مجلة الرسالة/العدد 1015/في موكب النهضة

مجلة الرسالة/العدد 1015/في موكب النهضة

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 12 - 1952



كتابان

للأستاذ علي العماري

يخطئ الذين يظنون أن الحياة المصرية تحتاج إلى التجديد من ناحيتيها السياسية والاجتماعية فحسب، ويرون أن الجمود والتأخر والبطء كانت تلازم هاتين الناحيتين، ولا غير؛ فالحق الذي لا سبيل إلى المراء فيه أن الحياة المصرية أصابها الركود والجمود في كل نواحيها، وإن كانت نسبة هذا الجمود وهذا الركود في ناحية أقوى وأظهر منها في أخرى، ولذلك فإن النهضة والبعث والتجديد يجب أن تمس كل نواحي الحياة مسا رفيق أو عنيفا على حسب ما تحتمله طاقة الأمة.

وإلا فهل في مصر وفي العالم العربي من الفاقهين المخلصين لدينهم ولغتهم من يجهل مدى الجمود الذي يسيطر على الدراسات العربية والشرعية؟

فكما أننا كنا في حاجة ماسة إلى من يجدد لنا حياتنا السياسية، وحياتنا الاجتماعية، كذلك نحن في أمس الحاجة إلى من يجدد لنا حياتنا العلمية، وبخاصة في الناحيتين اللغوية والشرعية.

والذين لا يتعبدون بدراسة الكتب القديمة، ولا يعتقدون أن الله جعل علم اللغة وعلم الشريعة وقفا على الأقدمين، ويؤمنون أشد الإيمان بأن أتفه كلمة في العربية هذه التي يتناقلها الخلف عن السلف: (ما ترك الأول للآخر شيئا) هؤلاء يعتقدون أن حاجتنا إلى تجديد هذه الدراسات، وصوغها صياغة جديدة لا تقل - في ميزان النهضة - عن حاجتنا إلى تجديد سياسة الأمة وحالتها الاجتماعية.

وقد يطول الحديث ويتشعب لو أخذت أبين ما في هذه الدراسات من جمود، ولو بالإشارة العابرة، فلذلك سأقصر حديثي عن الدراسات العربية، بل عن كتابين اثنين من هذه الكتب العربية التي نتعبد بدراستها في مصر وفي غير مصر من الأقطار العربية. وكم كنت أن لم ييسر الله لصاحبي هذين الكتابين في تأليفهما، فإن الخطر الذي دخل على العربية منهما لا يقل عن الخطر الذي أصاب الحياة المصرية من تحكم رجال الإقطاع والطبقة الحاكمة.

أما أول هذين الكتابين فألفية ابن مالك. أقول هذا وأنا على يقين من أن آلافا من الناس سيفتحون أفواههم وستجحظ عيونهم تعجبا، ودهشة، ولكن الذي يؤثر الحق لا يبالي.

وضع ابن مالك ألفيته في النحو في القرن السابع الهجري، ومنذ ذلك التاريخ وعلماء النحو يتخذون هذه الألفية كعبة يطوفون حولها، يضعون لها الشروح، ويضعون على الشروح الحواشي، وبعضهم يؤلف في إعراب الألفية، وأكثر هذه الكتب وضع في عصر الضعف الأدبي، ففيها ما شئت من تعقيد والتواء، ومن تعليلات تافهة لا تستند إلى منطق معقول. وقد أضر عكوف العلماء بهذه الصورة على هذا لكتاب، فوقف الاجتهاد في النحو، وأصبحت غاية المتعلمين أن يفهموا تلك العبارات الملتوية، وأن يحسنوا الجدل في تخريجها وتصحيحها. وربما كان هذا معقولا ومقبولا في تلك العصور التي ركدت فيها ريح العلم، وعمها الانحطاط في كل نواحيها، ولكنه غير معقول ولا مقبول في هذا العصر الذي يمتاز بالسرعة، ويتطلب المحافظة على الوقت ويضيق به أن يضيع في فهم عبارات لا جدوى من فهمها - إن فهمت - وكم تكون الكارثة أطم لو ضللتنا على هذه الحال مع هذه النهضة المباركة، فنحن نقف والقافلة تسير، وويل للمتخلف.

لا تزال الآثار التي يوحي بها تقديس هذه الكتب مسيطرة على أفكارنا وعلى آرائنا وعلى تقديراتنا وعلى مناهجنا، فنحن نجيز الطالب ونمنحه شهادة دراسية يكافح بها في الحياة لأنه حفظ شرح ابن عقيل، أو شرح الأشموني على الألفية. ونحن نشيد بعلم العالم لأنه لا تغيب عنه كبيرة ولا صغيرة من هذا الكتاب أو ذاك، ونحن نسأل عن فلان فيقال لنا أنه عالم جليل، ونسأل عن علمه الجليل فيقال لنا أنه أقدر الناس على فهم الكتب الأزهرية، وتخريج عباراتها، وتعجب أشد العجب حين تذهب إلى هذا العالم الجليل فلا يختلف في نظرك عن الكتاب الأصم في شيء، فأنت تستطيع أن تستغني بالكتاب عن ملاقاته والاستماع إليه، تسأله فيدلك على موضع الجواب من الكتاب، فإذا تخلل الجواب بيت من الشعر، أو حكمة مأثورة لم يزد في تعريفك بهما على موضع الشاهد منهما، أما المعنى الأدبي للبيت أو للحكمة، فيشرحه لك شرحا عاميا كما لو سألت جاهلا لم يطلع على شيء من كتب النحو.

وهذه الأمثلة السخيفة التي تطالعك في كل صفحة، وتؤذي سمعك وإحساسك في كل حين، هي هي منذ أن وضع النحو واضعوه! أما الشواهد فهي في الأغلب الأعم من الشعر الركيك المتهافت، وقد ورط القدماء في هذا ما كانوا يعتقدونه خطأ من قولهم (البحث في المثال ليس من دأب المحققين).

ولو كنا - حقا - نريد أن نساير النهضة، لطرحنا هذه المؤلفات جانبا، وكتبنا النحو العربي من جديد، وكتبناه بأسلوب واضح أدبي، ولتركنا الأمثلة جملة وتفصيل، واعتمدنا على الشواهد الفصيحة من القرآن والحديث، والشعر والنثر، وليس من المنطق السليم أن نعهد بهذا التجديد إلى أولئك الذين تحجرت عقولهم على القديم، وأصبحوا لا يؤمنون إلا به، لأنهم لا يحسنون غيره، وهذه الحكمة البسيطة الساذجة هي التي تهدينا في هذا السبيل (إنك لن تجني من الشوك العنب). بل يجب أن نعهد بهذا العمل إلى العلماء الأدباء الذين تعمقوا في دراسة النحو العربي ولهم مع ذلك ذوق أدبي جميل، فهؤلاء هم ضالتنا.

أما ثاني الكتابين، فهو (تلخيص) المفتاح للخطيب القزوبني، وما قلته عن ألفية ابن مالك هو نفسه الذي يقال عن التلخيص، مع فارق واحد، هو أن الأمر مع هذا التلخيص أدهى أمر، ذلك أنه في علوم البلاغة، وهذه العلوم أمس بالبيان العربي من علم النحو، فربما لا يروعنا أن نجد العلماء والمتعلمين في النحو لا يتذوقون الأساليب البيانية العالية، ولا يحسنون أن يأتوا بشيء منها قل أو كثر، ولكنه يؤسفنا أشد الأسف أن نجد الدارسين للبلاغة أبعد الناس عن تذوق البليغ من القول.

والتلخيص كالألفية منذ وضع وهو قطب رحا البلاغة، يدور حوله، وتستهدي بضوئه مع ما في شروحه الكثيرة من خلط وخبط، وضعف وتفكك، فهي مملوءة بالمباحث الكلامية، والمباحث المنطقية، والمباحث الفلسفية، ونصيب الذوق الأدبي منها أقل من القليل.

ومع ذلك فهي التي يعتمد عليها دارسو البلاغة العربية جل الاعتماد، وما ظهر من الكتب الحديثة ليس إلا صورة من تلك الكتب، وإن زادت عليها شيئا من الشواهد والتمارين، لكن الطريقة القديمة والأمثلة القديمة والشواهد القديمة هي هي، ومن عجيب الأمر أن بعض الشراح القدماء يعيبون بعض هذا المنهج، ولكنهم يسلكونه، وأشد من ذلك عجبا أن يسلكه المحدثون. هذا سعد الدين التفتازاني، وهو صاحب القدح المعلى في الكتابة عن التلخيص، وأبيه (المفتاح) يقول عائبا طريقة السكاكي في حشد كثير من التقسيمات في باب التشبيه، يقول: (واعلم أن أمثال هذه التقسيمات التي لا تتفرع على أقسامها أحكام متفاوتة، قليلة الجدوى، وكأن هذا ابتهاج، من السكاكي بإطلاعه على اصطلاحات المتكلمين، فلله در الإمام عبد القاهر، وإحاطته بأسرار كلام العرب، وخواص تراكيب البلغاء، فإنه لم يزد في هذا المقام على الكثير من أمثلة أنواع التشبيهات، وتحقيق اللطائف المودعة فيها). وما يقال عن التقسيمات في التشبيه يقال عن كثير من التفريعات في علوم البلاغة الثلاثة.

إنني دافعت هنا في مجلة الرسالة الغراء، منذ سنوات عن البلاغة العربية، وهاأنذا الآن أدعو إلى نبذ هذه الكتب منها، وليس - في الحق - أي تناقص بين الموقفين، فقد كنت هناك أدافع عن البلاغة كعلم عربي ألف فيه عبد القاهر والزمخشري، وأبن سنان، وابن الأثير، والآمدي، والجرجاني عبد العزيز، وأبو هلال العسكري، وأنا اضرب المعول في هذه الكتب التي نهجت منهج السكاكي والخطيب فجعلت البلاغة جدلا لفظيا عقيما.

وقد يتساءل متسائل، أو تعجبك هذه الكتب التي وضعها المحدثون، والتي تعني بالشواهد الفصيحة؟ والجواب: لا. فإنها كتب جوفاء لا غناء فيها. والذي أريده أن تدرس البلاغة العربية القديمة في كتبها ذات الأسلوب العالي والتفكير المستقيم ثم تكتب بلغة أدبية عالية، ويزاد فيها أو ينقص منها، ولكن لا تخلو كتابتها من هذه اللمحات القوية التي دونها العلماء السابقون.

كما أريد أن يضطلع الأزهر بهذه المهمة فإن رجاله أقدر الناس على تجديد القديم تجديدا نافعا مفيدا؛ وأن يخفى من الدراسات المدرسية هذه الكتب التي عمت الشكوى فيها، والتي لا فائدة منها في الحقيقة إلا ضياع أوقات الطلاب سدى، وإلا إفساد أذواقهم، وحين تتغير الحال في الأزهر، سيترسم خطاه كل المعاهد العلمية في العالم العربي التي تقلده الآن فيما يقدم لأبنائه من طعام لا يسمن ولا يغنى من جوع.

علي العماري