البلاد لهدم كيان الظلم ومحو آثاره.
ووصلت أنباء الحركة إلى السلطان فأنزعج وأمر أحد رجاله شريف (باشا) بسحق الثورة ولكن الثوار قضوا على تلك المحاولة. واستنجد السلطان بقوات من الأناضول ولكنها سحقت أيضاً وبدأت البلاد تسقط تباعا في يد الثائرين. وأنذر الثور السلطان بوجوب إعلان الدستور فورا وأسقط في يد الثعلب الماكر عبد الحميد واضطر إلى إعلان الدستور وتأليف حكومة دستورية، ولام مستشاريه على أخطاء الماضي ومظالمه ثم ألغى الجاسوسية وأعلن ترحيبه باستقبال زعماء الثوار فعاد أنور ونيازي على رأس قواتهما إلى سالونيك واستقبلتهم هناك جموع حاشدة متحمسة من اليونانيين والأتراك واطمأن الجميع إلى أن عهد الإرهاب قد زال!
وتدفقت جموع من المنفيين السياسيين الأتراك في تركيا وانضم أكثرهم إلى الضباط الشبان واشتركوا في جمعية الاتحاد والترقي ثم هرعوا إلى القسطنطينية ينشدون الظفر بنصيب من الغنيمة ويتآمرون للاستئثار بالحكم!
لكن الدول لم تدع الفرصة: فالنمسا أعلنت ضم البوسنة والهرسك إليها نهائيا، وبلغاريا أعلنت استقلالها، وقامت الثورات في ألبانيا وفي بلاد العرب.
ونشط أعوان السلطان والرجعيون فرشوا بالمال جنود القسطنطينية فقتلوا ضباطهم وأعلنوا ولاءهم لدين الإسلام! وللسلطان ظل الله في أرضه وخليفة الرسول!
لكن الاتحاديين تقدموا من سالونيك وقضوا على تلك الحركة الرجعية وعزلوا عبد الحميد وسجنوه في سالونيك وتولى لسلطان محمد الخامس.
لكن نهضة تركيا لم تكن ترضي الدول ولذلك عمدت إلى تحقيق أطماعها فيها، فإيطاليا استولت على طرابلس 1911، وفي البلقان قامت الدول البلقانية ضد تركيا واستطاعت جيوشها أن تنزل بجيوش تركيا الهزائم واضطرت إلى طلب الصلح.
لكن شعوب البلقان المتحالفة ضد تركيا وهي بلغاريا والصرب والجبل الأسود واليونان لم تلبث أن انقسمت على نفسها وقامت الحرب بينهما؛ فأنتهز الأتراك الفرصة واسترجعوا بعض أراضيهم في شرق ووسط تراقيا بقيادة أنور (بك) فخلص هذا النصر شرف العثمانيين.
ولم يمضي عام حتى اشتعلت نار الحرب العظمى ووقفت تركيا بجانب ألمانيا. وكانت نتيجة الحرب وبالا على تركيا ففقدت أملاكها واحتل الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون عاصمتها، وأشرفوا على مرافقها ونزل اليونانيون بأرض الأناضول يطمعون أن تكون تلك البقعة الخصيبة حول أزمر ملكا لهم.
وسط تلك الأزمة الخانقة جاء مصطفى كمال لإنقاذ تركيا.
أبو الفتوح عطيفة