مجلة الرسالة/العدد 1018/فيم أكتب!

مجلة الرسالة/العدد 1018/فيم أكتب!

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1953



للأستاذ محمود محمد شاكر

إلى أخي الأستاذ الزيات

السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد، فقد دعوتني فاستجبت لك، رضى بك وعنك. بيد أني أحببتك ساخطاً على نفسي، والجمرة الموقدة أبرد مساً من سخطة امرئ على نفسه. كنت عزمت أن أدع هذا القلم قاراً حيث هو، في سنة لا تنقطع، يعلوه صدأ لا ينجلي. وظللت أياماً أسأل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟

بقي ما كتبته لك آنفاً معلقاً يوماً كاملاً، حتى خلتني مخلفاً لك موعدي. والساعة ذكرت أمراً: ذكرت أني ختمت مقالاتي المتتابعة في الرسالة، منذ خمس سنوات تقريباً، بسؤال آخر: (لمن أكتب؟). وقلت يومئذ إني لم أحاولقط أن أعرف لمن أكتب؟ ولم أكتب؟ ولكني أحس من سر قلبي أني أكتب، ولا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو. أهو حي فيسمعني، أم جنين لم يولد سوف يقدر له أن يقرأني؟ ووصفت يومئذ شراذم الساسة الذين لوثوا تاريخ الحياة الإسلامية والعربية، في حيث كان الإسلام وكانت العرب. ووصفت رجال العلم المتعبدين لساداتهم من أهل الحضارة الفاسدة التي تعيش بالمكر والحقد والفجور. ووصفت أصحاب السلطان في الشرق، وهم حثالة التاريخ الإنساني، ووصفت أهل الدين، ألا من رحم ربك، الذين يأكلون بدينهم ناراً حامية. وزعمت أني لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المطبقة المحيطة بنا، فيدفعهم حب الحياة وحب الخير، إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم.

ثم ذكرت هذا الرجل الذي طواه الغيب إلى ميقاته، فأنا أكتب له حتى يخرج من غمار هذا الخلق، وينفرد من هذه (السائمة)، ليقود الشعوب بحقها لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي تنبض به ضمائر قلوبها. رجل خلطت طينته التي منها خلق، بالحرية. فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبداً لأحد من خلق الله. يسير بين الناس، فتسرى نفسه في نفوسهم، وتموج الحياة يومئذ بأمواجها، ثم لا يقف دونها شئ مهما بلغ من قوته وجبروته. وزعمت أن الشرق العربي والإسلامي، ينتظر صابراً كعادته هذا الرجل، وأننا قد أشرفنا على أمره قد كتب الله علينا فيه: أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل، لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد أرضعنا الدهر بلبانها منذ الأزل البعيد.

ثم ختمت كلامي بهذه الفقرة: فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة، يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة، التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فترمنها شريك).

كتبت هذا يومئذ، والناس في ظلمة ليل بهيم. ومنذ ذلك اليوم والأحداث في الشرق العربي والإسلامي آخذ بعضها برقاب بعض. وحركت الأحداث المتتابعة نواعس الآمال، فهبت تمسح من عيونها النوم المتقادم. ثم حملقت في أكداس الظلام المركوم، فأوهمتها اليقظة أن الظلام من حولها يومض من بعيد ببصيص من نور. فتنادت الصيحات بانقشاع الظلم: وا فرحتاه! وصرخت أنا في محبسي: وا حسرتاه! أعمى رأى الظلام نهارا!

كانت الدنيا يومئذ ظلاماً، ونعرفها نحن ظلاما. والمعرفة دائماً تفضي إلى خير. ثم أصبحت الدنيا أشد ظلاما. ونتوهمها نحن نورا ينبثق. والتوهم عماده الكذب. ولا فلاح لشيء إلا بالصدق وحده.

لقد طرأت على هذا العالم العربي والإسلامي طوارئ، فإذا لم يصدق نفسه فلا نجاة له. واحتوشته الأمم المفترسة بأساليبها الظاهرة والخفية. فإذا لم يصدق النظر فلا خلاص له. لست قانطاً ولا مقنطاً. كما يتوهم من يحب أن يتوهم. ولكني أرى بلاء نازلاً بنا. ونحننخوضه كأنه رحمة مهداة. وبئس ما نفعل؟ وبئس مطية الأعمال الكذب.

من حيث أتلفت أرى وجوها تكذب، ووجوها مكذوباً عليها. وأسمع أصواتاً تخدع، وآذاناً مخدوعة بما تسمع. وأقرأ كلاماً غمس في النفاق وفي التغرير غمساً. وألمح في عيون المساكين ممن قرءوه غفلة تتلألأ بفرحة ولكنها فرحة لا تتم عليها إلا بالعمى المطبق عن الحق والصواب. إن هذا كله إعداد للمجزرة الكبرى. حيث تذبح الآلاف المؤلفة منا بمدى حداد استخرج حديدها من معدن القلوب المضطغنة بالعصبية، المنهومة بالمنفعة. وأمهاها ماء الحقد الصليبي الوثني؛ وأرهفت بلذة الفتك الذي لا تطفأ ناره.

إن الذي نعيش فيه اليوم حياة قد مهد لها جبابرة الدهاة؛ لا أقول منذ عام أو عامين، بل منذ أكثر من مائتي عام. حطم كل شئ قليلاً قليلاً حتى خر البناء كله. ثم انبعثت من تحت الأنقاض حياة خبيثة تلبس إهاب البشر. غذيت بالسم الذعاف حتى صارت لحماً وسما. لا لحماً ودماً؛ ولا يعنيك أو يعنيني أن ننظر: أهي تعرف نفسهاوتدرك أنها مسخت أفاعي في مسلاخ إنسان، أم تراها لا تعرف ولا تدرك؟ بل يعنينا - ويعنيها هي أيضا - أن نصدق المعرفة أنها حيات تنفث سمها في حياة الناس؛ في حياة الغافلين النائمين. فمن استعصى عليها فتكت به؛ ومن أطماع لسمها مسخ كمثلها حية تسعى. فإذا قدر لهذه الحيات أن تبلغ الغاية التي مسخت لها؛ فلن يتم ذلك حتى تكون الأرض العربية والإسلامية كلها خراباً من البشر الأحرار؛ خراباً تعمره العمار من أفاع وحيات وأصلال.

من مخافة هذا اليوم كنت أكتب قديماً ما استطاع هذا القلم أن يكتب، ثم وجدتني فجأة في موج متلاطم من الضلالات، تتقاذفه ضلالات العلم المكذوب، وضلالات الرأي المدلس، وضلالات السياسة الخداعة. وإذا الأرض من حولي تعج بترتيل مظلم مخبول؛ وإذا السماء من فوق تهتف بتسبيح كالح مزور؛ وإذا صوتي يضيع في سمعي؛ فهو إذن في أسماع الناس أضيع؛ وتردد في صدري شعر الحكمى؛ فاستمعت له وسكت:

مت بداء الصمت خير ... لك عن داء الكلام

إنما السالم من ... ألجم فاه بلجام

فلما دعوتني فأجبت، انقلبت أسائل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟ إن بيني وبين الأسماع والأبصار والقلوب، حجاباً صاخباً من غماغم الدجاجلة، وهماهم الأفاكين، وثغاء أهل الغش، وضغاء أخدان النفاق. . . ويذهب قولي باطلاً ويضيع صوتي مختنقاً، ولم أجن عندئذ عن حياتي إلا شقاء يقول فيه القائل: (إن الشقي بكل حبل يخنق)، حتى حبل الحق والصدق!. وإنك لتعلم: أن لو أني عرفت للكتابة ثمرة، لما توقفت ساعة، ولما أبطأت دون ما وجب على

بأي لسان أستطيع أن أفتق للناس أسماعها غير الأسماع التي طمها الكذب المسموع؟ وبأي قلم أستطيع أن أسلخ عن العيون غشاوة صفيقة لبسها الكذب المكتوب؟ وبأي صوت أستطيع أن أنفذ إلى قلوب ضرب عليها نطاقمن الكذب المسموع والمكتوب؟ وبأي لسان، و بأي قلم، وبأي صوت؟ ولكنه، على ذلك كله واجب، وإن كان جهد لا ثمرة له! وهو كذلك، وإذن فليس لي أن أسأل نفسي: فيم أكتب؟ ولم هذا العناء والنصب؟ وعلام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟

وإذن فقد كتب على أن أنصب وجهي لهذا الشقاء الصبيخود، لا أبالي أن أحترق، ولا أحفل أن أعود سالماً، ولا آبه لما يصيبني، ما دام حقاً علي أداؤه.

إنها أيام بلاء ومحنة: من عدونا حيث بلغ منا كل مبلغ، من أنفسنا، حيث صار كل امرئ منا عدو نفسه وعقله، عدو تاريخه وماضيه، عدو مستقبله من حيث يدري ولا يدري. وإنها أيام ضلال وفتنة، تدع الحليم الركين حيران، بلا حلم ولا ركانة، تدع البصير المهتدي، أعمى بلا بصر ولا هداية. تدع الصادق الحازم، غفلاً بلا صدق ولا حزامة. ولكنها على ذلك كله، كتبت على الحليم الركين، وعلى البصير المهتدي، وعلى الصادق الحازم - أن يعيش في شقائها بلا ملل، وأن يكون فيها كما قال شاعر الخوارج، عمران بن حطان، في أهل الدنيا:

أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ... على إنهم فيها عراة وجوع

فمنذ حملت إليك هذا القلم، استجابة لدعوة لم أجد ردها من الأدب ولا من الوفاء في شئ، عرفت أني سوف أكتب كما كتبت قديما، لأتعجل انبعاث رجل من غمار أربعمائة مليون من العرب والمسلمين، تسمع يومئذ لحكمته الأجنة في بطون أمهاتها، وتهتدي بهديه، الذراري في أصلاب الآباء والأمهات.

ولكنك بعد، قد أنزلتني بحيث يقول القائل:

حيث طابت شرائع الموت، والمو ... ت مراراً يكون عذب الحياض

فأنا إن شاء الله بحيث أحببت لي أن أنزل، والسلام.

محمود محمد شاكر