مجلة الرسالة/العدد 1017/الإسلام في موكب الإصلاح:

مجلة الرسالة/العدد 1017/الإسلام في موكب الإصلاح:

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 12 - 1952



هذه المخازي. . .!

للأستاذ محمد عبد الله السمان

قال محدثي: (إنكم يا معشر الكتاب الإسلاميين تتصايحون في واد، وتنفخون في رماد، وتجهدون أنفسكم، وترهقون أقلامكم في غير فائدة، فأنتم تريدون الإصلاح بأداة ينقصها الإصلاح، وترغبون في السبق براحلة عرجاء. . . تصرون على أن يتزعم الإسلام كل نهضة، ويتقدم كل وثبة، والإسلام لم يزل خليطا من الشوائب التي تسيء إليه، ومزيجا من الفضائح التي تحط من قدره. .!

(ما هذه الطرق الصوفية البلهاء التي لا زالت تغزو مصر: كفورها وقراها ومدنها، حتى العاصمتين لا تتنازل عنهما: وتأبى أن ترحمهما. إنها دولة داخل الدولة، عدتها الجهل المطبق، وسلاحها الغباء الفاضح، ووسيلتها الدجل والشعوذة، ورعاياها السذج المغفلون، وولاة أمورها المرتزقة المتلاعبون. أليس من العار أن تقوم هذه الدولة المزعومة باسم الإسلام لتنشر بين المسلمين الجهل، وتحوطه بسياج من الدجل، وتذود عنه بقوة من الحمق؟ أليس من العار أن تسيطر هذه الدولة المزعومة في مصر على الألوف المؤلفة من المسلمين الجهلة، لتهب لهم إسلاما ممسوخا، ودينا زائفا، ولتجعل منهم آلات لا نفهم الإسلام إلا ركعات وسجدات يؤدونها، وشهرا يصومونه، وأورادا يداومون على تلاوتها، ولا يفهمون الدين إلا انقيادا أعمى للسادة المربين، والأخيار العارفين، ممن نصبتهم هذه الدولة المزعومة هداة مربين وهم أضل من الضلال، وأجهل من الجهل، وأضفت عليهم ألوانا من الألقاب ليكونوا في نظر قطعان الماشية ذاتا مصونة يجب أن تقدس، وملتمس بركة يجب أن يتقده إليه!؟

أليس من العار أن تضم هذه الدولة المزعومة بين جناحيها جيشا جرارا من البطالة باسم الإسلام، لا يحترف إلا اصطناع اللحية، وإتقان العمامة، وتحريك السبحة، ولا يمتهن إلا التسول في الموالد، والتسكع حول الأضرحة، والمزاحمة على حثالة النذور، وفتات الصدقات. ولا يرجو من الحياة إلا مسجدا يضمه سحابة النهار، وإفريزا يؤويه جنح الليل، وجلبابا مرقعا يتوارى فيه، ويستعين به على مفاجآت الجو وتقلباته؟ أليس من العار أن تظل هذه الدولة المزعومة تشغل حيزا كبيرا من الفراغ، وتسيطر على قدر وافر من الرأي العام لتشله وتعطله، وتحوله عن مهام الأمور التي تتعلق بكرامة وطنه وبلاده، وتزرع في نفوسه عقيدة التخاذل والاستسلام والتواكل، فتفهمه أن استعمار الوطن الإسلامي قضاء محتوم من الله، والاعتراض عليه كفر، والتبرم به إلحاد، والنفور منه زندقة؛ وتقنعه بأن جور الحكومات إرادة مقدسة من الله، ومناهضته لؤم، ومكافحته تمرد، وناوشته تنطع وحمق؟

. . ثم ما هذه الأضرحة التي أضحت كعبة يحج إليها الجهلة من أطراف القطر، يطوفون حولها، ويتمسحون بنحاسها وقماشها، ويتوسلون بها في شفاء مرضاهم، وقضاء حوائجهم، ودفع الضرر عنهم، وسوق الرزق إليهم، وتنزح إليها من كل فج جحافل النساء من البله، لتتزوج العانس، وتزف البكر، وتلد العقيم، وتحل عقدة البائس، وتفرج كربة المنكوبة، وترد لوعة المهوفة؟

لقد أصبحت هذه الأضرحة مسرحا للجهل بأجلى معانيه، ومصنعا للخرافات التي لا مثيل لها إلا في عالم الأساطير، ومعهدا لتكييف أساليب الدجل حتى يخدع العقول، وتكييف أساليب الشعوذة حتى تضلل العقائد؛ فهذا الضريح ساكنه من الأربعة المتصرفين في مصاير الناس، المسيطرين على ركب الحياة؛ وذاك الضريح ساكنته هي صاحبة الشورى، إليها ترجع الأمور كلها، ومنها تصدر الأوامر جميعها؛ وضريح العارف بالله هذا متخصص في شفاء الأمراض المستعصية، والأدواء المزمنة، وترابه دواء للأعين الرمد، وعلاج للأجساد البرص؛ وضريح ولي الله ذاك، متخصص في جلب الأرزاق ودفع الأضرار، وتحصين الأطفال من الأوجاع والأسقام، والأرق والسهاد. .!

ثم ما هذه الموالد الصاخبة التي يتبع بعضها بعضا، ويعلن عنها في الجرائد ويدعى لها في الأسواق، وتتفضل وزارة الشؤون بالتصريح لها، وتتكرم وزارة الداخلية بالمحافظة على الأمن والنظام خلال أيامها، ويحرص قسم الوعظ والإرشاد على استغلالها، ليعظ أقواما حصنوا بالجهل ويرشد جهالا حقنوا بمصل الخرافات، ويصحح عقائد حمقى، اللجوء إلى الأضرحة أقدس عندهم من التوجه إلى الله، والتسكع حولها أخف لديهم من السعي في الأرض؟ ما هذه الموالد الصاخبة التي يظل الواحد منها بضعة عشر يوما من مشرق الشمس إلى مطلع الفجر، لا تسمع غير دق الطبول، ونهيق المزامير، وصياح الدراويش، وغوغاء المهرجين، ولا ترى غير أكداس مكدسة من الأفاكين المحتالين، وحلقات للحواة المشعوذين، وعصابات من أرباب الجراثيم المختبئين داخل جلابيب من الرقاع المزركشة، والمتوارين وراء العمائم الضخام، واللحى المتدلية، والسبح المشقشقة، والأعين المكتحلة، والحواجب المزججة، والعبارات المسجوعة التي ينخدع بها سمع الجاهل، وتنجذب إليها أذن الأبله، والألفاظ الغامضة التي تثير تطفل الفارغين، وتبلبل أفكار الأغبياء الساذجين، ولا تسمع غير صخب يقلق الأسماع، ويعكر الهدوء، وصيحات الذاكرين الذين يحترفون ذكر الله بهز الأبدان، ورقصات الأكتاف، وانتفاضات الرؤوس، لا يشغلهم عنه الصلوات المكتوبة، ولا الأقوات المطلوبة، ولا تكاليف الحياة التي لا يهرب منها سوى الضائع المهمل، والكسول المتواكل. .؟

لم هذه المخازي كلها اليوم؟ فإذا كانت من قبل ضرورة يقتضي بقاءها رغبة الاستعمار حتى يضمن غفلة الشعب، ورغبة الملك الطريد حتى يظل في أمن من يقظته، ورغبة الحكومات الجائرة حتى ترغمه على الذلة، وتفرض عليه الضعة والمسكنة، فأي معنى لبقاء هذه المخازي إلى اليوم لتكون وصمات عار في جبين الإسلام، وصفحات خزي في تاريخ الشعب المسلم، ونحن في عهد جديد يتعقب الاستعمار حتى يرحل إلى غير رجعة، ويضيق عليه حتى يتقلص ظله فيؤثر الانتحار على الحياة والجلاء على الاحتلال، وفي ظلال وثبة مباركة تتطلب في الشعب يقظة تسندها، وتؤيدها من الرأي العام صحوة تؤازرها وتباركها، ومن أين للشعب هذه اليقظة، وللرأي العام هذه الصحوة، وأحد جوانب الشعب معطل لا خير فيه، وأحد أركان الرأي العام خائر لا فائدة منه؟ من أين لهما هذه الكلمة وتلك، وهذه المخازي مازالت صامدة صمود الجبال أمام عواصف العهد الجديد، وموجات الوثبة المباركة؟ ومن أين للإسلام أن يقود النهضات، وأن يسيطر على مواكب الإصلاح، إذا كانت هذه المخازي لا زالت دولتها تقوم داخل الدولة باسم الإسلام، على رغم من استغاثته منها، والتبرؤ من فضائحها، وعلى رغم من صيحات المصلين من علماء الدين المعقولين، والمثقفين من الأغيار المسلمين. . .! فهلا كان الأجدر بكم أن تخلصوا الإسلام مما علق به من شوائب وتنظفوه مما ألصق به من أضاليل، حتى إذا تقدمتهم للإصلاح كانت أداتكم نظيفة سليمة، وإذا رغبتم في السبق كانت راحلتكم قوية صحيحة؟ - أما إذا أصررتم على أن تتقدموا للإصلاح بأداة ينقصها الإصلاح، وللسبق براحلة عرجاء، فثقوا بأنكم ستظلون إلى الأبد تتصايحون في واد، وتنفخون في رماد. . .!!)

لقد ظللت خلال الحديث منكس الرأس غاض الطرف، وعبارات محدثي تصل إلى قلبي شعاعات من الغيرة الممتزجة بالحسرة والألم، ولم أشأ أن أقاطعه أو أجادله، فلئن كنت أملك اللسان الذي أقاطع به حديثه، فلم أكن أملك الحجة التي أجادل بها نقده، وأعارض بها رأيه، ولذلك أثرت الصمت والهدوء والإصغاء، واكتفيت في النهاية بأن رفعت طرفي إلى محدثي. . . أن نعم!

محمد عبد الله السمان