مجلة الرسالة/العدد 1020/طرائف وقصص

مجلة الرسالة/العدد 1020/طرائف وقصص

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 01 - 1953



عروس البحر

للشاعر الهندي رابندرانات طاغور

كان شاباً فتياً، في مرآة قرة العين، وابتهاج القلب، وغبطة النفوس. . .

وكان غرة قومه، ووجه عشيرته، يثنون له أعطافهم ويمهدون له أكنافهم، ويؤثرونه بالحب والإيناس.

وكان من حوله يستفزون نفسه الثائرة بأحاديث الزواج وما فيها للقلب من متعة، وما في الطبع إلها من طمأنينة وارتياح.

قال واحد من رسل الملوك إليه: (أما أميرة بهليك. . فما أجملها! إنها لكالباقة من أزاهير الربى في الربيع!).

ولكن الأمير الشاب أشاح بوجهه - وكأن لم يلق الحديث منه بشيء - وما أجاب.

وقال آخر: (وتلك هي أميرة كندهار. . زهرة أنيقة، وضاءا بهية، كمثل وضاءا العنقود النضيد!).

ولكن الأمير الشاب ينساب في الغابة لا يخرج منها إلا بعد حين. . .

وقال وصيف من سراي الملك - أبيه -: (. . جميلة أميرة كامبهوج جمال قوس قزح عند انبثاق أضواء الفجر وأنواره. . . وعيناها. . . وعيناها ناعستان حالمتان، تلتمعان التماع قطر الندى الوضاء!).

ولكن الأمير الشاب يستغرق في كتابه تصفحا فلا يرفع عنه عينيه ولا يفيق!.

واختلى الملك الوالد بنجى ابنه وعشيره يسأله عما انحرف بابنه عن الزواج وبغضه إليه!.

فقال سمير الأمير: (أيها الملك الجليل، لقد زهد الأمير في الزواج ما سمع عن عرائس الأمواه، ولقد أقسم في سره لتكونن زوجة من عرائس البحر، بنات الماء. .).

وأراد الملك أن يعلم من أمر هذه العرائس شيئاً، فاستدعى إليه أهل العلم وأرباب الحكمة. . ولكن أهل العلم لم يروا في كتبهم عن العرائس المزعومات شيئاً! إنما هاتيك العرائس: عرائس الخيال الموهومات. وكذلك قال رواد البحر من الهنود التجار!.

فدعا الملك الشيخ إليه سمير ابنه يسأله عمن قص على ابنه هذا الخيال الموهوم، فأجاب: إنه رجل يضرب في الأفاق مجنون. . . وقد سمع منه الأمير ما سمع في الغابة حين كان يصطاد!.

فأرسل الملك أعوانه في البحث عن هذا المتشرد المجنون ليحضروه إليه. . . حتى وجدوه فجاءوا به إلى قصر الملك الفخم العظيم! فسأله الملك عن مملكة عروس الماء أين تكون؟.

قال المجنون: إنها فيما بلى حدود الشمال من مملكتك أيها الملك العظيم. . . وعند سفح جبل (شيتراهي) حيث تنبع بحيرة (كامياكا). . .

فقال الملك: وهل يبصر المرء عرائس الماء هناك؟.

فأجاب الجائل المخبول: نعم! في إمكان المرء رؤيتهن. . ولكنه لا يكاد يعرفهن لما يحطن به أنفسهن من غبهام وغموض. . . غير أني أعرف العرائس الفاتنات بأصوات مزاميرهن الرائعة. . أو بقبس من شعاع لهن وهاج!.

فغضب الملك من هذا الهذيان وقال: (إنه لمجنون! قد أصابه مس من حياة التشرد والتجوال فاطردوه).

غير أن الأمير كان قد أصغى إلى ذلك الهذيان الجميل. . . وقد علق بقلبه منه ما سمع، فليس إلى طرده من سبيل. . .

وجاء الربيع يكاد سنا حسنة يستلب العقول. . . وانبثقت أزاهيره في الغابة تملأها حسناً وعطراً! فركب الأمير جواده وخرج. . . فيسأله الأهل: إلى أين أيها الفتى النبيل؟ إلى أين أيها الأمير الجميل؟ ولكن الأمير ساكت لا يجيب.

السيل يتدفق منحدراً من أعلى الجبل ثم ينصب في البحرية فيفيض. . . وهناك، هناك قرب الجبل في المعبد المهجور كان الأمير يقيم!.

ومر شهر، والأمير في معبده يرتقب، وفي الشهر هذا اشتدت خضرة الزرع، واكتست بوشاح من الزبرجد الزاهي الجميل!.

وإن هذا الشهر الجديد يكاد ينصرم. . والأمير في مكانه لا يريم!.

وفي ليلة من ليالي هذا الشهر أصغى الأمير الشاب إلى صوت مزمار خافت يطرق أذنيه كالصدى النائي البعيد. . .

وفي اتجاه السيل المنحدر إلى البحرية الجميلة كان اتجاه الأمير. . . حيث كان مصدر الصوت الشعري الرخيم؟.

وهناك، كانت تجلس بين أزهار (اللوتس) حورية من بنات البحر عرائس الماء المنشودات.

إن شعاعاً عبقاً ينبثق من زهرة من زهور (السيرش) في مفرقها الجميل.

فترجل الأمير عن جواده، ودنا إلى الحورية في استحياء وطلب منها تلك الزهرة الجملية العبقة. . . فرفعت رأسها ترنو إليه ثم سحبت زهرتها من شعرها وقدمتها قائلة: (إنها لك).

ثم سألها الأمير: وأي ملكة أنت؟.

فبدت على وجهها علامات الدهش والإنكار ثم قهقهت في ضحكات متزنات كالأنغام. . كان لها رنين في قلب الأمير الشاب. . لقد ظن الناس تلك الضحكات مزامير لشدة ما يخطئون. .

ثم ركب الأمير جواده، وأردفها خلفه ومضى يحث السير!.

وهما على ظهر الحصان همس الأمير في أذنها أن اخلعي عنك النقاب. . واذكري اسمك الكامل.

فأجابت: إن اسمي كاكاري. . . وأما القناع فما كان قد انكش كما أراد!.

وهنا قال الأمير: وجهك. . . أرنيه. . . إنني في حاجة إلى استجلائه أيتها الملكة الحسناء.

ولكنها قهقهت في ضحكات كالأولى كان لها في قلبه الملتاع وقع ورنين.

ثم وصلا إلى المعبد القديم المهجور. . . فعلن الخبر وذاع؛ وسمع الملك الشيخ بزواج ابنه الأمير فأرسل إليه الجند والخيل والفيلة والعربات، في معبده المهجور.

واليوم يا (كاكاري) ستذهبين إلى القصر.

ولكنها لم تجبه، ولكن في عينيها كان الجواب. لقد كانتا دامعتين، طافحتين بالدموع، تستعبران! لقد هاجتها الذكرى. . . وأثارت ما في نفسها من شجون.

ثم قالت: (أنا لا أستطيع الذهاب. . أيها الأمير المحبوب!).

ولكن ضوضاء القادمين وجلبتهم غلبت صوتها الخافض الصئيل، وسارت إلى قصر الملك الفخيم.

فرأتها الملكة فقالت: وأي أميرة هذه تكون؟ ورأتها إبنتها فقالت: يا للعار!!.

ورأتها من وصائف القصر واحدة، فقالت:

انظرن إلى رداء الأميرة الخلق. . . لا بأس عليها فإنها ممن لا يحتجبن إلى الثياب إذ أنها من عراس الماء!.

ولكن الأمير أسكتهن في حنق وغيظ شديد:

(إن الأميرة قد جاءت متخفية في هذه الأطمار. . .).

ولكن أصوات الهزء إن خفتت فلم تنقطع، أو انقطعت فإلى حين، وكان الأمير إذا سمع ذلك يهج ويغضب لأنهم لا يشاركونه شعوره نحو هذه الأميرة إبنة الماء؟!.

ومضت أيام: والأمير على ما وصفنا، وأهلوه على ما ذكرنا وزوجه على حالها لم تتغير، ولم تلق عنها نقابها البغيض المكروه. . .

ولكن الأمير يؤمل وينتظر، وهو الآن يكتفي بالأمل والانتظار. . .

وإنه لجالس مع (عروس البحر) يسامرها إذ سألها عن مدى لبس هذا القناع البغيض؟ فقالت: (سيكون لذاك أيها الأمي مدى معلوم: ولكن تريث الآن).

فأجابها: إذن سيكون ذلك في قمر الشهر المقبل أيتها الأميرة الحسناء!!.

إن قمراء البدر قد اكتملت وضوحاً وقوة، فهي الآن تملأ البيد، وتغسل الحقول. . . وتسيل على الأرض فتغطي كل ما فيها. . . حتى تلك الغرفة، وذلك السرير!!.

ولكن أين كاكاري. . . اين الأميرة إبنة (البحر لحسناء)؟!.

. . . لقد غابت، إذ رفعت عنها القناع!!.

ف. س