مجلة الرسالة/العدد 1018/كلمات خمس

مجلة الرسالة/العدد 1018/كلمات خمس

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1953



لحضرة صَاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت

طالعتنا النهضة الجديدة بخمس كلمات، لو أمعنا النظر فيها وعرفنا دلالتها ومغزاها، ثم رجعنا إلى تاريخ المجتمعات البشرية، وتتبعنا العوامل التي هيأت لها القوة في أطوار قوتها، والعوامل الأخرى التي أنزلت بها الضعف في أطوار ضعفها - لوجدنا هذه الكلمات تعبيراً صادقاً عن عوامل الضعف التي يجب أن تكافح، وأن تقضي عن محيط الحياة الجماعية للإنسان، ولوجدناها في الوقت نفسه تعبيراً صادقاً كذلك عن العوامل التي يجب أن تتخذ أساساً لبناء المجتمع عليها. تلكم الكلمات هي: التحرير، والتطهير، والاتحاد، والنظام، والعمل.

كلمات خمس، نطقت بها طبيعة إنسانية بريئة، صيغت على الإيمان بالله واستشعار عظمته، وتفرده بالملك والسلطان، فلم يمسها دنس الطغيان، ولا خبث الرجس ولا عصبية التفرق، ولا عبث الفوضى، ولا ترف العجز والكسل. وكان منها العلاج القوي من جراثيم المرض الذي يقعد بالمجتمعات عن مواصلة السير في سبيل الحياة النافعة، وكان منها مزيج القوى التي تدفع بالمجتمعات إلى بلوغ أقصى درج الكمال الممكن للإنسان في هذه الحياة.

وهي بعد هذا وذاك تصور بمعناها ووحيها المبادئ الإلهية التي جاء بها الإسلام ليعتمد الإنسان عليها في الوصول إلى الأهداف السامية النبيلة، ويحقق بها حكمة استخلافه في الأرض. فالإسلام يدعو إلى تحرير العقل من أسر الوهم والتقليد، ويدفع بالإنسان إلى النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ، ليتعرف أسرار الله في خلقه، ونواميسه في كونه، ويتخذ منها وسائل العمران والتقدير. وهو المعبر عن خصائص ما خلق الله، يقرر أن للإنسان إرادة مستقلة هي أساس مسئوليته، ومرجع محاسبته، وبها تتحقق إنسانيته، وبها يكون جزاؤه، ويعلن أن على الإنسان أن يحتفظ بتلك الإرادة احتفاظه بإنسانيته، وأن على الجماعة البشرية أن تمكنه من الاحتفاظ بها والرجوع إليها، وبذلك لا يقبل الإسلام من الإنسان وقد كرمه الله هكذا بالعقل والإرادة أن يطفئ مصباح الكون على عقله، ولا أن يسلم عقله لعقل غيره، ولا أن يذيب أرادته في إرادة غيره، ولا أن يجعل نفسه ظلا لغيره: يسكن إذا سكن، ويتحرك إذا تحرك، وينحرف إذا انحرف ويستقيم إذ استقام، ويؤمن إذا آمن، ويكفر إذا كفر، وأخيرا يحيا إذا حي، ويموت إذا مات.

وفي سبيل هذا كله فتح الله للإنسان كتاب كونه، وأرشده إلى أبواب ثمانية في أية واحدة من كتاب وحيه، ثم ذيلها بما يوجه أرباب العقول إلى ولوجها واستثمار ما يصلون إليه منها في قوة الإيمان، وتقدم الحياة. واقرأ في ذلك قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحابالمسخر بين السماء والأرض، لآيات لقوم يعقلون). ثم قرأ قوله تعالى في تحرير العقل ونعيه الشديد على من أهمل عقله، وحرم نفسه نعمة النظر والتفكير (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ؟) وقوله (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) وقوله (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون. قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون، فانتقمنا منهم فأنظر كيف كان عاقبة المكذبين).

ثم أُنظر قوله تعالى في تحرير الإرادة واحترامها (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا). وقوله حكاية عن موقف الأتباع من المتبوعين بعد أن أسلموا إليهم إرادتهم وحريتهم، وعاينوا مسئوليتهم وحسابهم على ذلك (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم ضعفا من العذاب، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون). (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار).

بتحرير الإسلام عقل الإنسان وإرادته هكذا، كافح أن يستعبد الإنسان فمنع أن يسترقه بالبيع والشراء، وقصر ذلك على أن يكون جزاء لمن حارب دعوة الله ووقف في سبيلها، وقاتل المؤمنين بها، لا شئ سوى أنهم آمنوا بها، ومع ذلك فقد حبب في فك رقابهم وكفر به كثيراً من الأخطاء الدينية، وجعل فك الرقبة، العقبة التي إذا ما اقتحمها الإنسان كان من أصحاب الميمنة (فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة).

ومنع أن يسخر الإنسان بالعمل والخدمة، وأن يتخذه آلة في سبيل شهوته وهواه، وجعل قيام الناس بالقسط، وتمكين كل ذي حق من حقه - فردا كان أم جماعة - الهدف الذي جاءت به الرسل، ونزلت لأجله الكتب (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).

وإذا كملت للإنسان حريته في عقله وإرادته، واستقام له أن يفكر وأن يريد، وارتفعت عنه يد الضغط والتسخير، وجب عليه أن يخطو الخطوة الثانية، فيطهر نفسه من الأخلاق الرديئة التي تنزل بإنسانيته عن المستوى الذي كرمها الله به، والتي تفسد عليه وجوه الانتفاع بحريته؛ فلا يحقد، ولا ينافق، ولا يجبن، ولا يبخل، ولا يشي، ولا يكذب، ولا يخون، ولا يرجف.

وعنصر التطهير الخلقي كان من أوائل ما وضع في مهمة الرسالة المحمدية (قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، وربك فاصبر).

وقد بينت الرسالة عليه جميع أحكامها حتى حرمت الغش، والاستغلال، والتغرير في المبادلات المالية.

وإذا كملت للإنسان حريته، وطهرت نفسه كما أمر الله، صار لبنة صالحة لبناء مجتمع فاضل، منه ومن أمثاله الذين كملت حريتهم وطهرت نفوسهم، وبتساند تلك اللبنات الصالحة، وتعانقها، تصير الجماعة قوة واحدة، لها شعارها، ولها هدفها، يؤثر الفرد فيها حاجتها عن حاجته، وترى هي أن حاجة الفرد من حاجتها، وذلكم هو الاتحاد المجمع للقوى، المحقق للتعاون، وقد طلبه الإسلام في الجماعات كلها، صغيرة كانت أم كبيرة: طلبه من أبناء الأُسرة الواحدة (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وطلبه من أبناء الدين الواحد (إنما المؤمنون إخوة. والمؤمنات والمؤمنون بعضهم أولياء بعض). وطلبه من أبناء الوطن الواحد (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش، قليلاً ما تشكرون). امتن على الجماعات الإنسانية بأن مكن كل جماعة منها في أرضها وإقليمها، وبأن وهبهم فيها موارد العيش والرزق والحياة، وأوحى إليهم بالمحافظة عليها، واستثمارها، والانتفاع بها، شكراً على تلك النعمة: فمن الكفر بها أن تتخاذل الجماعة عن الدفاع عنها؛ واستخراج كنوزها.

ثم طلب الاتحاد بعد ذلك من أبناء الإنسانية جميعاً، وفي سبيله ناداهم بوصف الإنسانية العام، وأعلنهم بوحدة الأصل الذي يجمعهم في رحم عامة واحدة (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منها رجالاً كثيراً ونساء) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).

هكذا طلب الإسلام (الاتحاد) وجعل لكل جماعة من هذه الجماعات حقوقاً خاصة تساهم فيها أفرادها، وتتعاون عليها، دون أن تطغي حقوق على حقوق، وهذا هو دين الله ونظامه الذي أمر الناس أن يتمسكوا به، ويستظلوا بظله، وحذرهم أن يتفرقوا فيه (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ) وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).

وبهذا قضي الإسلام فيها بين الناس على نوازع العصبية: الجنسية، والإقليمية، والحزبية، والأُسرية. وجعل من بني الإنسان وحدة عامة شاملة، تعمل لغاية واحدة، هي: عمارة الكون على نحو يملؤه بالأمن والاستقرار، ويكون مظهراً لرحمة الله بعباده.

وإذا اتحدت القلوب هكذا، وتبادلت الشعور بالحاجة، لزم لاستثمار هذا الاتحاد في الوصول إلى الأهداف، تنظيم القوى، وسيلة توجيه كل قوة إلى العمل فيما تحسن وتجيد؛ فقوى العلم للعلم، وقوى التجارة للتجارة، وقوى الزراعة للزراعة، وقوى الصناعة للصناعة، وبذلك تسند الشؤون إلى أربابها، ولا يطغي ذو شأن على ذي شأن، فتضطرب القوى وتصطدم الرغبات، وتصاب الجماعة بالكساد وشلل الإنتاج. وذلكم هو (النظام) الذي بنى الله عليه كونه، وجعل لكل عنصر من عناصره في أرضه وسمائه عمله الخاص، وإنتاجه الخاص، ثم لفت إليه نظر الإنسان ليتخذ منه المثال الذي يحتذ به في حياته. وأُنظر نظام الله في كونه:

للشمس الضياء، وللقمر النور وسحاب المطر، ثم للوحي ملك، وللجبال ملك، وللنفخ في الصور ملك، وللأرض الزرع والسكن، وللماء في الأنهار والبحار الري والسقي، وللإنسان في الأرض السعي والعمل، وللجماد والحيوان التسخير. (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون).

(سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى). وما التقدير وما القدر في هذا وأمثاله إلا نظام الله الذي سوى عليه العالم وجعله يسير بمقتضاه.

هذا نظام ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? أما بعد

فهذه هي مبادئ النهضة لمن يريد أن يفهم النهضة؛ وهي مبادئ الإسلام لمن يريد أن يدين بالإسلام، فابنوا حياتكم عليها، واتخذوا (الإيمان بالله وشرعه) جنتها، يحفظها الله لكم ويرعاها، ويمكن لكم في الأرض، ويجعلكم أئمة ويجعلكم الوارثين (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

محمود شلتوت