مجلة الرسالة/العدد 1021/مُحَاضَرَاتٌ وَمُنَاظرَاتٌ

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 01 - 1953



شكل الدولة في الدستور الجديد

تناظر في هذا الموضوع أربعة من أقطاب الفكر يوم الثلاثاء الأسبق بالجامعة الشعبية، واحتشد لسماعهم بضعة آلاف من الناس كانوا يشتركون في المناظرة بقلوبهم وعواطفهم، إذ الموضوع موضوعهم، ثم هو موضوع الساعة! وقد انعقد إجماعهم - أو كاد - على الموافقة على الرأي القائل بأن تكون الدولة جمهورية، ولهذا فقد كان صاحب الرأي الذي يرى أن تكون الدولة ملكية ضعيفا حرجا، فالجمهورية يعارضه في كل قول، ويثور عليه في كل رأي، وهو لا يتزحزح عن موقفه حتى انتهى كلامه وهو يصيح في الحاضرين (لكم دينكم ولي دين).

وكان الوقت المقسوم لكل من الأربعة المتناظرين نصف ساعة، فالتزموه ولم يعده واحد منهم، وعقب عليهم الدكتور منصور فهمي - ولم يكن له وقت مقسوم - فاستغرق في تعقيبه ساعة وشارك الكثيرون في مناقشة الموضوع، واشتد بالجمهور الحماس، وانهالت الأسئلة من كل صوب على المتناظرين، ولم تنته المناظرة إلا بعد أربع ساعات وكان المحدود لها ساعة ونصف ساعة فقط! وكان سيرها على الوجه الآتي:

نهض الأستاذ محمد على علوية فقال:

لأول مرة نستطيع أن نجتمع لنناقش مثل هذا الموضوع الخطير الذي لم نكن نستطيع أن نمسه - ولو من بعيد - في العهود الماضية، ودلكم هو شعار عهدنا الحاضر، الدولة دولة الجميع، والوطن وطن الجميع، ليس لواحد فيه أكثر مما لأخيه، فلكل أن يبدي رأيه في نظامه ودستوره وقوانينه التي سيؤخذ بها جميع المواطنين على السواء.

ولو ذكرتم التاريخ القديم للإنسانية لوجدتم أن نظم الحكم فيها كانت نظماً أوتوقراطية مسرفة، حيث كان يحكم الشعب فرد واحد لا رأي إلا رأيه ولا هو إلا هواه والشعب قطيع لا يملك من أمر نفسه شيئاً!.

واستمرت الشعوب على هذه الحال أزمانا طويلة، ثم بدأ الوعي يتسرب إليها رويدا رويدا، وأخذت تنفض عن عيونها غبار هذا السبات الطويل، واشتد بها الوعي والإدراك، فطالبت بأن يكون إليها حكم نفسها، وأن تكون - دون سواها - مصدر كل السلطات.

وصوت الشعوب قوي غلاب، لا تثبت أمامه قوة فرد وإن يكن من الجبابرة المردة، فتحقق لها ما طلبت، وصارت الأمم في كل بقاع الأرض - إلا النادر القليل - مصدرا لكل أنواع السلطات في أرضها، وصاحبة الكلمة العليا في تصريف أمور بلادها، ونشأت هذه الكلمة السحرية، وسرت في العالم، وأعني بها كلمة (الديمقراطية) ونتج عنها نظام (الملكية الديمقراطية) ونظام (الجمهورية الديمقراطية) وكلا النظامين. . . كما يبدو من اسمهما. . . مقرون بصفة الديمقراطية ومقيد بها، لتضمن الشعوب بذلك أن تظل صاحبة السلطان.

ولو رجعنا - في مصر - إلى المائة سنة التي مضت فماذا نحن واجدون؟.

نجد أن الحكم كان عندنا إما أوتوقراطياً سافراً أو أوتوقراطياً يسنده شيء اسمه الدستور! نجد أن (عرابي) يطلب إلى (توفيق) - في تواضع - العدل ويطلب إليه البرلمان، فيجيبه هذا الحاكم لمطلق بقولته المشهورة: (كيف تجرءون على هذا وأنتم عبيد إحساناتنا؟). ونجد أن الجيش يطلب إلى (إسماعيل) ألا يستأثر الجنود الأجانب بالمناصب الكبيرة في جيش البلاد وأن يشترك معهم الجنود المصريون فيها، فيأبى عليهم إسماعيل ذلك؛ بل وينزل بهؤلاء المطالبين العقاب الأليم. ونجد هذه الوحشية التي كانوا يسمونها (الالتزامات) ومعناها أن تباع القرى برمتها إلى (ملتزم) نظير مبلغ معين، ثم إذا بهذا (الملتزم) يلهب ظهور أهل القرية بالكرباج ليجمعوا له المال الذي يدفع منه نصيب الحاكم في هذا (الالتزام). هذه نماذج مما نجده في حكم الفرد منذ مائة سنة، أما عهد فاروق فأراني في غير حاجة إلى بسط القول فيه وهو مازال مائلا لأعينكم، ومن عجب أنه كانت تسنده طول مدة حكمه برلمانات لا أدري أهي حقاً برلمانات أم شركات؟.

أريد أن يستقر في أذهاننا جميعا أن صلاحنا لا يكون بصلاح فرد وإنما يكون بصلاح المجموع، وأن يستقر في أذهاننا أننا كنا دائما في خلال هذه السنوات المائة شركاء في المسؤولية، وأن هذه السنين كانت وبالا مستمرا وفسادا دائما لهذه الأمة. إن الدين الإسلامي يا حضرات السادة - لا يعرف الملكية، ويكفي دليلاً على ذلك أن محمدا سيد الخلق لم يعين أحداً بعده، وأن خلافة أبي بكر بعده إنما كانت بالبيعة وهي انتخاب، وكذلك كانت خلافة عمر وعثمان إلى أن صار ملكا عضويا فضاعت هيبة المسلمين. . . إن الدين الإسلامي يقرر أن الأمر شورى بين الناس ولذلك لا أستطيع أن أنصح إلا بالجمهورية.

ثم أعقبه الدكتور وحيد رأفت فقال:

أعلم - قبل أن أتكلم - أن موقفي بينكم حرج شديد الحروجة! لأني سأنفرد برأي لا يقرني عليه أحد من زملائي، وما أحسب أحدا منكم سيقرني كذلك! فكلمة (الملكة) مقرونة في أذهانكم باسم (فاروق) وبئس القرين! ولكن أجور أن تعلموا أننا لا نضع دستورا لليوم فقط ولكننا نضعه للأجيال القادمة أيضا: وليس كل الملوك فاروقا، وفي الملوك - كما في الناس جميعاً - الصالح والطالح، وقد بقي النظام الملكي حتى اليوم في بلاد عريقة كإنجلترا وسويسرا والنرويج، برغم أن الإنجليز شنقوا من ملوكهم واحدا وطردوا آخر! وليس النظام الجمهوري - كما يتصور البعض - ضمانا قاطعا من الظلم والطغيان، فقد أدى في أمريكا مثلا للدكتاتورية دائماً! إن حول رئيس الجمهورية الأمريكية وزراء ولكن لا رأي لهم ولا وزن لكلامهم ورأيه هو الأعلى دائماً. وإن إلى جانب رئيس جمهورية فرنسا رئيس وزارة هو بمثابة دكتاتور فعلي للبلاد، وإن الجمهورية في فرنسا هي سبب الاضطرابات والقلاقل والهزات المالية التي تنتابها دائماً. إنني لا أشبر بغير النظام الملكي على ألا يكون فاسداً مفسداً كالذي رأيناه، فكيف نضمن ذلك؟ إنكم مسئولون إلى حد كبير عن هذا الفساد الذي استشرى في بلادكم، وكيفما تكونوا يول عليكم، وقد أعطيتم الملكية درسا قاسيا لن تنساه قرنا - على الأقل - من الزمان، ولن تكون الملكية طاغية في مصر بعد اليوم.

وأعقبه الدكتور مصطفى الحفناوي فقال:

من حق الشعوب - يا سادة - أن تختار لون الحكم لنفسها بنفسها مستندة في ذلك على حقها في الحرية والاستقلال وهو حق لا يسقط بالتقادم ولا يجوز أن يباشر بالإنابة، فما النظام الذي يختاره الشعب؟ سواء عندنا أن يسمى رئيس الدولة ملكا أو رئيس جمهورية، ولكن يجب أن يكون الحكم ترجمة لشعور الأمة وضمانا لتوزيع العدل بين آحادها.

ونحن لا نستطيع أن نستند في اختيار لون الحكم على سوابق الدول الأرى، فالدساتير كالنبات ينمو هنا ويذيل هناك، وإذا أردنا الإبقاء على الملكية فمن يكون الملك؟ أنبقى على هذه السلالة العلوية وإن الصالح لا يخرج من صلب الفاسد أبداً؟ أنقدم التاج لهذه الأسرة ونكرر تجربة ذقنا منها الأمرين مائة وخمسين عاماً؟ إن الأمر يجب أن ينتهي إلى الأمة فتنتخب هي رئيسها وتعزله إذا رأت منه اعوجاجا، فيكون أمرها إليها لا إليه. ولذلك فلا أوصي بغير الجمهورية.

ونهض على أثره الأستاذ إحسان عبد القدوس فتكلم في بساطة وسهولة قائلا:

تحكم مصر من عهد الفراعنة حكما ملكيا، فتأكد معنى هذا الحكم في النفوس، واصبح من الصعب إيجاد الخيال السياسي للتحرر من هذا المعنى. ومنذ عهد الفراعنة لم تحكم مصر بمصري ومع ذلك فإن البعض يريد أن يفوت علينا هذه الفرصة الذهبية ويعيد إقامة ملوك يبدءون صالحين ثم ينتهون فاسدين! وحجة هذا البعض أن الملكية نظام استقرار؟ فأي استقرار هذا؟ إنه الجمود والتحجر والوقوف عند مصلحة الملك. إنه استقرار للعرش وللملك لا للشعب ولا لأبناء العشب. . إن النظام الملكي هو سبب خلق نظام الطغيان فالملك يريد أن يكون إلى جانبه طبقة مثله يؤيد بها عرشه وينفذ بها رغباته ولن توجد هذه الطبقة إلا على أشلاء الطبقات الفقيرة البائسة. . . إنهم يسألون من يكون رئيساً للجمهورية؟ كأن مصر قد عقمت عن أن يكون بها رجل يحل محل الطفل أحمد فؤاد! قد عملت استفتاء في موضوع مناظرتنا الليلة ولا أذيع سراً إذا قلت إن الإجماع يكاد يكون منعقدا على تحبيذ الجمهورية فأنا لا أشير إلا بها.

جامعة الأمم العربية على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته

في السادسة من مساء الجمعة السابق اجتمع بقاعة يورت عدد من الناس لسماع محاضرة الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية الأسبق في هذا الموضوع، وقد استغرق إلقاؤها ساعتين إلا قليلا كان المحاضر أثناءها يفيض بالحديث المدعم بالأرقام والإحصاءات والتواريخ. كأنه يقرأ من كتاب مفتوح من أن إلقاءه كان محض ارتجل! ويمكن أن نلخص هذه المحاضرة القيمة فيما يأتي:

لعل التعبير بجامعة (الأمم) العربية أولى من التعبير بجامعة (الدول)، وأنتم تذكرون عصبة (الأمم) قديما وهيئة (الأمم) المتحدة حديثا، وكلها هيئات قامت للدفاع عن الأمم وتنظيم العلاقات بين الشعوب. أما جامعة (الدول) العربية فهي الهيئة التي أنشئت في الشرق الأوسط من الدول السبع (مصر وسوريا ولبنان واليمن والعراق والأردن والمملكة العربية السعودية) للدفاع عن البلاد العربية جمعاء المشتركة منها في الجامعة وغير المشتركة. وتم عقد ميثاقها - كما تعلمون - في الإسكندرية سنة 1945 بين تلك الأمم التي تربط بينها علاقة الجوار واللغة والدين والعادات والتقاليد وما إلى ذلك من علاقات تضرب في بطرن التاريخ إلى آماد سحيقة بعيدة. وقد وهم البعض أن هذه الجامعة إنما أريد بها أن تكون أداة ذلولا في يد الإنجليز ينفذون بها مآربهم، ولكنها أثبتت أن هؤلاء جد واهمين! فقد عملت جاهدة على استكمال السيادة لمن تنقصها السيادة من البلاد العربية، وحققت جاهدة كثيرا من الأغراض المشتركة بين البلاد العربية كالثقافة والسياسة والاجتماع والمواصلات والقوانين وسواها، وذلك ليس من مآرب الإنجليز في شيء! ولكننا لسنا اليوم بصدد سرد أعمالها وجهودها في الماضي فلذلك مقام آخر، وإنما نحن اليوم بصدد الحديث عنها الآن في ظل هذا العهد الجديد. . . كان الملك السابق يتدخل تدخلا ساقراً في أعمال الجامعة لمآرب يبغي تحقيقها لنفسه، كان يبغي - كما كان أبوه يبغي من قبل - أن يكون خليفة المسلمين! فكان يجمع الملوك ويوفد الوفود ويلقي بالتصريحات المملوءة بالحماس في بعض القضايا العربية كما فعل مثلا في قضية سوريا ولبنان! ولكنه لم يكن ينظر في ذلك جمعية إلا إلى شخصه. فلما عز عليه تحقيق مطالبه انقلب عدوا للجامعة وساءت العلاقات بينه وبين الكثير من الأسر الحاكمة في البلاد العربية، وحقت صوت الحماس منه وكان قويا! وبزوال فاروق زال هذا العصر الشخصي الذي كان يتدخل في أعمال الجامعة، وصارت اجتماعاتها اجتماعات شعوب لا اجتماعات ملوك وأمراء كالتي كان يجمعها فاروق، وأسبغ العهد الحاضر ظلا وارفا من رعايته على الجامعة. وليس من عجب في ذلك، فإن العهد الحاضر تربطه بالجامعة أسباب وأسباب، (فلسطين) هي أول حجر في هذا العهد كما تعلمون وقائد الحركة قد حارب هناك وجرح، وقضية (لأسلحة الفاسدة) هي - كما تعلمون أيضا - من السباب المباشرة لهذه الحركة. . . لهذا كان طبيعيا أن نرى العهد الحاضر يحتضن الجامعة، ويحتضن قضايا الأمم العربية عامة فيهب هبة الليث الهصور لموقف ألمانيا من إسرائيل، ويأسو جراح المكلومين الشاردين في غزة، فيسوق إليهم الغوث والعون في (قطار الرحمة)!.

علي متولي صلاح