مجلة الرسالة/العدد 102/الطائشة

مجلة الرسالة/العدد 102/الطائشة

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 06 - 1935


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال صاحبها وهو يحدثني من حديثها:

كانت فتاة متعلمة حلوة المنظر، حلوة الكلام، رقيقة العاطفة، مرهفة الحس، في لسانها بيان، ولوجهها بيان غير الذي في لسانها تعرف فيه الكلام الذي لا تتكلم به. . .

ولها طبع شديد الطرب للحياة، مسترسل في مرحه خفيف طياش، لو أثقلته بجبل لخف بالجبل؛ تحسبها دائماً سكرى تتمايل من طربها، كان أفكارها المرحة هي في رأسها أفكار وفي دمها خمر. . .

وكان هذا الطبع السكران شباباً وجمالاً وطرباً - يعمل عملين متناقضين، فهو دلال متراجع منهزم، وهو أيضا جرأة مندفعة متهجمة. وهزيمة الدلال في المرأة إن هي إلا عمل حربي مضمرة فيه الكرة والهجوم؛ وكثيراً ما ترى فيها النظرة ذات المعنيين: نظرة واحدة تؤنبك بها المرأة على جرأتك معها، وتعذلك بها أيضا على انك لست معها أجرأ مما أنت. . .!

قلت: ويحك يا هذا! أتعرف ما تقول؟

قال: فمن يعرف ما يقول إذا أنا لم اعرف؟ لقد أحببت خمس عشرة فتاة، بل هن أحببنني وفرغن قلوبهن لي، ما اعتزت علي منهن واحدة، وقد ذهبن بي مذهباً ولكنني ذهبت بهن خمسة عشر!

قلت: فلا ريب انك تحمل الوسام الإبليسي الأول من رتبة الجمرة. . فكيف استهام بك خمس عشرة فتاة، أجاهلات هن، أعمياوات هن. . .؟

قال: بل متعلمات مبصرات يرين ويدركن، ولا تخطى واحدة منهن في فهم أن رجلاً وامرأة قصة حب. . . . وما خمس عشرة فتاة؟ وما عشرون وثلاثون من فتيات هذا الزمن البائر، الذي كسد فيه الزواج، ورق فيه الدين، والتهبت العاطفة، وكثرت فنون الأغراء، واصطلح فيه إبليس والعلم يعملان معاً. .؛ وأطلقت الحرية للمرأة، وتوسعت المدارس فيما تقدم للفتيات، وأظهرت من الحفاوة بهن أمرا مفرطاً حتى أخذن ربع العلم. . .؟

قلت: وثلاثة أرباع العلم الباقية؟

قال: يأخذنها من الروايات والسيما. علم المدارس ما علم المدارس؟ أنهن لا يصنعن به شيئاً إلا شهادات هي مكافأة الحفظ وإجازة النسيان من بعد؛ أما علم السيما والروايات فيصنعن به تاريخهن. . ورب منظر يشهده في السيما ألف فتاة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن وطافت به الخواطر والأحلام - سلبهن القرار والوقار فمثلنه ألف مرة بألف طريقة في ألف حادثة!

يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة بعد واحدة، من حرية المرأة وعلمها؛ أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا العقبات النسائية عقبة بعد عقبة. وقد كان عيب الجاهلة المقصورة في دارها أن الرجل يحتال عليها، فصار عيب المتعلمة المفتوح لها الباب أنها هي تحتال على الرجل؛ فمرة بإبداع الحيلة عليه، ومرة بتلقينه الحيلة عليها. والغريب في أمر هذا العلم أنه هو الذي جعل الفتاة تبدأ الطريق المجهول بجهل. . .!

قلت: وما الطريق المجهول؟

قال: الطريق المجهول هو الرجل. وإطلاق الحرية للفتاة أطلق ثلاث حريات: حرية الفتاة، وحرية الحب؛ والأخرى حرية الزواج. ولما انطلق ثلاثتهن معاً تغير ثلاثتهن جميعاً إلى فساد واختلال. أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج فعادت للزواج في الأقل، وفي الأكثر للهو والغزل؛ وكان لها في النفوس وقار ألام وحرمة الزوجة، فاجترا عليها الشبان اجتراءهم على الخليعة والساقطة؛ وكانت مقصورة لا تنال بعيب ولا يتوجه عليها ذم، فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت أليها العيوب بأقدام كثيرة. . . وكانت بحملها امرأة واحدة، فعادت مما ترى وتعرف وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى وأعصابها امرأة ثالثة. . .

وأما الحب، فكان حباً تتعزف به الرجولة إلى الأنوثة في قيود وشروط، فلما صار حراً بين الرجولة والأنوثة، انقلب حيلة تغتر بها أحدهما الأخرى؛ ومتى صار الأمر إلى قانون الحيلة فقد خرج من قانون الشرف وعاد هذا الشرف نفسه وليس إلا كلمة يحتال بها

وأما الزواج، فلما صار حراً جاء الفتاة بشبه الزوج لا بالزوج، وضعفت منزلته وقل اتفاقه وطال ارتقاب الفتيات له، فضعف أثره في النفس المؤنثة؛ وكانت لفظتا الشاب والزوج شيئاً واحداً عند الفتاة وبمعنى واحد، فأصبحتا كلمتين متميزتين، في أحدهما القوة والكثرة والسهولة، وفي الأخرى الضعف والقلة والتعذر؛ فالكل شبان وقليل منهم الأزواج. وبهذا اصبح تأثير الشاب على الفتاة أقوى من تأثير الشرف، وعاد يقنعها منه أخس براهينه، لا بأنه هو مقنع، ولكن بأنها هي مهيأة للاقتناع. . .

وفي تلك الأحوال لا يكون الرجل إلا مغفلاً في رأي المرأة إذا هو احبها ولم يكن محتالاً حيلة مثله على مثلها ويظل في رأيها مغفلاً حتى يخدعها ويستزلها، فإذا فعل كان عندها نذلاً لأنه فعل، وهذه حرية رابعة في لغة المرأة الحرة والزواج الحر والحب الحر!

وأنظر - بعيشك - ما فعلت الحرية بكلمة (التقاليد)، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام ومكروهة حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها فجعلتها في هذا العصر اشهر كلمة في الألسنة يتهكم بها على الدين والشرف وقانون العرف الاجتماعي في خوف المعرة والدنيئة والتصاون من الرذائل والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك (تقاليد). . وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك، واجرينها في اعتبارهن مكروهة وحشية، وأضفن أليها من المعاني حواشي أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند اكثر المتعلمات من (التقاليد). . أهي كلمة أبدعتها الحرية، أم أبدعها جهل العصر وحماقته وفجوره وإلحاده؛ أهي كلمة تعلقها الفتيات المتعلمات لأنها لغة من اللغة، أم لأنها من لغة ما يحببن. .؟

(تقاليد). . .؟ فما هي المرأة بدون تقاليد؟. . أنها البلاد الجميلة بغير جيش، أنها الكنز المخبوء معرضاً لأعين اللصوص تحوطه الغفلة لا الرقابة. هب الناس جميعاً شرفاء متعففين، فإن معنى كلمة (كنز) متى تركت له الحرية واغفل من تقاليد الحراسة، أوجدت حريته هذه بنفسها معنى كلمة (لص). .

قال صاحبنا: أما الفتاة المحررة من (التقاليد). . كما عرفتها فهي هذه التي أقص عليك قصتها، وهي التي جعلتني أعتقد أن لكل فتاة رشدين يثبت أحدهما بالسن ويثبت الآخر بالزواج. ولو أن عانساً ماتت في سن الخمسين أو الستين لوجب أن يقال: إنها ماتت نصف قاصر! ولعل هذا من حكمة الشريعة في اعتبار المرأة نصف الرجل، إذ تمام شرفها الاجتماعي أن يكون الرجل مضموماً إليها في نظام الاجتماع وقوانينه؛ فالزوج على هذا هو تمام رشد الفتاة بالغة ما بلغت

أساس المرأة في الطبيعة أساس بدني لا عقلي، ومن هذا كانت هي المصنع الذي تصنع فيه الحياة، وكانت دائماً ناقصة لا تتم ألا بالأخر الذي أساسه في الطبيعة شان عقله وشان قوته.

واعتبر ذلك بالمرأة تدرس وتتعلم وتنبغ، فلو انك ذهبت تمدحها بوفور عقلها وذكائها، وتقرضها بنبوغها وعبقريتها، ثم رأتك لم تلقي كلمة ولا إشارة ولا نظرة على جسمها ومحاسنها لتحول عندها كل مدحك ذماً وكل ثنائك سخرية، فإن النبوغ هاهنا في أعصاب امرأة تريد أن تعرف مع أسرار الكون أسرار كونها هي، هذا الكون البدني الفاتن أو الذي تزعمه هي فاتنا، أو الذي لا ترضاه ولا ترضى أن تكون صاحبته، ألا إذا وجدت من يزعم لها أنه كون فاتن بديع مزين بشمسه وقمره وطبيعته المتنضرة التي تجعل مسه مس ورق الزهر

مثل هذه إنما يكون الثناء عليها ثناء عندها حينما يكون اقله باللسان العلمي ولغته، وأكثره بالنظر الفني ولغته. وهذا على أنها عالمة الجنس ونابغته، ودليل شذوذه العقلي، والواحدة التي تجيء كالفلتة المفردة بين الملايين من النساء؛ فكيف من دونها، وكيف بالنساء فيما هن نساء به؟

دع جماعة من العلماء يمتحنون هذا الذي بينت لك، فيأتون بامرأة جميلة نابغة فيضعونها بين رجال لا تسمع من جميعهم ألا: ما اعقلها، ما اعقلها، ما اعقلها! ولا ترى في عيني كل منهم من أنواع النظر وفنونه إلا نظرة التلميذ لمعلمة في سن جدته. . فهذه لن تكون بعد قريب إلا في حالة من اثنتين: إما أن يخرج عقلها من رأسها، أو. . . أو تخرج في وجهها لحية. . .!

(ما أعقلها!) كلمة حسنة عند النساء لا يأبينها ولا يذممنها، غير أن الكلمة البليغة العبقرية الساحرة هي عندهن كلمة أخرى هي: (ما أجملها!)، إن تلك تشبه الخبز القفار لاشيء معه على الخوان، أما هذه فهي المائدة مزينة كاملة بطعامها وشرابها وأزهارها وفكاهتها وضحكها أيضا

وكأن العقل الإنساني قد غضب لمهانة كلمته وما عرها به النساء، فأراد أن يثبت أنه عقل فاستطاع بحيلته العجيبة أن يجعل لكلمة (ما أعقلها) كل الشأن والخطر، وكل البلاغة والسحر عند. . . عند الطفلة. . . تفرح الطفلة اشد الفرح، إذا قيل: ما أعقلها. . .!

فقلت لمحدثي: كأنك صادق يا فتى! لقد جلست أنا ذات يوم إلى امرأة أديبة لها ظرف وجمال، وجاءت كبريائي فجلست معنا. . . وكانت (التقاليد) كالحاشية لي، فعلمت بعد أنها قالت لصاحبة لها: (لا أدري كيف استطاع أن ينسى جسمي وأنا ألي جانبه اذكره أني ألي جانبه! لكأنما كانت لقلبه أبواب يفتح ما شاء منها ويغلق)

قال محدثي: فهذا هذا؛ إن إحساس المرأة بالعالم وما فيه من حقائق الجمال والسرور، إنما هو في إحساسها بالرجل الذي اختارته لقلبها، أو تهم أن تختاره، أو تود أن تختاره؛ ثم إحساسها بعد ذلك بالصور الأخرى من رجلها في أولادها. وحياة المرأة لا أسرار فيها البتة حتى إذا دخلها الرجل عرفت بذلك أن فيها أسرارا، وتبينت أن هذا الجسم الأخر هو فلسفة عميقة لجسمها وعقلها

قال: وقد جلست مرة مع صاحب القصة، وأنا مغضب أو كالمغضب. . ثم تلاحينا وطال بيننا التلاحي؛ فقالت لي: أنت بجانبي وأنا أسال: أين أنت؟ فإنك لست كلك بجانبي!

قال: ومذهبي في الحب، الكبرياء، كما قلت أنت، غير أنها الكبرياء التي تدرك المرأة منها أني قوي لا أنا متكبر، كبرياء الرجل إما مهيب مرح يملك أفراح قلبها، وأما حزين مهيب يملك أحزان هذا القلب. إن المرأة لا تحب إلا رجلا يكون أول الحسن فيه حسن فهمها له، وأول القوة فيه قوة إعجابها به، وأول الكبرياء فيه كبرياءها هي بحبه وكبرياءها بأنه رجل. هذا هو الذي يجتمع فيه للمرأة اثنان: إنسانها الظريف، ووحشها الظريف!

قلت: لقد بعدنا عن القصة، فما كان خبر صاحبتك تلك؟ قال: كانت صاحبتي تلك تعلم أني متزوج، ولكن إحدى صديقاتها أنبأتها بكبريائي في الحب، ووصفتني لها صفة الإحساس لا وصف الكلام؛ فكأنما تنبهت فيها طبيعة زهوة الفتاة بأنها فتاة وغريزة افتتان الأنثى بأن تكون فاتنة؛ فرأت في إخضاعي لجمالها عملاً تعمله بجمالها.

ومتى كانت الفتاة مستخفة (بالتقاليد) كهذه الأديبة المتعلمة - رأت كلمة (الزوج) لفظاً على رجل كلفظ الحب عليه، فهما سواء عندها في المعنى، ولا يختلفان إلا في (التقاليد). .

وعرضت لي كما يعرض المصارع للمصارع؛ إذ كانت من الفتيات المغرورات اللواتي يحسبن أن في قوتهن العلمية تياراً زاخراً لنهرنا الاجتماعي الراكد، فتاة تخرجت في مدرسة أو كلية، أو جاءت من أوربا بالعالمية. . . أفتدري أية معجزة مصرية في هذا تباهي بها مصر؟ إن المعجزة أن هذه الفتاة صارت مدرسة، أو مفتشة، أو ناظرة في وزارة المعارف؛ أو مؤلفة كتب وروايات، أو محررة في صحيفة من الصحف. ولا يصغرن عندك شأن هذه المعجزة فهي والله معجزة مادام يتحقق بها خروج الفتاة من حكم الطبيعة عليها وبقاؤها في الاجتماع المصري امرأة بلا تأنيث، أو انقلابها فيه رجلا بلا تذكير! وكيف لا يكون من المعجزات أن تأليف رواية قد أغنى عن تأليف أسرة؛ وان فتاة تعيش وتموت ما ولدت للأمة ألا مقالات. . .؟

فقلت: يا صاحبي، دع هؤلاء وخذ الآن في حديث الطائشة الخارجة على التقاليد، وقد قلت إنها عرضت لك كما يعرض المصارع للمصارع. قال: عرضت لي تريد أن تصرفني كيف شاءت، فنبوت في يدها؛ فزادت إلى رغبتها إصرارها على هذه الرغبة، فالتويت عليها؛ فزادت أليهما خشية اليأس والخيبة، فتعسرت معها؛ فزادت إلى هذه كلها ثورة كبريائها، فلم أتسهل؛ فأنهت من كل ذلك بعد الرغبة الخيالية التي هي أول العبث والدلال، إلى الرغبة الحقيقية التي هي أول الحب والهوى: رغبة تعذيبي بها لأنها متعذبة بي.

ثم ردتها الطبيعة صاغرة إلى حقائقها السلبية، فإذا الكبرياء فيها إنما كانت خضوعا يتراءى بالعصيان، وإذا الرغبة في تعذيب الرجل إنما كانت التماسا لأن تنعم به، وإذا الإصرار على إخضاع الرجل وإذلاله إنما كان إصرارا على تجرئته ودفعه أن يستبد ويملك. وردتها الطبيعة إلى هذه الحقيقة النسوية الصريحة التي بنيت المرأة عليها شاءت أم أبت وهي أن تعاني وتصبر على ما تعاني!

أما أنا فأحببتها حباً عقلياً، وكان هذا يشتد عليها، لأنه إشفاق لا حب؛ وكانت إذا سألتني عن أمر ترتاب فيه قالت: اجبني بلسان الصدق لا بلسان الشفقة. وكانت تقول: إن في عينيها بكاء لا تستطيع أن تذيله مع الدمع، وسيقتلها هذا البكاء الذي لا يبكى، وقد اتخذت لها في دارها خلوة سمتها: محراب الدمع! قالت: لأنها تبكي فيها بكاء صلاة وحب، لا بكاء حب فقط! ثم طاشت الطيشة الكبرى. . .!

قلت: وما الطيشة الكبرى؟

قال: إنها كتبت ألي هذه الرسالة:

(عزيزي رغم أنفي). . .

(لقد أذللتني بشيئين: أحدهما أنك لم تذل لي، وجعلتني على تعليمي اشد جهلاً من الجاهلة. وقد نسيت أن المرأة المتعلمة تعرف ثم تعرف مرتين -: تعرف كيف تخطئ إذا وجب أن تخطئ، أما المعرفة الثانية فتوهمها أنت فكأني قلتها لك. .

اعلم (يا عزيزي رغم انفي)، أني إذا لم اكن غريزتك رغم انفك، فسآتي ما يجعلك سلفا ومثلا، وستكتب الصحف عنك أول حادث يقع في مصر عن أول رجل اختطفته فتاة!.

وبعد، فقد أرسلت روحي تعانق روحك فهل تشعر بها؟)

قال: فوجمت ساعة وتبينت لي خفتها، وظهر لي سفاهها وطيشها، فأسرعت إليها فجئتها فأجدها كالقاضي في محكمته، لا عقل له الأعقل الحكم القانوني الذي لا يتغير، ولا إنسان فيه ألا الإنسان المقيد بمادة كذا إذا حدث كذا، والمادة كذا حين يكون وصف المجرم كذا. . .!

فقلت لها أهذا هو العلم الذي تعلمته؟ ألا يكون علم المرأة خليقاً أن يجعل صاحبته ذات عقلين إذا كانت الجاهلة بعقل واحد؟

قالت: العلم؟

قلت: نعم، العلم

قالت: يا حبيبي، أن هذا العلم هو الذي وضع المسدس في يد المرأة الأوربية لعاشقها، أو معشوقها! ثم أطرقت قليلاً وتنهدت وقالت: والعلم هو الذي جعل الفتاة هناك تتزوج بإرشاد الرواية التي تقرؤها، ولو انقلب الزواج رواية. . . والعلم هو الذي كشف حجاب الفتاة عن وجهها، ثم عاد فكشف حياء وجهها، وأوجب عليها أن تواجه حقائق الجنس الأخر وتعرفها معرفة علمية. . . . والعلم هو الذي جعل خطأ المرأة الجنسي معفواً عنه مادام في سبيل مواجهة الحقائق لا في سبيل الهرب منها. . . والعلم هو الذي جعل المرأة مساوية للرجل، وأكد لها أن واحداً وواحداً هما واحد وكلاهما أول. . والعلم هو الذي عرى أجسام الرجال والنساء ببرهان أشعة الشمس. . . والعلم يا عزيزي هو العلم الذي محا من العالم لفظة أمس، لا يعرفها وان كانت فيها الأديان والتقاليد. . .

قال صاحبها: فقلت لها: كأن العلم إفساد للمرأة! وكأنه تعليم ممراتها ونقائصها، لا تعليم فضائلها ومحاسنها قالت: لا، ولكن عقل المرأة هو عقل أنثى دائماً؛ ودائماً عقل أنثى؛ وفي رأسها دائماً جو قلبها، وجو قلبها دائما في رأسها. فإذا لم تكن مدرستها متممة لدارها وما في دارها، تممت فيها الشارع وما في الشارع

العلم للمرأة، ولكن بشرط أن يكون الأب وهيبة الأب أمرا مقرراً في العلم، والأخ وطاعة الأخ حقيقة من حقائق العلم، والزوج وسيادة الزوج شيئا ثابتاً في العلم، والاجتماع وزواجره الدينية والاجتماعية قضايا لا ينسخها العلم. بهذا وحده يكون النساء في كل أمة مصانع علمية للفضيلة والكمال والإنسانية، ويبدأ تاريخ الطفل بأسباب الرجولة التامة، لأنه يبدأ من المرأة التامة

أما بغير هذا الشرط فالمرأة الفلاحة في حجرها طفل قذر، هي خير للأمة من اكبر أديبة تخرج ذرية من الكتب. . .

أنظر - (يا عزيزي رغم أنفي) - هذه الرسالة جاءتني اليوم من صديقتي فلانة الأديبة ال. . . فاسمع قولها:

(وأنا أعيش اليوم في الجمال، لأني أعيش في بعض خفايا الحبيب. .) وفي الحياة موت حلو لذيذ؛ عرفت ذلك حينما نسيت نفسي على صدره القوي، وحينما نسيت على صدره القوي صدري. . .)

أسمعت يا عزيزي؟ إن كنت لما تعلم أن هذا هو علم اكثر الفتيات المتعلمات حين يكسد الزواج - فاعلمه. ومتى عمى الشعب والحكومة هذا العمى، فإن حرية المرأة لا تكون أبدا إلا حرية الفكرة المحرمة!

قلت لصاحبنا: ثم ماذا؟

قال: ثم هذا. . . ودس يده في جيبه فأخرج أوراقاً كتب فيها رواية صغيرة أسماها: (الطائشة)

(الرواية في العدد الآتي)

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي