مجلة الرسالة/العدد 102/أثر خطير

مجلة الرسالة/العدد 102/أثر خطير

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 06 - 1935



كنيس الصالحية

للأستاذ عز الدين التنوخي كاتب سر المجمع العلمي العربي

دوى في دمشق تلهج به الألسنة ويردده الهواء بين الأحياء، وصدى الدهر يثير من النفوس روائع الدهشة، ويبعث فيها نوازع الاستطلاع، ويعين على تمكين ذلك من النفس التاريخ بابتعاده، والتخيل بامتداده، مئات من السنين، ومئات من الشعوب والقبائل والأجيال تمر وتنطوي على كنيس الصالحية ما بين دير الزور وأبي كمال، وهو (منذ أسس بنيانه سنة 244 ب. م) لا يزال قائماً بفارع جدرانه، وماثلاً بروائع ألوانه، يعرب بلسان الزمن عما مر بالبشر من أيام هناء وبلاء، مخبراً عن أمم زالت، ودول دالت، وأحوال حالت، مما يمحص به أبناء العصر الحاضر حقائق الدهر الغابر، فينقلب به ما كان حقيقة وهماً، وما كان وهماً حقيقة

كنيس الصالحية، وما أدراك ما كنيس الصالحية، رأيت ألواحه الجبسية المقطوعة بالمنشار متفرقة، وهي أوصاله بل أشلاؤه الممزقة، فراعني - لعمر الحق - منظرها، وأكبرت بعد التأمل الطويل مخبرها، ثم تصورت هذا الكنيس الأثرى النفيس، وقد التأمت بجوار السليمانية غداً أجزاؤه، والتحمت بعد طول الشتات والبلى أشلاؤه، فملك بتصوره القلب قبل الطرف، والهج اللسان بما لا يحيط به الوصف البارع واللسان المبين: ذلك أن صورة تلك الألواح لا ينقصها لأتقنها ألا الأرواح المثيرة والقوة المجيرة، فتغمزك بعيونها، وترمز إليك بشفافها، وتحدثك بأفواهها عن جلية أحوالها، وأخبار رجالها ونسائها وأطفالها، ولو أنها استطاعت ذلك لأغنت المنقبين والمؤرخين عن كثير من التنقيب والاستقراء والأنفاق المستمر الفادح، والعناء المتواصل المنهك

اجل، هذه الألواح لا ينقصها ألا الأرواح، فإن لكل منها جهارة رائعة، وشارة جميلة، إلى وجه سامي مسنون، وانف اقنى، وعينين ناطقتين في صورة إنسان سبط القوام، متناسب الأعضاء، تلمح عليه دلائل القوة والفتوة وتلمع في عينيه شواهد النبل والفضل

ففي لوح مستطيل منها ترى صورة موسى النبي بيده الألواح وهو بوجه المخروطي الصبيح، يشبه السيد المسيح، تحيط به هالة قاتمة اللون من شعر رأسه الفاحم ولحيته السوداء، وكان لآلهة الإغريق لحى تزيد في هيبة الوجوه ووقارها

وفي لوح آخر تشاهد صورة السموءل وهو النبي (صموئيل) يمسح بالزيت راس النبي داود الواقف بين اخوته الستة قابضاً بيمناه يسراه كما يقبض المصلى إذا صلى

وفي لوح ثالث آخر صورة احشويروش (الملك الأسد) ملك فارس وبابل وزوج استير وقد استوى على عرشه المخمس الدرجات، وعلى يساره الملكة استير منقذة إسرائيل، وهي على عرشها؛ وعلى جانب كل عرش صورة أسد أو نسر من ذهب، وعلى واجهة إحدى الدرجات قد نقش اسم الملك (احشويروش) فإذا أراد الملك الصعود على عرشه وقف على الدرجة السفلى فترتفع به حتى تساوي الثانية التي فوقها، فينتقل أليها فترتفع به إلى الثالثة، والثالثة ترفعه إلى الرابعة، وهذه إلى الخامسة، فيستوي هنالك على عرشه العظيم، وبذلك يشبه هذا الدرج العجيب مصعده (أسانسور) هذا العصر؛ ويقال أن هذا العرش هو عرش سليمان مسلوباً من بيت المقدس، إذ وجد فوقه لوح آخر يمثل سليمان الحكيم على عرش لا يختلف بشيء عن العرش البابلي مما يرجح القول بنقله إلى بابل، وعلى يسار هذا اللوح لوح آخر يمثل ابن عم الملكة استير وهو مردخاي ممتطياً صهوة جواد أشهب مطهم يقوده هامان الوزير قصاصاً له وانتقاماً

وهنالك لوح آخر مؤلف من سبع قطع، تمثل إلياس النبي مع أسباط إسرائيل، وهو يدعي الله أن يحي ثلاثة من الموتى فيبعث الله لإنعاشهم أرواحا ثلاثاً، والروح منها ممثلة بشكل امرأة تطير بجناحيها، وتهبط هذه الأرواح على أجسادها فتهب من رقادها، وعلى راس أحدهم يد بمعصمها ترفع الميت المنتشر من وفرة رأسه

ومن تلك الألواح ما يمثل موسى عليه السلام طفلاً تخرجه من اليم ابنة فرعون وقد ذهبت مع جواريها تغتسل في النيل فوجدته عائماً في سفط يتغلغل بين أوراق البردي، والى جانبها جاريتان تحمل أحدهما صندوقة صغيرة تشتمل من أدوات الطيب على مالا غنى للمغتسل عنها، وهي عادة مصرية قديمة

كانت كنائس اليهود قبل عهد هذا الكنيس لا تستوعب اكثر من 45 مصلياً، ولكن قاعة هذا الكنيس المستطيلة تستوعب ضعف هذا العدد، أي نحو مائة من المصلين، فقد كانت أبعادها (13. 5 متراً طولاً في 7. 5 عرضاً في 7. 5 ارتفاعاً) ومما يدل على أبهة هذا الكنيس النفيس إن محرابه القائم في صدره قد كان يزهو بطنافس فارس الجميلة، وتبصر على جانبه صورة شمعدان من الذهب ذي سبع شعب، في كل شعبة منها شمعة تبدد بعض ظلام الكنيس؟ وكانت مقاعد المصلين مغشاة أيضا بالطنافس كما استدل علماء الآثار على أن سماءه (سقفه) كانت مشيدة بالقرمد المزين المنقوش، وكانت أرضه مفروشة أيضا بنفائس الطنافس

هذا ولئن كانت الأمم تقاس برجالها، والرجال توزن بأعمالها، فقد حق علينا أن نختم هذه الكلمة بكلمة أخرى عادلة في شكر من كان سبباً لحفظ هذا الكنيس في بلادنا ولإعادة بناءه في دمشق غداً، وهو صاحب المعالي وزير معارفنا الهمام السيد حسني البرازي، فقد حاولت بعثة الحفر والتنقيب الأمريكية أن تستأثر به وتحرم من الانتفاع به تلك الأمة التي نبش من ترابها، لينبئ عن عمرانها وأحوال أديانها وآدابها، وكادت تفلح لولا جهاده الميمون وحسن مساعيه لدى المفوضية التي حققت بأخرة أمنيته، فخدم بذلك اجل خدمة بلاده أمته: ذلك لان هذا الكنيس المنقطع القرين لم تفتح العين على مثله بعد، ولهذا يقدر بعض علماء الآثار ثمنه بأكثر من مليون جنيه، ويعدونه استثناء اثرياً لقواعد الكنائس اليهودية التي تحرم التصوير، وما كانت صورة هذه المحرمة بعظيمة الخطورة لدارسي تاريخ الشريعة فحسب، إذ هي لدارسي تاريخ الفن اعظم خطراً، وابلغ لعمري آثرا

دمشق

عز الدين التوخي

كاتب سر المجمع العلمي العربي