مجلة الرسالة/العدد 1020/في فضل محمد (ص)

مجلة الرسالة/العدد 1020/في فضل محمد (ص)

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 01 - 1953



للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

قرأت بشيء من التعجب مقال الكاتب الإسلامي محمد عبد الله السمان في (المعاني الحية في رسالة محمد) فإذا هو في صميمه مقال في شخصية الرسول (ص) وفي عظمته، وإذا تحمسه لبعض النواحي العظمى للرسالة يحمله على إنكار بعض نواحي أدلة تلك الرسالة التي هي أيضاً بعض مظاهر عظمة الرسول، في غلو في التعبير جافى فيه مالا أشك أنه يعلمه من أدب الإسلام في الدعوة، ثم هو بعد ذلك لا يصيب حقيقة عظمة الرسول.

إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه متعدد نواحي العظمة، والإسلام الذي هو رسالة الرسول متعدد نواحي الدعوة تعدد نواحي الفطرة التي هو دينها. وليس الناس سواء في تقدير تلك النواحي، فمنهم الخواص الذين يكبرون ما أكبر الأستاذ، ومنهم العوام الذين يقصرون عن ذلك ولا يكبرون ما دعا إلى إكباره من تحرير الإسلام العقول والنفوس إلا عن طريق إيمانهم بتلك النواحي التي لم يأبه هو بها والتي نعي على خطباء المساجد والسرادقات الإشادة بها في احتفالات ذكرى ميلاد الرسول، وأكثر شهودها هم العوام الذين أمر الرسول صلوات الله عليه أن يخاطبوا على قدر عقولهم وإلا كان مخاطبوهم فتنة عليهم.

ولو غير الأستاذ السمان نعى المسلمين ما يثنون على الرسول بما أجرى الله على يديه من الخوارق لقلنا غير مؤمن مجاهد يؤمن بالقرآن وبما أثبت للأنبياء من معجزات أكرمهم الله وأيدهم بها لم تكن لتثبت لهم في عصرنا هذا إلا بالقرآن. والقرآن نفسه أثبت لمحمد صلوات الله عليه من المعجزات - إذا أغفلنا شرط التحدي فيها - ما شاء الله. أثبت له الإسراء في سورة الأسراء، والمعراج في سورة النجم، وانشقاق القمر في سورة القمر، إذا أخذنا الآيات على ظاهرها كما ينبغي ولم نلجأ إلى التأويل تهرباً من إثبات إلا الأقل الذي لا بد منه من المعجزات؛ فالتأويل لا يجوز إلا بقرينة حاملة، والقرينة غير موجودة، والحديث الشريف الصحيح يفسر تلك الآيات ويصف من تفصيلها ما أجمل القرآن. فهل تلك المعجزات يا ترى ليست من مظاهر عظمة الرسول؟ بلى! فإن الله الذي لا يقدر على إجرائها غيره أجراها تأييداً له أو تكريماً. وفي كل تعظيم.

والحديث الصحيح أثبت للرسول صلوات الله عليه خوارق كثيرة كمعجزات الأنبياء والرسل من قبله. منها حنين الجذع الذي كان يخطب عنده قبيل اتخاذ المنبر، ومنها تكثير طعام جابر حتى أشبع جيش الخندق، وتكثير اللبن حتى أروى أهل الصفة من قدح استقله أبو هريرة لنفسه وللرسول، وتكثير الماء في الإناء حتى استقى منه جيش تبوك. ومنها رد عين أبي قتادة في غزوة أحد أو بدر، وإبراء عين علي رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله أجمعين في غزوة خيبر. وما من هذه إلا قد شهده الجم الغفير من الناس. فليت شعري لماذا نؤاخذ الوعاظ إذا ذكروا الناس بما أكرم الله به نبيهم من تلك المعجزات في ذكرى مولده الشريف؟ أو لماذا ينعى على الناس استشعارهم السرور والفخر بينهم الذي أكرمه الله تلك الكرامة وأنوله تلك المنزلة! لو أن أمثال الأستاذ السمان انتهزوا اهتزاز الناس ذلك وذكروهم بوجوب العمل بما أهملوه ونسوه من رسالة الرسول لكان خيرا للناس وأعظم أجرا له ولأمثله. أما النعي على من يذكر الناس بناحية من نواحي عظمة الرسول يرى هو غيرها أكبر منها، أو النعي عليهم إذا خرجوا من تلك الذكرى يعددون ما ذكروا به وازدادوا به إيماناً من تلك المعجزات، ففيه من الغلو والإسراف وتحجير الواسع ما فيه.

وأعجب من هذا وأوغل في الإسراف نعيه على (صنف) من المسلمين يفضلون محمداً على الرسل، ويجعلونه إمامهم ويجعلون رسالته فوق رسالاتهم والمسلمون كلهم ذلك الصنف الذي زعم الأستاذ ومنهم الأستاذ السمان نفسه بما كتب في مقاله من الناحية التي يعظمها ويكبرها. وإلا فأي الرسل أصلح الله به ما أصلح بمحمد صلوات الله وسلامه عليه؟ وأي الرسالات بلغت مبلغ الإسلام وحققت ما حقق الله، من تحرير العقول والنفوس في الماضي ولا يزال يدعو إلى تحريرها من كل سلطان غير سلطان الله سبحانه خالق الكون وفاطر الناس؟ وإذا كان الأستاذ يستشهد على من ظنهم خصومه من المسلمين بأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس أفلا يكون الرسول الذي أخرج الله على يديه تلك الأمة خير الرسل؟.

إن محمداً جمع الله له ما فرق في الرسل. آتاه من المعجزات مثل الذي آتاهم، وخصه بالقرآن الكريم معجزة خالدة لا تضارعها معجزة، وبدين شهد الله له بما لم يشهد به لدين قبله. شهد له بالكمال حين أنزل عليه في الوقف في حجة الوداع (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). وشهد له بما لم يشهد به سبحانه لنبي قبله من عموم الرسالة وعموم الرحمة به في قوله تعالى من سورة سبأ (ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقوله تعالى من سورة الأنبياء (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وأمثال الآيتين في القرآن الكريم كثير.

والرسالة نفسها ليست مما لمحمد فضل فيه فإنه لم يأت بشيء منها. والآيات التي استشهد بها الأستاذ من قول الله لا من قول محمد كما يعلم الأستاذ طبعاً. فلو لم يشغله الحماس عن التدقيق لما خفي عليه أن مبادئ الإسلام نفسه ليس لمحمد فضل فيها إذ لم تكن من عنده، وإذا كان هو مأمورا بالإيمان بها كغيره، وإذ عاش في قومه أربعين سنة قبل الرسالة لم يؤثر عنه أنه دعاهم فيها حتى إلى التوحيد، وإن أثر أنه لم يسجد لصنم وأنه كان قبل الرسالة من الموحدين. فالثناء الذي أثنى به بعض المستشرقين عليه أنه كان من عظماء المصلحين ثناء مدخول كان لا ينبغي أن ينخدع به الأستاذ لأن مبعثه اعتقادهم أن القرآن من تأليفه وأن الإسلام من وضعه. وكل ثناء عليه بغير النبوة والرسالة هو في الواقع دون مقامه الكريم ولو كان ذلك الثناء، أنه بطل الأبطال وأعظم المصلحين.

إن حقيقة عظمته ليست في الرسالة نفسها ولكن في أنه أدى الرسالة على وجهها. فالرسالة من عند الله ليس لمحمد ولا لغيره منها شيء ولا له في مبادئها فضل، وإنما الفضل كله أنه أداها كما ينبغي أن تؤدي، وتحمل في أدائها كل ما تحمل، ونهض بأعبائها نهوضا لم يكن لينهضه إلا من بلغ غاية كمال البشرية. وهذا هو ما يقصده الذين يقول الأستاذ انهم يرفعون محمداً فوق مستوى البشرية. وما مستوى البشر الذي يعرفه الأستاذ أو يمكن أن يعرفه في تاريخ البشرية إذا قيس بالمستوى الذي بلغه سيد البشر وخاتم الرسل محمد بن عبد الله؟.

إن أعجب العجب أن يقوم فرد بأعباء دين أعجز البشرية أن تحمله وتقوم بأعبائه إلا مجتمعة! والترقي داخل حدود الإسلام ليس له نهاية، لأن حدود الفطرة نفسها، إذ هو دين الفطرة بل نفس الفطرة التي فطر لله عليها الناس، بشهادته سبحانه في سورة الروم. وكل ما يمكن البشر أن يبلغه من الرقي في الفطرة قد حققه الله للبشرية في محمد بن عبد الله رسول الإسلام الذي لا ينطق عن الهوى، والذي صار كل عمل له سنة، وكل قول له حجة لله على عباده، لا عملا أو قولا لم يقره الله عليه في حوادث معدودة نطق بها القرآن وأحاطت بها سنة الرسول فكأنما أعد الله محمداً من بين البشر في تاريخ البشرية المتطور للقيام بأعباء دين الله الكامل؛ تلك الأعباء التي تفرق القيام بها في الناس، في الصالحين وأولى العزم من المسلمين حتى صار المتأسي به عن اجتهاد وصدق في صفة من صفاته مثلاً يضرب في مكارم الأخلاق إلى اليوم كما ضرب المثل في أبي بكر وعمر وعلي ومن إليهم من الصحاب وممن تبعهم بإحسان. فالكمال البشري قد جمعه الله لمحمد الفرد كي يستطيع أن يقوم بدين الله دين الفطرة والبشرية الكاملة. أفلا يكون لذلك أكمل البشر على الإطلاق.

هذه نتيجة منطقية ليس عنها محيص، وليس فيها انتقاض لأحد من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالله سبحانه قد فضل بعض رسله على بعض كما أخبرنا سبحانه في آية تلك الرسل؛ والحديث الذي ساقه الأستاذ السمان يشهد بذلك التفاضل. والأفضلية في صفة غير الأفضلية في مجموع الصفات. والنهي في الحديث الكريم عن التخيير بين الأنبياء موجه في الأصل إلى ذلك اليهودي لأنه هو الذي خير كما يتبين الأستاذ إذا رجع إلى الحديث. وجاء النهي عاما لحكمة غير نهي المسلم عن التعصب لأن المسلم في الحديث لم يزد على أن أنكر أن يكون موسى أفضل من محمد. وما يوهمه الحديث خلاف ذلك ليس على إطلاقه ولكنه محدود بما ذكر في الحديث. والثناء على موسى صلوات الله عليه بصفة تميز بها هو مثل في التواضع ضربه الرسول لأمته ليكون تشريعاً في مثل حادثته وهو يؤيد ما ذهبنا ونذهب إليه مع جمهور المسلمين من أنه المثل الأعلى للبشرية حققه الله للناس تاريخاً واقعاً. والمثل الأعلى يقترب منه المجتهدون في بلوغه اقترابا بطرد ما طرد اجتهادهم من غير أن يبلغوه مهما اجتهدوا.

وصلوات الله وسلامه على الرسول الكامل الذي حقق الله به وفيه الفطرة الإنسانية الكاملة محمد بن عبد الله.

محمد أحمد الغمراوي