مجلة الرسالة/العدد 1019/ترجموا القرآن:

مجلة الرسالة/العدد 1019/ترجموا القرآن:

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1953



محمد عند أهل الغرب

للأستاذ كمال دسوقي

كان الغربيون قبل ترجمة القرآن يتحاملون على محمد والإسلام؛ ولا غرابة في هذا التحامل على الرجل ومذهبه. فمن جهل شيئاً عاداه

ففي غمرة البغيض كتب العالم المشهود له بسعة الأفق والتمرس بالعلوم والرياضيات والآداب - (بسكال) - فيما خلف لنا من خواطره وبتناقض يفضح هذا التعصب والخلو من الروح العلمي - يقول: إن محمداً لم يكن أحد يظاهره؛ ومن ثم وجب أن تكون حجته من القوة بحيث تستند إلى محض قوتها

ولا يلبث أن يذهب - على أثر ذلك - إلى التمييز بين القدرة على الغموض والإبهام، والقدرة على الإثبات بسخف القول، آخذاً ما لم يفهم من القرآن على المحمل الأول، ناظراً إلى ما وصل إلى علمه القليل منه على المحمل الثاني - متمنياً لهذا الأخير لو أنه كان من النوع الأول حتى لا يكون في هزؤ الثاني وسخريته - فيما يرى! فما دام القرآن قد قال إن متي رجل طيب، فمحمد نبي زائف، لأنه يقول عن الأشرار إنهم أخيار، ولا ينظر إليهم من حيث ما قالوا وما آمنوا بالمسيح!

إن كل رجل يستطيع أن يفعل ما فعل محمد؛ لأنه - في نظر باسكال - لم يأت بمعجزة، ولم يوح إليه؛ ولا أتى ببعض ما جاء به المسيح. محمد قام على التقتيل - تقتيل أعدائه؛ أما المسيح فبقتل أصحابه محمد بالأمية وتحريم القراءة؛ أما المسيح فبالتعليم والقراءة. ولئن كان محمد قد سلك طريق النجاح كانسان، معنى ذلك فليس أن المسيح كان يستطيع أن يكون أكثر نجاحاً لو سار على الدرب فحسب؛ بل إن المسيحية كان يجب إن تهلك لو لم تكون مؤيدة بعون سماوي!

وإذا كان هذا بعض ما يذهب إليه رجال العلم الأحرار من الشطط في النظر إلى محمد والإسلام - فيحكمون على القران بأنه معان صبيانية في الرب سماوي وهم لن يفهموا الأسلوب. وقد يفهمون المعاني لأنها في معظمها واردة في كتبهم. . نقول: إذا كان هذا بعض ما يذهبون إليه وهم علماء مهمتهم الدرس والتمحيص والوحيدة والبرء من الغرض - فلا غرابة في أن يذهب الشاعر الإيطالي دانتي إلى تصوير الرسول صلوات الله عليه هذا التصوير النابي لأنه - فيما يرى الشاعر - قد أرتكب جريمة الإتيان بدين زائف، وادعى أنه يطلع على الناس بتنزيل سماوي جاء بما لم تأت به المسيحية

على أنه منذ ظهرت ترجمتنا القرآن لأول مرة في القرن الثامن عشر - قرن التنوير في العلم والدين: ترجمة صال التي ظهرت سنة 1734 وترجمة سافارى (1782) بدأ الاعتدال يظهر على أقلام الكتاب بدء بأولئك المترجمين أنفسهم - وهم أقدر من يستطيع أن يفهم الإسلام في ذلك الحين بحكم توفرهم على ترجمة كتابه المنزل. فإن ثاني هذين الرجلين يرى أن محمداً أحد هؤلاء الرجال الخارقين للعادة الذين يظهرون بين الحين والحين على وجه الأرض يغيرون معتقدات أهلها ويجرونهم في عجلة انتصارهم. إن سافاري يرى في محمد مثلاً أعلى لما تنتجه العبقرية الإنسانية حين عالمياً جديداً ذا عقيدة سهلة مطابقة للعقل، ومبدأ غاية في البساطة واليسر: الإيمان بإله واحد يثيب المحسن ويعاقب المسيء

ونحا نحو سافاري في تقدير القرآن ونبيه الذي أنزل عليه كتاب أحرار لم يروا غضاضة في تمجيد دين لا يتعارض مع دينهم - منهم تيربان الذي يقول (في تاريخ حياة محمد - باريس1773 - ) - وأن لم يخل من التحامل اللاذع عليه أحيانا - إنه رجل خارق للعادة. حبته الطبيعة بكل مزية يتزود بها الرجل الكامل، وبعبقرية يتمتع بها المحظوظون من الناس (الموعودون بالأرض)، ثم يقول: إن إخلاصه لرسالته لا نزاع فيه. وأنه قد أخلص الدين لله قبل أن يحمل أصحابه على الاعتقاد به.

وغالى بعض الغربيين في الانتصار لمحمد حتى ظن به الغرض وعدم البرء من الغاية؛ وقيل فعلا انه يرمي إلى إعلاء الإسلام على المسيحية؛ ومنه هؤلاء القليل من المنصفين دي بولانفلينيه (في كتابه: حياة محمد) الذي يصور فيه النبي العربي بصورة المشرع المستنير العاقل الذي جاء بدين حكيم يحل محل عقائد اليهودية والمسيحية، وكانت تلك قد أصبحت - فيما يقول بحق - لكثرة خلافاتها مشكوكاً فيها.

ولقد كانت هذه نظرة إلى محمد هي السائدة عموماً بين فلاسفة القرن الثامن عشر الذين لم يعودوا يقبلون التطرف في النظر إلى المصلحين من الرجال تطرف السابقين؛ كما لم يقبلوا تزييف أي دين من الأديان خوفاً منه على المسيحية. لهذا كان من العجيب أن يأتي فولتير. . . في هذا العصر ذاته الذي أتسم بطابع التسامح الديني - فيهاجم هؤلاء الكتاب المنصفين خصوصا صال ودي بولانفلييه قائلاً لها (في مقدمة مأساته عن: محمد سنة 1742): لو إن محمداً قد ولد أميراً، أو لو أنه ولى السلطة باختيار، أمته إذن لوضع قوانين سليمة ولاستطاع أن يحمي بلاده من الأعداء، ولاستحق حينئذ التقدير.

تساعدها الظروف، وأنه - وقد ولد وثنياً! - فقد نشأ لا يعبد إلا إلهاً واحداً لأنه خلال أسفاره قد لاحظ انقسام المسيحيين وتفرقهم شيعاً نتبادل اللعنات. . . كما رأى اليهود حثالة تتشبث في عناد بقوانينها؛ فأراد محمد أن ينشئ ديناً

ويذهب فولتير في تهافت ظاهر إلى حد تجريح منصفي محمد فيقول أن الأصل التركي والإيمان بالخرافات قد أطفأ فيهما كل نور عقلي. لماذا؟ لأنه ما من أحد يستطيع أن يتولى الدفاع عن جمال يحدث ثورة، ويزعم أنه يتصل بجبريل وهو الذي يقتل الرجال ويسبى النساء ليدخلهن في دينه!

ويقول النقاد تخفيفا من ضلال فولتير: لا شك أن فولتير لم يرد أن يقول إن النقائض التي وصف بها بطل روايته موجودة كلها في محمد، وإنما كان للخيال عليه سلطان كبير وهو نفسه يعترف بذلك ويقول تمجيداً لمحمد: إن الرجل الذي يستطيع أن يحارب قومه قادر على كل شئ

ويقولون كذلك إنه قد عاود الكتابة في هذا الموضوع قصد التخفيف من سابق غلوائه وتعصبه، فأعترف بعظمة محمد ومواهبه.

على أن خطر فولتير يتمثل فيمن جاءوا بعده متأثرين به في تناول الموضوع، ولكن عادوا إلى الاستماع لصوت العقل في تساؤلهم: إن مائة وثمانين مليونا من البشر يدينون بهذا الدين مخلصين ويتأثرون محمدا في حياتهم، يحركهم كالنجوم في الأفلاك. وليس من المعقول أن يظن أن هؤلاء كلهم يعيشون ويموتون مجدوعين.

هذا قول نفسه الذي يعجب في بمحمد في استجابته لقانونه الذاتي وإخلاصه لمبدئه وثقته بنفسه وحقيقة وجوده وأصالة شخصيته وما وجه من أنظارنا إلى اللامتناهي واللامحدود؛ والذي يصرح بأن محمدا - نبيناً أو شاعراً - رجل غير عادي.

ما هذا التناقض أذن في تفكير هؤلاء الرجال؟ أنه كما يقول المؤرخون عصر الشك في المعتقدات عند الغربيين. وإذا نظرنا إلى هؤلاء الكتاب وجدنا بعضهم يصدر عن تعصب لدينه المسيحي، وبعضهم يذهب به التعصب للدين إلى حد أن يهاجم ما عداه. وهؤلاء خير من آخرين ملحدين لا يؤمنون بالأديان جميعاً، ولكنهم إذا لا يستطيعون أن يهاجموا دين بلادهم الرسمي ويستعدوا سلطاتهم الدينية فهم يتطاولون على الإسلام ولو لم يعرفوه. والجميع مما نمر بآرائهم عابرين لا يستوقفنا إلا نزاهة البعض واعتداله في تقدير الأمور.

والألمان خصوصاً خير من يتعرض للدراسات الإسلامية بروح علمي لا يشوبه تعصب أو تطرف. وآخر من قرأت له من هؤلاء في ترجمة فرنسية ظهرت أخيراً لكتابه (محمد: حياته ونظريته) الذي نشره جان جود فروى دي مومبين بإشراف معهد الدراسات الإسلامية بجامعة باريس العلامة تور أندريه الأستاذ بجامعة أوبسال الذي حمل المثقفين (في كتابه ظهور الإسلام) على الاعتراف بأن دراسة الإسلامًً تفتح آفاقا جديدة لتطور العقل البشري - كما يقول المؤرخون.

وليس في كتابه (حياة محمد ونظريته) أجمل من تعليله السيكولوجي لتحامل الغربيين على التاريخ الإسلامي. فهو يرجع هذا التحامل لا إلى مجرد الجهل ولا إلى الفكرة السائدة بينهم عن زيف النبي محمد، ولا إلى عداوة الغربيين وكراهيتهم للترك فحسب، بل هو فيما يرى أعمق من ذلك:

إن أقل ما يفهم المرء نفسه - كما يقول - بين والديه. والمسيحي يرى في الإسلام أشياء كثيرة تذكره بدينه هو ولكن في صورة شوهاء. فهو يرى مواد في الدين وآراء في العقيدة مشابهة تماماً لأفكار دينه، ولكنها تأخذ طريقاً آخر إلى غير دينه. وهذه المواد والآراء هي عنده من الألفة بحيث لا يريد أن يرى فيها جديداً أو يعترف لها بأية أصالة. وهو في غمرة عدم الاكتراث لما يظن أنه يعرفه وليس جديداً عليه يمر دون أن يدرك حق الإدراك ما يختفي عليه حينئذ - لعدم حيدته - وهو هذا الاتجاه الروحي الذي جعل الإسلام يحتل مكانة اليوم بين الأديان لمجرد حقه في الحياة والبقاء.

ولا أختم بأحسن مما أختتم به المؤلف الألماني مقدمة كتابه قائلاً للغربيين: إنه قد سهل علينا أن نسبغ أفكاراً دينية غاية في الغرابة والجدة علينا كعقائد الهنود والصينيين. فلكي نفهم النبي العربي وكتابه يلزمنا أفق أوسع ونظرة أدق واستقلال عقلي وروحي أكبر وأتم.

كما أقول للمسلمين في جرأة: ترجموا القرآن إلى كل لغة - وترجموه كل جيل مرة - ولو ظهرت له ألف ترجمة، فلم ينصف الغربيون الإسلام إلا إثر كل ترجمة ظهرت للقرآن، على ما في هذه الترجمات من جمود وخلط وإساءة.

كمال دسوقي