مجلة الرسالة/العدد 1019/صديقي الشاعر

مجلة الرسالة/العدد 1019/صديقي الشاعر

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1953



للأستاذ حبيب الزحلاوي

طالما سمعتك يا صديقي تقول: إن الشعر أسمى أنواع الأدب وأعلاها، وإن الشعراء يسمون بالإدراك الإنساني إلى مراقي وعرفة الحياة، وإنهم مصابيح النفوس، ومنارات الأفئدة، ومشاعل الأذهان، ولهب الأرواح؛ وإن الحياة بغير الشعر وبدون الشعراء ليست إلا صحراء تصفر فيها أبالسة المادة وترقص شياطين الشهوات على عاصف رمالها.

وكنت تقول: إن الشعراء جلبوا من دموع الأسى والأحزان، ومن بسمات الفرح والغبطة، وإنكم كونتم من أنفاس الثكالى ومن مرح الفتيات المرحات. وان قلوبكم بقدر ما هي لينة يذيبها الوجد، هي صلدة صارمة، إن تأثرت من النظرة الحنون، أو من الحدث الاجتماعي، أو من أي أمر يمس الحرية، أو مسألة تدنو من الإنسانية، تغرد أو تزمجر. إن غردت سحرت الإنس وأسكرت الجن، وإن زمجرت طوحت بالتيجان والعروش، وأودت بالطغاة والجبابرة إلى الدرك الأدنى من أودية الجحيم.

وقلت يا صديقي إن الشاعر يسبق جيله، يحسن بما تختلج به الأفئدة، وتدرك بلمحة خاطفة من لمحات ذهنك اللامع ما يجول في الصدور، فتصور ببراعة العبقري أحاسيس النفوس في شتى انفعالاتها، وترسم بنظمك الموسيقى الموزون مشاعر أمتك في مختلف أحوالها.

إن ادعاءك هذا هو الحق المبين؛ ولكن هل علمت يا صديقي الشاعر، أعزك الله وأبقاك، ماذا حدث في مصر وما طرأ عليها من طوارئ وإحداث منذ هل عام 1952 حتى أدركه المحاق؟ هل نقل لك الرواة خبر فئة من العسكريين قامت بعمل من الأعمال؟ هل دريت أن فاروقا الذي طالما سخرت من القمر بدرا إذا شبه بسناه، ومن الزهر عطراً نظراً إذا قورن بشذاه، فاروق ذلك الذي قلت فيه (إن أخلاقه الشخصية قدوة للمصريين) وإنه مثال الأخلاق العالية والنفوس الرضية! إنه أصبح أحدوثة يتندر العالم بأفاعيلها! وسطوراً في سجل التاريخ، وإنه لن يرى مصر أبداً ولن تضم رفاته أرض مصرية قط!

لست أدري يا صديقي الشاعر إذا كنت أحسست طغياناً وقع، أو شعرت بالحرية مست، أو بالحقوق ديست، أو بالأعراض استبيحت، أو بالأرواح أزهقت، لا بأيدي زبانية فاروق بل بيد فاروق وبأمره! أكبر ظني إنك لا تدري شيئاً من ذلك.

أنت يا صديقي الشاعر في واد، والأمة التي أنت منها في وداد آخر. فإذا خفيت عليك فعال اللواء محمد نجيب، وهان عليك إنكار أعوانه الضباط ذواتهم في سبيل الوطن، وشغلت عن التفاف عشرين مليونا من المصريين حوله وقد أنزلوه في حبات قلوبهم، وذهلت عن مائة مخلوق كسالى وألف قعيد سفهاء من مالكي آلاف الفدادين انتزعت منهم لتوزع على فالحي الأرض وزارعيها، ولم تلتفت إلى شعب كانت سمعته تتمرغ في الأوحال فأنقلب فصار العالم يتطلع إليه يرمقه بعين الإكبار والإعجاب، إذا كان هذا بعض ما وقع بين سمعك وبصرك وأنت ذاهل أو غافل، أيصح لك بعد اليوم أن تدعي الشعر وتتكلم في الشعور؟

لقد انصرمت منذ طرد الطاغية ودك عرشه. لقد انقضت هاتيك الشهور في العمل الجدي المجدي، فقد زالت من عالم الوجود وأحزاب وأذناب، وانمحت من سجلات التقاليد ألقاب وأرباب، وطهرت الأداة الحكومية وانعدم الفساد والرشوة والوساطات والمحسوبيات، وشرعت محاكم الأمة تطهر مصر من الخونة والغادرين، وقع كل هذا بين سمعك وبصرك يا صديقي الشاعر، ألم يكن بعض ما وقع كافياً لتحريك رواسب نفسك الشاعرة؟

ألم تسقك قدماك إلى طريق عابدين؟ ألم تر المهانة والذل والانكسار تجلل القصر بوشاح أسود؟ ألم تنصت إلى صراخ حجارة القصر، إلى قاعاته وجدرانها، إلى كل ركن وناحية، إلى كل سرداب ودهليز ومخبأ، تجأر في طلب التطهير بالنار المحرقة مما دنسها من مخاز من إسماعيل الفاجر إلى فاروق الداعر؟

من الشعراء يا صديقي الشاعر من يعيش بنصف وجدان وثلث حس، وربع شعور، وجزء من بصر وسمع، وبعض جزء من الوعي والإدراك. هل أنت من هذا النوع من الشعراء، أو مجرد حتى من الكليات والجزئيات، أو أنك مستجم في قوقعة تنتظر وسوسة شيطان؟

عهدنا لكل شاعر شيطاناً يوحي إليه الشعر، ألم يجل في خاطرك يا صديقي الشاعر أن تستلهم الرحمن الرحيم مرة نظم القوافي، أو أنهما تركاك كما مهملا ونبذاك قصيا لا تصلح إلا لتعيش بنصفك البشري الأسفل؟

أقلب الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية أيضا فلا تتعثر قدماي بشاعر أو نصف شاعر أو شويعر واحد حي يعيش بين الأحياء في هذا العصر!

ليس في شعراء مصر اليوم من يعيش مع (نجيب محمد) ولا أقول محمد نجيب، لأن الشعر قد مات بعد شوقي وحافظ.

هل أقول إن دولة الشعر دالت كما دال عرش فاروق، أو أدنى إذا تلمست وفتشت وفي يدي مصباح ديوجين أجد (محمود عماد) آخر بين الشعراء الأحياء؟

حبيب الزحلاوي