مجلة الرسالة/العدد 1017/الجغرافية والسيادة العالية
مجلة الرسالة/العدد 1017/الجغرافية والسيادة العالية
للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي
لا يستطيع الإنسان فهم الحوادث التاريخية وتفسيرها على أصولها الحقيقية إلا إذا عرفنا العوامل الجغرافية التي لعبة دورها في هذه الحوادث، فالتاريخ والجغرافية علمان لا ينفصلان وإن كان لكل منهما شخصيته الواضحة، وما أشبه الحوادث التاريخية برواية تمثيلية قد بدأت منذ الخليقة وتعددت فصولها على مر الأيام. وكلما أقبلت الأعوام زاد عدد الممثلين وأشخاص البطولة فيها كل على قدر أهميته. وما أشبه هذا المسرح الذي نمثل عليه هذه الرواية بحوادثها ومغامراتها بالعالم الذي نعيش فيه. وإذا كنا لا نستطيع متابعة حوادث الرواية التمثيلية إلا إذا ألممنا بمسرحها؛ فكذلك لا نستطيع فهم الحوادث التاريخية وتفسيرها على حقيقتها إلا إذا درسنا مسرحها وفهمنا هذه العوامل الجغرافية التي تحكمت في هذه الحوادث وسيرتها في هذا الاتجاه. لهذا كانت للعوامل الجغرافية الأهمية الأولى لدارسي الحوادث التاريخية ولكل من يحاول فهم التاريخ على حقيقته.
نظرة سريعة إلى الكرة الأرضية بنصفيها الشمالي والجنوبي نرى اليابس يسود النصف الشمالي إذ تشغله معظم القارات في الوقت الذي تسود فيه المحيطات النصف الجنوبي؛ ولهذا كان النصف الشمالي أكثر سكانا وبتالي أكثر نشاطا وإنتاجا، ولهذا كان أيضاً مهدا للحضارات الأولى التي خرجت للعالم ومنه خرجت طلائع المغامرين الذين اكتشفوا النصف الجنوبي ومهدوا لفتحه واستعماره، وهكذا ساد النصف الشمالي النصف الجنوبي، وهكذا تحكم اليابس في الماء بفضل كثرة السكان وما يرتبط بهذه الميزة من نتائج لها تأثيرها الخاص.
ونحن أيضاً إذا نظرنا إلى خريطة العالم بنصفيها الغربي والشرقي وجدنا النصف الشرقي معظمه يابس تسوده أكبر مساحة من القارات في الوقت الذي تسود فيه المياه معظم النصف الغربي. وهنا أيضاً نجد النصف الشرقي قد مثل في النصف الغربي ما سبق أن رأيناه في النصف الشمالي والنصف الجنوبي للكرة الأرضية؛ فالأسباب واحدة والنتائج متشابهة.
وإذا نظرنا إلى العالم من زاوية أخرى وجدنا المناخ يبلغ أقصى برودته في الأنحاء الشمالية والجهات الجنوبية؛ أو بعبارة أخرى حول القطبين. لذا كانت هذه المناطق تساعد على قيام الحياة وبالتالي العمل على تقدمها، فسكانها قليلو العدد في كفاح مستمر لأن الطبيعة قاسية عليهم وتأبى أن تجود بما يوفر لهم الحياة. هم لا يفكرون إلا في الحصول على القوت الضروري الذي يمنع عنهم ألم الجوع والملبس الضروري الذي يقيهم البرد! والمسكن اللازم لحياتهم، فاتخذوا من شحوم بعض الحيوانات غذاء لهم ومن فرائها ملبسا. ليس لديهم الوقت الكافي للتفكير والانتقال بالإنسانية إلى حالة أكثر رقيا وتقدما، وهذا ما نلاحظه في جماعات الإسكيمو في شمال أمريكا وجماعات اللابس في شمال أوربا. وإذا نظرنا إلى العالم من هذه الزاوية وجدنا المناخ عند خط الاستواء حارا لا يطاق ولا سيما في السهول الداخلية من القارات. وبقدر ما كانت الطبيعة قاسية في أقصى الشمال كانت سخية في هذه المنظمة الاستوائية، فالغابات الكثيفة بأشجارها وحاصلاتها المتعددة متوفرة. وبقدر ما بثت الطبيعة من نشاط في سكان الشمال؛ بثت الخمول والكسل في سكان خط الاستواء لسخاء الطبيعة، فهم ليسوا في حاجة للجد والنشاط للحصول على طعامهم وملبسهم ومسكنهم، غذ وفرت لهم الطبيعة كل ذلك بالقدر الذي لا يتصوره الإنسان بالقدر الذي يدفعهم إلى الإفساد وعدم شغل الذهن بالتفكير في المستقبل وحاجاته. لذا عاشوا في كسل وخمود عام كما عاش سكان الشمال في جهد ونشاط مستمر دون أي راحة أو استجمام. ولهذا لا تنتظر أن يكون لسكان الجهات القطبية والاستوائية أي نوع من السيادة التاريخية؛ فكل منهما مشغول بحالته الخاصة وكل منهما له ما يلهيه عن الانتباه لما يدور حوله من نزاع بين الأمم من أجل السيادة العالمية.
إذن فالموطن الأول للسيادة العالمية هو الجهات المعروفة بمناخها المعتدل الواقعة في النصف الشمالي الشرقي من الكرة الأرضية. ففي هذه الجهات نشأت الشعوب القديمة ذات الحضارة والسيادة ومنها انتقلت إلى بقية العالم؛ إذ لها من اعتدال مناخها ما يدفعها إلى العمل للحصول على لوازم الحياة دون إجهاد أو إرهاق فوجدت لديها من الفراغ الضروري ما دفعها إلى التفكير وشغل الذهن بما سار بالإنسانية إلى الأمام، ولها من موقعها الجغرافي ما ساعد على اتصال سكانها في وقت لم تصل فيه المواصلات إلى ما هي عليه الآن، وبذلك تم السير بالحضارة الإنسانية من حسن إلى أحسن. في هذه الجهات نشأت الحضارة المصرية والبابلية والآشورية والفينيقية والفارسية والهندية والصينية والإغريقية والرومانية والعربية.
وحتى هذه الحضارات التي سبق ذكرها لم تكن كلها من نوع واحد، بل اختلفت فيما بينها من حيث الأصول والمميزات والنتائج، ولا يصعب علينا فهم هذا الاختلاف إذا عرفنا العوامل الجغرافية التي لعبت دورها في كل منها. فهذه مصر لولا النيل لكانت صحراء ولما كان لأهلها ذكر في التاريخ. ولولا موقعها الجغرافي الفريد بإشرافها على العالم القديم وتحكمها في طرق مواصلاته بسواحلها الشرقية والشمالية ما استفادت من غيرها ولا أفادت. وبقدر اتصالها بالعالم الخارجي كانت الصحراء الشرقية والصحراء الغربية وجنادل النيل في الجنوب والبحر في الشمال خير واق لأهلها من الغزو والفتح في الوقت الذي انصرفوا فيه إلى تكوين حضاراتهم فنمت في أمن؛ حتى إذا ما شبت تعدت هذه الحدود إلى جيرانها وكونت أول إمبراطورية عرفها التاريخ أيام تحتمس ورمسيس.
وهناك في أقصى الشرق من القارة الآسيوية نشأت الحضارة الصينية القديمة بعد أن اتخذت حوض يانج تسى مهدا لها، وكانت لها في هذه الهضبة الغربية خير حماية من خطر غزو القبائل إذا قلت الأمطار في وسط آسيا؛ وكانت لها أيضاً في مياه المحيط الهادي بأتساعه ما يحميها من خطر الغزو البحري. ولم تكن اليابان قد ظهرت كقوة بحرية تهدد الصين في حياتها إلا في العصر الحديث، لذا عاش الصينيون في أمن من الغزو الأجنبي ووجدوا في خصوبة أرضهم وكثرة إنتاجها ما دفعهم إلى التأمل والتفكير والإنتاج فكانوا خير منتجين، وكانت فلسفتهم وحكمهم صورة ناطقة بحياتهم الهادئة الوديعة، حتى إذا شعروا بالخطر يتهددهم من الشمال الغربي وجدوا في أحجار الهضبة المجاورة لهم خير معين لبناء سد لوقايتهم فأخرجوا لنا سورهم العظيم الذي اعتبر من عجائب التاريخ.
وفيما بين مصر والصين قامت حضارة أخرى. . فهناك في الهند حيث سهول نهر الكنج ونهر السد بخصوبتها حيث جبال الهمالايا المعروفة بارتفاعها وصعوبة مسالكها وجد الأهالي فيها خير مساعد على حمايتهم من الغزو وبرودة الرياح الشمالية؛ كما وجدوا في مياه المحيط الهندي التي تحيط بشبه جزيرتهم مثل هذه الحماية؛ فعاشوا في أمن وسلام مع شيء من الجد والنشاط، فأخرجوا لنا فلسفة خاصة كانت حلقة هامة في طريق الأديان السماوية. ولكن كان لا بد أن تستهدف الهند للغزو والفتح كما استهدف غيرها، وكانت لا بد لهذا الصندوق المقفل أن يفتح ويعرض ما فيه على العالم فيختار الأحسن! ويشاء القدر أن تعجز هذه الجبال التي حمت الهند من الشمال أمام حيل الإنسان وتفكيره فتدخل جنوب الإسكندر من ممراتها الشمالية الغربية كما دخلتها جنود الإسلام فيما بعد. وقدر للمسلمين أن يضعوا أساس إمبراطورية عظيمة كانت لها فيها السيادة على الهند، ولكن هذه السيادة التي دخلت من ممرات الشمال الغربي ضعفت أمام الاستعمار الأوربي الذي أخذ يطرق أبواب الهند الساحلية فتمت الغلبة أخيرا بعد نزاع بين القوى البرية والقوى البحرية ودخل الاستعمار الإنجليزي الهند بعد أن مهدت لذلك شركة الهند التجارية.
سيادة مصر والصين والهند وبابل وأشور كلها من نوع يمكن أن نطلق عليه (السيادة النهرية) لأن وجود الأنهار في هذه البلاد كان العامل الأكبر في نهضة أهلها وإن كان لكل منها طابع خاص حسب ما امتازت به من عوامل جغرافية أخرى. ولكننا هذه المرة أمام شعب آخر هو شعب الفينيقيين الذي شق لنفسه السيادة عن طريق البحر. فالبحر الأبيض المتوسط بموقعه يتوسط العالم القديم، وهو بحر داخله يكاد يكون مغلقا لذا كانت مياهه هادئة معظم فصول السنة لا نرى فيها ما نراه في المحيطات وبعض البحار الأخرى من اضطراب وأمواج عالية. وهو صالح للملاحة طول السنة لا تتجمد مياهه كبقية بعض البحار الأخرى. يمتاز بكثرة بحاره الداخلية المتفرعة منه وبكثرة أشباه الجزر والجزر التي يندر أن يختفي اليابس عن نظر المسافرين فتتولد في نفوس عابريه روح المغامرة والمخاطرة لشعورهم بالأمن فيه، ولذا كان خير مدرسة لتخريج خير الشعوب البحرية وكان في مقدمة هذه الشعوب الشعب الفينيقي. وكان للفينيقيين من بيئتهم الجغرافية ما جعلهم أساتذة للبحرية، فبلادهم ذات سهل ساحلي ضيق تشرف عليه جبال عالية تفصلهم عما وراءهم من بلاد داخلية، ولذلك أعطوها ظهورهم واتجهوا بأنظارهم إلى البحر حيث الأفق الذي لا يحد وحيث تجد غريزة حب الاستطلاع مجالا لها فاندفعوا إلى البحر، وكان لهم من مميزاته التي سبق ذكرها ما جعلهم يتفوقون بعد أن أتقنوا فن الملاحة فطافوا بسواحل البحر الأبيض المتوسط وأنشئوا المحطات التجارية فيه وتاجروا بين أقطاره المختلفة. غير أنهم كانوا في كل ذلك يتخذون من المياه الساحلية طريقا لهم ولم يعملوا على توفير الوقت باختصار المسافات شأن كل شيء في بدايته، حتى إذا تخرج على أيديهم اليونان فاقوا أساتذتهم في هذا المضمار وانتقلت إليهم السيادة البحرية لأنهم وجدوا فيها حياتهم فأتقنوها! ذلك أن بلاد اليونان شبه جزيرة جبلية تقل فيها السهول وتكثر بها الجبال والخلجان البحرية والجزر بشكل واضح، فاتخذوا من هذه الجزر والبيئة البحرية معاهد لتخريج ملاحين مهرة بعد أن تلقوا مبادئ هذا الفن على أساتذتهم الفينيقيين، وساعدهم هذا الفن على التغلب على ما في بلادهم من فقر فاتخذوا من صيد السمك مهنة لكسب عيشهم كما اتخذ فريق منهم السفن وسيلة لنقلهم إلى البلاد الأخرى التي هاجروا إليها لضمان حياتهم فنشروا معهم فنهم وطابعهم الخاص في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط؛ كما لجأ بعضهم إلى احتراف الجندية فكانوا جنودا مرتزقة يحاربون في صف من يضمن لهم الحياة. أما غالبيتهم فقد اتخذوا القرصنة حرفة فسادوا البحر وتحكموا بمسالكه. وهكذا عاش اليونان في البحر وعن طريقه تملكوا زمام القوة. وكان لا بد لهذه القوة البحرية أن تصطدم بالقوة البرية التي كانت هي الغالبة حتى ذلك الوقت، وكانت معركة سلاميس البحرية هي فصل الختام في النزاع الذي قام بين الفرس واليونان، وكان لا بد للفرس من الهزيمة لأنهم أساءوا اختيار ميدان الحرب وأعطوا الفرصة لليونان لإظهار سيادتهم البحرية.
ظلت القوة البحرية صاحبت السيادة وظل اليونانيون أصحابها إلى أن ظهر في هذا الميدان من نافسهم وانتزعها منهم. والحق أن الفينيقيين كما كانوا أساتذة للإغريق كان الإغريق أساتذة لغيرهم، فهم الذين وضعوا نواة نهضة روما التي سرعان ما ظهرت للوجود كقوة لها مكانتها الخاصة لما يحيط بها من ظروف جغرافية ساعدتها على توحيد إيطاليا بزعامتها، فتطلعت للخارج وكبر على نفسه أن تكون سجينة في البحر الأبيض وهي التي تتوسطه وتتحكم في حوضه ولها من سواحلها الطويلة ما يجعلها عرضة للخطر، وكان لا بد لها من أن تتغلب على ما عاداها من دول أخرى منافسة حتى تضمن حياتها، وسرعان ما تم لها الأمر وهزمت قرطاجية واستعمرتها، كما تغلبت فيما بعد على دول البطالة وملكت مصر. وهكذا أصبحت روما سيدة البحر الأبيض وحق لأهلها أن يقولوا إلا أن روما في هذه المرة استطاعت الجمع بين القوتين البرية والبحرية وكان لها في سرعة انتقال جيوشها ما جعلها تتغلب على أي خطر تستهدف له؛ ولم تأت هذه السرعة إلا عن طريق مد الطرق والاهتمام. بها وما زالت باقية هذه الطرق المعروفة بالاسترادا موجودة في كثير من البلاد التي قدر لها أن تكون ضمن الإمبراطورية الرومانية كما هي الحال في الأجزاء الجنوبية الشرقية من إنجلترا. ولم ينبغ الإيطاليون في فن مد الطرق صدفة بل كان لهم في طبيعة بلادهم الجغرافية ما جعلهم سادة هذا الفن، وما زالت الشركات الإيطالية تحتل المكانة الأولى في رصف الطرق في بلاد العالم حتى يومنا هذا. وبالنظر إلى شبه الجزيرة الإيطالية نجد روما تتوسط ساحلها الغربي وفي وسطها سلسلة من الجبال العالية تمتد من الشمال إلى الجنوب وتحف بها من على الجانبين سهول طويلة؛ وقد وجد أهل روما في هذه السهول وفي أحجار هذه الجبال ما ساعدهم على مد الطرق لربط أجزاء شبه الجزيرة ببعضها، وهكذا جعلت الظروف الجغرافية إيطاليا المدرسة الأولى لفن مد الطرق ورصفها.
ولنترك الإمبراطورية الرومانية وقد أخذت عوامل الضعف تتنازعها وهي في مجموعها عوامل جغرافية يطول علينا شرحها. ولنتجه إلى الركن الجنوبي الشرقي من البحر الأبيض المتوسط حيث نرى موطنا لسيادة من نوع آخر هي السيادة الروحية! ففي هذه البقعة ظهرت الديانات السماوية جميعها من موسوية ومسيحية ومحمدية، ولم تكن هذه البقعة صدفة موطنا لهذه الديانات ولم يمنحها الله سبحانه وتعالى هذه الميزة عبثا، بل كان ذلك لتوسط موقعها الجغرافي الذي ساعد رسل هذه العقائد وأتباعها على نشر رسالتهم خصوصا ولم تكن سهولة المواصلات في ذلك الوقت قد وصلت إلى ما هي عليه الآن فالإنسان إذا أراد إضاءة حجرة وتوزيع نور مصباحه على أركانها بالتساوي ما عليه إلا أن يختار مكانا وسطا لوضع مصباحه فيها وهكذا فعل الله في أرضه فكانت شبه الجزيرة بأطرافها موطنا لهذه العقائد السماوية.
زحف الإسلام من المدينة تسنده قوته البرية فاستطاع العرب التغلب على أعدائهم لأنهم أحسنوا اختيار ميدان القتال فكانت الغلبة لهم! حتى إذا وصلوا إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط وجدوا عدوهم قد فاقهم بسيادته البحرية فكان لا بد لهم من الاستعانة بالقوة البحرية لقهر أعدائهم. وقد ساعدتهم البيئة الجغرافية الجديدة على تحقيق هذه الأمنية فاتخذوا من موانئ الشام وغيرها قواعد لأسطولهم الجديد حتى إذا كانت واقعة (ذات السواري) البحرية في عهد ثالث الخلفاء الراشدين كانت الغلبة لهم وكانت هذه الواقعة خاتمة السيادة البحرية للروم كما كانت موقعة (سلاميس) السابقة الذكر بداية السيادة البحرية لأسلافهم اليونان.
وسرعان ما تفوق العرب في الميدان البحري واندفعوا في هذا الطريق حتى تسمي البحر الأبيض المتوسط باسمهم؛ ولم يقتصر نشاطهم على هذا البحر بل اتجهوا بسفنهم إلى البحار الدفيئة الجنوبية فكانت لهم فيها السيادة كذلك! وما وصول الإسلام وانتشاره في جزر الهند الشرقية إلا بقية من نشاط تجارهم الذين سادوا تلك البحار.
هكذا لعب البحر الأبيض المتوسط دوره في نهضة الشعوب وهكذا كان مدرسة لتخريج المغامرين الذين اندفعوا يستطلعون ما وراء أفقه، فكان كشف طريق رأس الرجاء الصالح وكان كشف الأمريكيتين وكان تحول آخر في تاريخ الإنسانية بهذه الكشوف وكانت السيادة المحيطية يعد أن كانت السيادة للبحار. ذلك أن البحر الأبيض المتوسط أصبح لا يتمتع بما كان يتمتع به من مركز ممتاز بتوسطه بين العالم إذا انتقلت هذه الميزة إلى المحيط الأطلسي فأصبح له الدور الأول في تاريخ الإنسانية، وسرعان ما تبع ذلك انتقال السيادة من دول البحر الأبيض المتوسط إلى دول غربي أوربا التي كان لها بفضل موقعها ما دفعها إلى العالم الجديد واستغلاله، وتشاء الجغرافية أن يصحب هذا التحول في السيادة تحول آخر في دعائمها! إذ كانت سيادة دول البحر الأبيض سيادة تعتمد على الإنتاج الزراعي قبل كل شيء! وإن وجدت بعض الصناعات فهي لا تتعدى استخراج الزيت وعصر العنب. أما الصناعة بالمعنى الذي نفهمه اليوم فكان ظهورها بظهور دول غربي أوربا وانتقال السيادة إليها. ذلك أن وفرة الفحم والحديد إلى جانب ما تتمتع به موقع جغرافي بعد كشف العالم الجديد جعلها الميدان الأول للإنتاج الصناعي فكان لها الصدارة بين دول العالم، وكان لا بد لهذه الدول أن تحصل على المواد الخام الزراعية اللازمة لصناعاتها وأن تجد الأسواق لتصريف ما تنتجه، فتسابقت إلى الاستعمار مما أدى إلى التنافس بينها وقيام الحروب، وما تاريخ دول غربي أوربا في العصر الحديث إلا سلسلة من هذه الحوادث المتتالية. وكان لا بد أن تكون الغلبة للدولة التي تعتني بقوتها البحرية وتزيد من سرعة سفنها، فظهرت عابرات المحيطات لقطع المسافات الطويلة بعد أن كانت البحرية لا تعرف إلا السفن الصغيرة والمراكب الشراعية، وكانت بريطانيا في مقدمة هذه الدول وكان لها في موقعها الجغرافي ما جعلها تختط لنفسها سياسة معينة! فهي متطرفة الموقع بالنسبة للقارة الأوربية لذلك لم تشترك في المشاكل الخارجية إلا بالقدر الذي مس مصالحها، ولما كانت هذه المصالح قد أخذت تتزايد بمرور الزمن وتتشابك كثر تدخلها في السياسة العالمية.
ولقد كان الموقع الجغرافي للجزر البريطانية المحور الأساسي لسياسة الإمبراطورية البريطانية الذي يمكن تلخيصه في ضرورة المحافظة على التفوق البحري وعدم السماح لأية قوة أخرى بالتفوق عليها في هذه الناحية! وهي كذلك بموقعها الجغرافي مدينة بانتشار النظام الديمقراطي بين سكانها، فهي بعزلتها البحرية ليست في حاجة إلى قوات عسكرية دائمة لحمايتها، لذلك كانت السلطات الحاكمة تخشى القيام بأي تصرف استبدادي حتى لا تقوم الثورات في وجهها فتعجز عن قمعها وتعرض حكمها للزوال. ولهذا كانت السلطات الحاكمة تتمشى مع رغبات الشعب وقد وصلت بهذه الطريقة إلى ما وصلت إليه من حياة ديمقراطية، ولهذا أيضاً احتفظت بريطانيا بسياسة التطوع في سلك الجندية ولم تحاول إتباع النظام الإجباري للجندية إلا في الحرب العالمية الأولى حين أجبرتها الضرورة على ذلك وبعد أن ألحت عليها فرنسا، حتى إذا انتهت الحرب عادت إلى نظامها القديم ولكنها عادت مرة أخرى إلى فرض الجندية الإجبارية في الحرب العالمية الأخيرة حتى تجابه ما كانت تتطلبه الاستعدادات الحربية.
وكان لا بد أيضاً وقد أصبح المحيط الأطلسي ميدانا للنشاط العالمي أن تسعى الدول وتتنافس فيما بينها لكسب الوقت حتى تروج صناعاتها وتتقدم تجارتها، فأدخلت التحسينات على وسائل المواصلات البحرية وأوجدت أنواعا أخرى وكان على رأس ما اهتدت إليه فن الطيران واختراع الطائرات، فبدأت القيادة الجوية تلعب دورها في التاريخ بعد أن بلغت السيادة البحرية أوج عظمتها في دول غربي أوربا، وكان العالم الجديد ممثلا في الولايات المتحدة الأمريكية خير ميدان لهذه السيادة الجوية التي أثبتت وجودها في الحرب العالمية الثانية كعامل فعال في إحراز النصر. وبفضل ما أنتجته الولايات المتحدة الأمريكية من سلاح جوي واختراع للقنبلة الذرية استطاع الحلفاء إحراز النصر وأن يتنفس الصعداء بعد أن كاد الإجهاد يلحق بجنودهم لطول الكفاح وصمود العدو العنيد المستميت.
هكذا كانت العوامل الجغرافية من توزيع لليابس والماء والحرارة والبرودة ووجود للأنهار والبحار والمحيطات والغلاف الجوي المعز الأول للسيادة العالمية والحوادث التاريخية وفي دراسة أثر هذه العوامل في الإنسان دراسة للتاريخ البشري على حقيقته، ولهذا يحسن بنا أن نقسم العصور التاريخية، على أساس العوامل الجغرافية التي كان لبعضها الأثر الواضح دون سواه فنقول مثلا: عصر اليابس وعصر الأنهار وعصر البحار وعصر المحيطات وعصر الهواء. . كما يقول المؤرخون: عصر ما قبل التاريخ والعصور التاريخية والعصور القديمة والعصور الوسطى والعصر الحديث والزمن المعاصر.
مصطفى بعيو الطرابلسي