مجلة الرسالة/العدد 1022/الآنسة (عطار)!
مجلة الرسالة/العدد 1022/الآنسة (عطار)!
للأستاذ علي الطنطاوي
أخذت بنتي عنان الشهادة الابتدائية هذه السنة. ونالت درجة تدخلها الثانويات الرسمية التي يزدحم الناس عليها، ويتسابقون إليها؛ لأنها (في الغالب) أحسن تعليما، وأمتن نظاما؛ ولأنها بعد المجان والمدارس الأهلية بالأجر (الفاحش أحيانا)، ولكني آثرت مع ذلك كله أن أدخلها (المعهد العربي الإسلامي) للبنات، لأنه يجمع بين اتباع مناهج الوزارة، والتأدب (ما أمكن) بآداب الإسلام؛ ولأنه لا يعلم فيه إلا أوانس وسيدات، فليس فيه معلمون مع المعلمات؛ ولأن المشرفين عليه رجال منا، يعرفون من الأمر ما نعرف، وينكرون ما ننكر، ولا يأبون سماع النصح منا أو من غيرنا، واتباع سبيل الرشاد وترك طريقهم إليه إن دللناهم عليه نحن أو دلهم عليه سوانا. وكذلك يكون المسلم: يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت، ويسمع كلمة الحق أيا كان قائلها.
وترددت البنت خشية انتقاص صواحبها، وكلام أترابها. والنساء - مهما كانت أعمار النساء - لا يعشن من الدنيا في حقيقتها، وإنما يعشن في آراء الناس وألسنتهم. والشقاء عند أكثرهن مع التظاهر بالسعادة حتى يظنها الناس فيهن، أحب إليهن من أن يكن سعيدات وهن في ظن الناس شقيات. هذي طبيعة النساء!
ودخلت المدرسة مكرهة، فما مرت أيام حتى صار الإكراه رضا، والكره حبا. واشتد تعلقها بالمدرسة؛ لأن فيها الآنسة عطار والآنسة شطى والآنسة درا، وصارت تجيئنا كل ليلة فتقول لي ولأمها:
- بابا! الآنسة عطار قالت لنا إن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة. الآنسة عطار يا ماما، حكت لنا قصة الثلاثة الذين انسد عليهم الغار.
الآنسة عطار كلمتني اليوم، الآنسة عطار ضحكت لي. إن حيتها الآنسة عطار طارت من الفرح كأنما حيتها الملائكة. وإن بسمت لها فكأنما بسم لها الدهر؛ وإن قالت لها كلمة نقشت كلمتها على صفحة قلبها فلا تنساها، وكانت دستورا لها فلا تحيد عنها. قالت لها الآنسة عطار: أقرئي كل يوم صفحة من القرآن، فلم تعد تترك قراءة صفحة من القرآن كل يوم. وجاء دمشق (سرك) تسابق إليه الناس، وتعلقت به البنت، وحاولت صرفها عنه فلم تنصرف. فلما قالت لها الآنسة عطار: إن هذا السرك شيء قبيح، صار هذا السرك أكره شيء لها.
عجبت من هذه (الآنسة عطار) ما تكون؟ ومن أين لها هذا النفاذ إلى قلوب البنات؟ وماذا فيها حتى تكون الإشارة الواحدة منها أبلغ من مائة نصيحة مني، والبسمة من فمها أرضى للبنت من الهدية القيمة من يدي! وسألت البنت عنها:
- قالت: هي مدرسة السنة الثالثة، يحبها البنات كلهن، ألا تعرفها يا بابا؟
- قلت: من أين أعرفها؟
- قالت: إنها تلميذتك. هكذا قالت لي. تلميذتك، نسيتها؟!
وعرفت أخيرا من هي هذه (الآنسة عطار). لقد كانت تلميذتي حقاً وذكرت من أمرها (على قلة ما أذكر من أمور تلاميذي وتلميذاتي) ما يكون إن نشرته إماماً لكل طالبة، وقدوة لكل تلميذة، ومثالا للطالبة الجادة الشريفة المسلمة، فلذلك أنشره.
ذكرت كيف اضطرتني إلى الانتباه إليها، قبل أن أعرف اسمها وألزمتني (وأنا مدرسها) بتوقيرها قبل أن أخبر علمها؛ لأني رأيتها لا تشارك التلميذات في لهو في الفصل، أو عبث في الفسحة؛ ولم يكن يحاولن إشراكها معهن. وكن يتكلمن بينهن بلسان الألفة والتبسط والجراءة، فإذا وجهت إحداهن القول إليها اصطنعت الجد وتكلفت الوقار، وخاطبتها لا مخاطبة الترب للترب، بل التلميذة للمدرسة، والبنت للأم. وما كانت أكبرهن سناً، ولكن كانت أكثرهن أدباً، وأكبرهن عقلاً. وإذا ألقيت في الفصل نكتة ضحك لها البنات، كانت ضحكتها ابتسامة، تومض بلطف ويختفي بسرعة. وإذا عرضت كلمة فيها إشارة إلى ما لا يحسن، أو جاء بيت فيه تعليق بما لا يليق، علا خديها الاحمرار خجلاً وأطرقت حياء.
وكانت الطالبات يدخلن الفصل مكشوفات الرؤوس، يحسبن أن المدرس ليس رجلاً أجنبياً، وليس عليهن الاستتار منه، ولا عليه غض البصر عنهن، ومنهن من تلقي على رأسها شيئاً لا يستر شعراً ولا نحراً - أما هي فكانت تظهر وجهها وحده على الصورة التي صوره الله عليها، لا التي صورتها منتجات (ماكس فاكتور في هوليود). . . تلف حوله خماراً أسود على زي ابتكرته هي لنفسها، وسيقلدها فيه غيرها فتكون سنة حسنة لها أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة - لفاً محكماً أنيقاً، لا تنكره الشيخة المتدينة، ولا تستقبحه الفتاة المتمدنة. لا يبدي الشعر ولا النحر، ولا يثقل على راس حاملته ولا عيون الناظرين.
وذكرت كيف أخرجتها أول مرة لتقرأ شيئاً، فسمعت إلقاء أجزم أني ما سمعت قط من فتاة أوضح منه ولا أفصح، وقلما سمعت من رجل مثله، إلقاء خطيبة واثقة من نفسها، متمكنة من أدبها، ضابطة لمخارجها؛ فاهمة لمعانيها مؤدية لها. فلو أن أمرؤ لا يعرف العربية يسمعها لفهم من لفظها المعنى من تفخيم اللفظ في موضع التفخيم. وترقيقه في حل الترقيق، وإيفاء اللهجات في السؤال والجواب والدهشة والإعجاب. فكأنك لا تسمع كلاماً، وإنما تبصر من هذا الإلقاء المعبر (فلماً) ناطقاً ملوناً؛ على ضبط للألفاظ، وحفاظ على القواعد، وتمكن من اللغة والنحو.
وكانت مسلمة علماً وعملاً واعتقاداً، وذلك جماع الإسلام.
ونالت شهادة البكالوريا ودخلت الجامعة، والجامعة فيها هذا المنكر العجيب:
الاختلاط بين الشبان والشابات في غرفة الدرس، وفي باحة الكلية، وفي حديقة الجامعة، وفي المكتبة، وفي النادي، وفي الرحلات والحفلات (وهما شر تلك المنكرات). والطريق إلى الجامعة طويل، والدروس في الليل والنهار، والجامعة في طرف البلد بين البساتين والأنهار، والدين ضعيف، والزمان فاسد، والغرائز مكبوتة، وإبليس مستعد متيقظ. ولا يأمن مع هذا كله الفساد على بنته إلا مغامر لا يبالي ما فقد من عرضه، أو مجنون من شأنه إلا يبالي بشيء!
فكانت سيرتها من الجامعة عجباً من العجب. وكانت تجربة وقى الناس الله شرها. كما قال عمر بن الخطاب: وما كل تجربة يوقى صاحبها الشر - لم تختلط بأحد، لا بطالب ولا بطالبة ولا بأستاذ.
أما الطلاب، فلأن الدين والشرف والعرف تمنع كلها اختلاطها بهم، ولو للسؤال عن موعد الدرس، أو معادلة الكيمياء، إذ يجر السؤال عن موعد الدرس إلى السؤال عن موعد الغرام، والمعادلة تدعو إلى المقابلة، وما تقابل البارود والنار، إلا كان الانفجار!
وأما البنات، فلأن في خلطة بعضهن ما هو شر من خلطة الشباب، إذ يفسدن من لا يطمع في فسادها أفسق شاب؛ ولأن منهم رسل الشيطان، ووسائط الاتصال بالرجال.
وأما الأساتذة فلأنهم (هم أيضاً) رجال، ولأن الشرع لما أمر بستر العورة، وغض النظرة، قد شمل بذلك كل رجل وكل امرأة، فلم يستثن من النساء تلميذة، ولا من الرجال أستاذاً؛ ولأن المدرس المؤدب المهذب الذي يدرس الخلق والدين، لا يبقى أبداً كما يكون في الفصل؛ ولأن حالات مختلفات، وغرائز وشهوات، فإن تكلم في الفصل بلسان عقله فقد يتكلم خارج الفصل بـ. . . غير لسان العقل!
والصخرة الراسية إن أزحتها شعرة بعد شعرة حتى فقدت رسوخها، رأيتها تتدحرج فتهوي فلا تستقر إلا في قرارة الوادي. وكذلك البنت لا تسقط فجأة، ولكنها تلين ثم تتزحزح ثم تضعف فتهوى (هي أيضاً) إلى الحضيض. فرب بكر عذراء شريفة، تستطيع أن تفخر بأشرف أب، وأن تظفر بأفضل زوج، وأن تكون سيدة مجمعها، ووجيهة قومها، تغدو غدوة، أو تزور زورة، فتمزح مزحة، وتضعف لحظة، فإذا هي قد غدت ساقطة، وصارت بغياً، لا يقبل المجتمع توبتها، ولا يغسل حوبتها. أما الذي أغواها، فسرعان ما ينسى الناس فعلته، ويقبلون توبته، ويغسلون حوبته، فيذهب هو بغنم اللذة، ويبقى عليها غرم العقاب، تحمله وحدها، عاراً لاسمها، وولداً في بطنها، فتكون قد شرت شقاء العمر بلذة دقائق خمس أو عشر!
فلما استقرت قدمها في الجامعة، وعرفت (صامتة) من حولها، اصطفت طائفة من البنات، من كل عفيفة شريفة، صينة دينة، فنفخت فيهن روحاً من روحها، وصبت فيهن عزماً من عزمها، وجعلت منهن جبهة للصيانة والديانة، والشرف والعفاف، يأس منها الفساق، كما يئس من دخول الجنة إبليس. والشاب مهما كان جريئا في فسقه لا يقدم على البنت إن رأى منها الجد والصد، ورآها تمشي رافعة الرأس، ثابتة القدم. وإن أقدم عليها فأغلظت رده، أو لطمت خده، ولعنت أباه وجده، فإن زاد فخلعت نعلها من رجلها ونزلت به على رأسه - لما عاد.
أما سيرتها في بيتها، فسيرة البنت البارة، والطالبة الجادة، والمسلمة التي تعرف حق نفسها وحق أهلها وحق ربها، تترك لله كل ما لا يرضي الله، لا رغبة عنه في الظاهر مع رغبة فيه في الباطن، بل عن إيمان ويقين، وتصديق لقول الرسول: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
تركت القصص الفاجرة، والأفلام الداعرة، وكل ما تتسابق إليه من اللهو الفتيات، وما تطمع فيه من التوافه البنات، فعوضها الله عن ذلك علماً وفهماً، ومنزلة تتمناها كل بنت فلا تصل إليها إلا القليلات؛ وراحة في نفسها، واطمئناناً في قلبها لا ينالهما بالمال بنات ملوك المال.
هذه هي الآنسة عطار التي تعلمت من سيرتها أنه لا يصلح البنت إلا الصالحات من البنات، فإذا أردنا الإصلاح حقاً فلنعد له مثل (الآنسة عطار) التي أنشر هذا الطرف من سيرتها، لتتخذها طالبات الجامعات قدوة لهن ومثالا، ولتزداد هي صلاحاً بذلك وكمالاً.
علي الطنطاوي