مجلة الرسالة/العدد 1015/فرنسا أم الحرية!

مجلة الرسالة/العدد 1015/فرنسا أم الحرية!

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 12 - 1952


للأستاذ سيد قطب

هذه هي فرنسا. . أم الحرية. . كما يقول العبيد الكثيرون المنتشرون في مصر والشرق العربي!

هذه هي فرمسا بلا تزويق ولا دعايات براقة. فرنسا كما تصفها أعمالها، لا كما تصفها الأقلام الخائنة، والألسنة الخادعة، أقلام العبيد، وألسنة العبيد، المنتشرين في مصر والشرق العربي!

هذه هي فرنسا. . عصابة من قطاع الطرق. . عصابة متبربرة متوحشة، تترصد للزعماء السياسيين فتقتلهم غيلة وغدرا، وتمثل بجثثهم في نذالة وخسة. . ثم تقف لتتبجح على ملأٍ من الدنيا كلها، لأن هذه الجرائم مسألة داخلية لا يجوز أن يسألها أحد عنها!

هذه هي فرنسا تقف كاللبؤة، فمها يقطر من دم الزعيم البطل (فرحات حشاد)، والدنيا كلها ترقبها وهي تلغ في الدم ولكنها لا تخجل، لأن فرنسا (الحرة!) قد ضيعت دم الحياء، وهي تلغ في دم الشهداء!

هذه هي فرنسا التي تهجد بذكراها، وسبح بحمدها وصلى، رجال ممن يقال عنهم أو عن بعضهم إنهم من قادة الفكر.

ومنذ قرن وربع قرن؛ وفرنسا تمثل مسرحيتها الوحشية هذه على مسرح الشمال الأفريقي، منذ احتلالها للجزائر في عام 1830. وفي خلال تمثيل هذه المسرحية البشعة كان العبيد ينشدون نشيدهم الدائم باسم فرنسا. فرنسا حامية الحرية.

وفرنسا تكرم هؤلاء العبيد الذين يخدعون شعوبهم، ويخونون أوطانهم، ويخدرون جماهيرهم، ويمسحون عن فم فرنسا القذر آثار الدماء. . ومن العجيب أننا نحن أيضاً كنا نكرمهم كلما كرمتهم فرنسا؛ ونرفع أقدارهم كلما رفعتها فرنسا، وتهيئ لهم المناصب والمراكز، التي تمكنهم من خدمة أمهم فرنسا!

ونبحث اليوم عن هؤلاء العبيد. من قادة الفكر، نبحث عنهم ليقولوا كلمة واحدة عن الجريمة الوحشية الجديدة، فلا نجد لهم أثرا. لا يثور ضمير واحد منهم فيقول كلمة. ولا يرتعش قلب واحد منهم أمام الجثة المشوهة العالم. جثة البطل الذي جبنت فرنسا ع مواجهته، فقتلته غيلة وغدرا!

إن جريمة فرنسا الجديدة هي جريمة الضمير الغربي كله ففرنسا لا ترتكب جرائمها إلا وهي مسنودة الظهر بالعسكر الغربي. لا ترتكبها إلا وهي تستند إلى إنجلترا إلى وأمريكا.

إن الضمير الغربي كله، بكل ما فيه من وحشية عميقة الجذور.، ليتمثل بوضوح في تلك الجريمة. إنها جريمة الديمقراطية، جريمة (العالم الحر). جريمة الحضارة التي يدعونا العبيد الكثيرون المنتشرون في مصر والشرق الغربي، من قادة الفكر أن نترك عقائدنا وتقاليدنا وتاريخنا وأمجادنا، لتلهث وراءها، كيما نرتقي ونتحضر، ونلحق بركب العالم المتحضر! العالم الذي يقتل الزعماء الوطنيين غيلة وغدرا، ويمثل بجثثهم في نذالة وخسة!

إن هذا الضمير الذي أوحى لفرنسا بأن تقتل الزعيم التونسي وتمثل بجثته، لهو ذات الضمير الذي أوحى إلى الإنجليز أن تلقي بالجرحى من الفدائيين في القتال، إلى الكلاب المتوحشة لتنهشهم وهم بعد أحياء، لا يملكون دفعها عن أجسادهم لأنهم جرحى.

وهو ذاته الضمير الذي شاهدته بعيني في أمريكا. والبيض يتجمعون على شاب زنجي بمفرده، ليضربوه ويركلوه ويدهسوه بكعوب نعالهم حتى يخلطوا عظمه بلحمه، في الطريق العام، والبوليس لا يحضر أبدا إلا بعد إتمام الجريمة وتفرق الجماهير المتوحشة الهائجة كوحوش الغابة.

إنه هو هو ضمير العالم المتحضر. العالم الذي تسبح بحمده أقلام خائنة، وألسنة خادعة. ومن بين هذه الأقلام أقلام قادة الفكر، ونحن ببلاهة منقطعة النظير نصفق للخونة ونهتف للخادعين، ونرفعهم مكانا عليا. . ونهيئ لهم المناصب والمراكز التي يتمكنون بها من تنفيذ جريمة الخداع والخيانة!

ولدينا في مصر والشرق من عبيد فرنسا من يقولون لنا: لا تكتبوا هكذا، لئلا نخسر صداقة فرنسا. ونحن - كمصريين - لا بد أن نلاحظ مصالحنا القومية، وألا نندفع مع حماسة العاطفة!

إلى هؤلاء العبيد أوجه سؤالي: متى كانت فرنسا صديقتنا؟ متى وقفت في صفنا مرة واحدة في التاريخ كله؟ وفي أي مظهر من المظاهر تمثلت لنا صداقة فرنسا؟

فرنسا هي التي قادت الحملات الصليبية على الشرق العربي منذ تسعة قرون، وكانت جيوشها الصليبية أشد جيوش الصليبين ضراوة وإجراما وفتكا.

وفرنسا هي التي خانت مصر في قناة السويس، فاستغفلت (محمد سعيد) وإلي مصر بطبق من (المكرونة) بواسطة ديلسبس المحتال الذي تحتفظ مصر بتمثاله على مدخل قناة السويس إلى هذه اللحظة. وسرقت ملكية القناة من مصر، وقد أنشأتها في أرضها بمالها وعمالها ونصيبها من الربح، وحقها في الإشراف. وهي تعمل اليوم جاهدة لإتمام سرقة القناة في نهاية مدة الامتياز بوسائل شتى.

وفرنسا هي التي خانت عرابي، ومهدت للاحتلال الإنجليزي؛ ومعركة التل الكبير ما كانت لتقع لولا خيانة ديلسبس لعرابي. وما كانت الجيوش الإنجليزية بقادرة على هزيمة مصر في معارك تقع من الغرب في الدلتا. ولكن الخيانة الفرنسية قد آنت ثمارها وما زلنا نعلك هذه الثمرة المرة حتى يومنا هذا.

وفرنسا هي التي قاومت كل المقاومة إلغاء الامتيازات في مؤتمر مونتريه وعرقلت جهود مصر في إزالة آثارها النهائية. وكانت تعض على هذه الامتيازات بعنف، فلا تدعها تفلت إلا بعد معارك حامية في المؤتمر لا نزال نذكرها.

وفرنسا هي التي وقفت تسند إنجلترا بعنف في مجلس الأمن ضدنا. وكان لسان مندوبها في المجلس هو أقسى الألسنة علينا. وقد تجاوز حد الجدل السياسي إلى الوقاحة والسباب والتهكم. وهذه محاضر مجلس الأمن بخصوص قضية مصر القومية الكبرى تشهد بمدى (صداقة) فرنسا!

وفرنسا هي التي تحارب ثقافتنا وكتبنا وصحافتنا في الشمال الأفريقي كله. ولقد عجز الدكتور طه حسين وهو في وزارة المعارف - وهو أصدق أصدقاء فرنسا - أن يفتتح معهدا لمصر في الجزائر. أو حتى في طنجة التي تحكم دوليا بسبب تعصب صديقته الكبرى فرنسا!

وفرنسا هي التي تحارب جلاء الجيوش الإنجليزية الآن عن مصر، وتكافح كل حركات التحرير - لا في الشرق العربي وحده، بل كذلك في جميع أطراف الدنيا - ومع هذا كله فإن فرنسا هي حامية الحرية الكبرى!

هذه هي صفحة (صداقة فرنسا) فأي سطر فيها هو الذي نخشى أن نشوهه أو أن نطمسه.

ومتى وأين وكيف كانت هذه الصداقة التي نخشى عليها؟!

وبعد فإن الكلمات لم تعد تجدي. . أنه لا بد من إجراء يتخذه كل بلد عربي - بل كل بلد إسلامي - لكفاح فرنسا. وكفاح العالم الاستعماري الذي يسندها.

وأول إجراء في نظري يجب أن يتخذ هو إقصاء المسبحين بحمد هذا العالم من حياتنا الفكرية والشعورية. لأن قوى الاستعمار تسندهم، وتمكن لهم في وظائف الدولة وفي الأسواق ودوائر الأعمال.

إنه لا بد أن نتحرر فكريا وشعوريا من عبادة (العالم الحر). العالم المتحضر، العالم الذي يغتال الزعماء ويمثل بجثثهم في نذالة. والذي يلقي بالجرحى إلى الكلاب المتوحشة لتنهشها. والذي يتجمع كالوحوش الهائجة على شاب ملون فلا يتركه حتى والدماء الغزيرة تتفجر من فمه وأنفه ورأسه.

وحين تتحرر مشاعرنا من عبادة هذا العالم المتعفن. وحين تتجمع أحقادنا المقدسة ضد هذا العالم، حين نمسي ونصبح وهذه الأحقاد المقدسة تغلي في عروقنا. . حينئذ سنعرف كيف نتخلص من العبودية. إن عبودية الضمير هي التي تخضعنا. فلنتحرر منها أولا، ولنخرس كل صوت، ولنكسر كل قلم يحدثنا حديث العبيد، العبيد الكثيرين المنتشرين في مصر والعالم العربي.

سيد قطب