مجلة الرسالة/العدد 1022/السليقة بين الفصحى والعامية

مجلة الرسالة/العدد 1022/السليقة بين الفصحى والعامية

مجلة الرسالة - العدد 1022
السليقة بين الفصحى والعامية
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 02 - 1953



للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

السليقية نسبة إلى السليقة: وهي السجية والطبيعة والطبع. واكثر ما تستعمل السليقة في الطبيعة الكلامية فإذا قالوا فلان يتكلم بالسليقة أرادوا أنه يتكلم أو يقرا بطبعه لاعن تعلم.

وتستعمل السليقة أحيانا في غير الكلام فيقال (الكرم سليقته والسخاء خليقته). أما إذا قالوا فلان سليقي بياء النسبة فلا يراد منه حين إذ إلا معنى نسبته إلى السليقة الكلامية وحدها، ويقال كلام سليقي. ويزداد معنى إرادة الكلام في لفظ (السليقة) إذا ألحقت بها ياء المصدرية. حتى إذا قالوا السليقية سجية فلان لم يعد يفهم منها إلا الطبع اللغوي الذي نشا عليه فلان في بيئته: قال الأزهري فإذا قرا البدوي بطبعه ولغته ولم يتبع سنة قراء الأمصار قيل هو يقرا بالسليقية أي بطبيعته وليس بتعليم. وفي حديث أبي الأسود الدؤلي أنه وضع علم النحو حين اضطرب كلام العرب وغلبت السليقية: قال صاحب اللسان في تفسير هذه السليقية إنها اللغة التي يسترسل فيها المتكلم على سليقته أي سجيته وطبيعته من غير تعمد إعراب ولا تجنب لحن.

ومن هنا نستنتج أن السليقية ما دامت لغة البيئة أي اللغة التي يسترسل فيها كل متكلم بطبعه - كانت السليقية ضربين (سليقية فصاحة) (وسليقية بذلة) وهي السليقية العامة. وإنما اخترت كلمة (البذلة) مشايعة للزمخشري فإنه استعملها في عبارة له كما سيأتي.

فسليقية الفصاحة أو السليقية الفصحى هي اللغة التي غلبت على لسان المتكلم باللغة البدوية: كالأعراب الذين ملكت الفصاحة ألسنتهم فلم يتطرق إليها الفساد: فهم لا يتكلمون بها إلا معربة واضحة المقاطع ومن دون أن يتكفلون الأعراب أو تجنب اللحن. واشهر شاهد على هذا الضرب من السليقية أعني السليقية الفصحى قول شاعر البادية

(ولست بنحوي يلوك لسانه ... ولكن سليقي أقول فأعرب)

والضرب الثاني من السليقية ما سميته (سليقية البذلة) وهي سليقية العربي العامي في لهجة التي غلبت على أهل مصر بعد انتشار الإسلام وقد مرت الإشارة إليها في حديث أبي الأسود مذ قالوا أنه وضع علم النحو (حين اضطرب الكلام. وغلبت السيلقية) فالعربي العامي كالعربي البدوي: غلبت على كل منهما لهجته أو لغته بحكم تأثير بيئته ونشأته: الأعرابي ترك نفسه على سجيتها فاسترسل في لغته الفصحى لا يلوي على شيء غير متكلف إعرابا ولا متجنب لحنا، والعربي العامي السليقي البذلة يترك نفسه هو أيضاً على سجيتها فيتكلم بلغة أمه ولهجة بيئته لا يتكلف إعرابا ولا يتجنب لحنا: البدوي يعرب بحكم السليقية. والعامي يلحن بحكم السليقية. فليس الشاعر أو الراجز البدوي سليقي بقول فيعرب وحده بل إن الزجال الشعبي سليقي أيضاً يقول فيلحن ولا يعرب بحكم السليقية. كلاهما سليقيان.

بقى أن نورد شاهدا على السليقية الثانية (سليقية البذلة) أي على أن العربي العامي إذا استرسل في لغته الملحونة صح أن يوصف بالسليقية وان يقال أنه سليقي.

عثرت على شاهد لطيف المغزى رقيق الحواشي أورده الزمخشري في كتابه (الفائق) تعليقا على مادة ظرف قال: ومن حديث معاوية رضى الله عنه أنه قال لجلسائه يوما: كيف ابن زياد فيكم: قال: ظريف على أنه يلحن. قال: أو ليس ذلك اظرف له اهـ.

قال الزمخشري: وإنما استظرف معاوية ابن زياد لأن السليقية وتجنب الأعراب مما يستملح في البذلة من الكلام قال: ومنه البيت المشهور:

(منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وأحلى الحديث ما كان لحنا)

فالزمخشري استعمل السليقية بمعنى استرسال الظريف في البذلة من الكلام. وليست البذلة من الكلام الواردة في عبارته إلا التبذل وعدم التصاون في تحري الفصيح المعرب. ومن هنا صح لنا استعمال سليقية البذلة في مقابل سليقية الفصاحة.

فإذا كان علماء اللغة قد خصوا البذلة والابتذال والمباذل في رث الثياب أو في لبس الممتهين منها فإن شيخنا الزمخشري قد استعمله في رث الكلام وعاميه والمبتذل منه.

على أنهم يقولون في فصيح اللغة (كلام مبتذل ومثل مبتذل) إذا كان كثير الاستعمال ملهوج الذكر. ولكن قولهم هذا لا يستدل منه على جواز وصف اللغة الملحونة بالابتذال. فالكلام المبتذل والمثل المبتذل إنما جاءهما وصف الابتذال من ناحية اللهج بهما وكثرة الاستعمال لهما حتى لو قالهما الحضري البليغ أو البدوي الفصيح سميا مبتذلين بمعنى إنهما متداولان لا أنهما عاميان ملحونان وفرق بينهما.

فالبذلة في الكلام بمعنى العامية الملحونة إنما استفدناها مباشرة من عبارة الزمخشري. وفوق ذلك كله فإن اللحن في البذلة السليقية إن أنكره بعضهم واستبشعه فإن الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما استحسنوه وأفتوا بجوازه بل نصح بعضهم بأن يستعمل الكلام الملحون في مخاطبة المرء لغيره وفي تحديثه جلسائه لا في ما عدا ذلك فقال (لا تستعملوا الإعراب في كلامكم إذا خاطبتم. ولا تحلو منه كتبكم إذا كتبتم) كأنه يقول أوصيكم أن تعربوا كتاباتكم وتلحنوا في محاوراتكم.

ولعل هذه الوصية في مراعاة الإعراب في الكتابة وتركه في المحاورة إنما استندت إلى ما وقع للفراء مع هارون الرشيد: ذلك أنه دخل عليه يوماً وتكلم بكلام لحن فيه مع جلالة قدره وعلو رتبته في النحو. فقال جعفر يا أمير المؤمنين إن الفراء قد لحن. فقال الرشيد أتلحن يا يحيى؟ (ويحيى اسم الفراء) فقال يا أمير المؤمنين إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن: فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع (أي في محاورة الناس) لحنت. فاستحسن الرشيد كلامه.

واعتذر صاحب صبح الأعشى للحانين في الكلام مؤيداً الوصية المذكورة فقال إن اللحن قد فشا في الناس. والألسنة قد تغيرت حتى صار التكلم بالإعراب عيباً. والنطق في الكلام الفصيح عيا. والذي يقتضيه حال الزمان الجري على منهاج الناس بأن يحافظ على الإعراب في القرآن والحديث والشعر والكلام المسجوع وما يدون من الكلام ويكتب من المراسلات ونحوها. ويقتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم يتداولونه بينهم ويتحاورون به في مخاطباتهم. وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام مذ فسدت الألسنة وتغيرت اللغة. انتهى كلام القلقشندي وهذه المسألة أي مسألة استباحة اللحن والإخلال بالإعراب في لغة المحاورة موضع نزاع كبير بين فضلاء العصر ولا سيما أساتذة المدارس والمشتغلين بتعليم النشء.

وينبغي أن يزاد على المواطن التي عددها القلقشندي وحظر اللحن فيها من مثل المدونات والمراسلات - يزاد كلام المدرسين والمعلمين في قاعات الدروس حيث يبسطون محاضراتهم تحت أسماع الطلاب. فلا يجوز بحال اللحن فيها، ولا الإخلال في الإعراب في ألفاظها ومبانيها: فإن الناشئين في ليونة ألسنتهم وحساسية أدمغتهم قابلون للانطباعات والتأثيرات، فإذا سمعوا الكلام الملحون المرة بعد المرة يوشك أن تفسد ملكاتهم وتستعجم لهجتم.

ويتصل ببحث استظراف السليقية في الكلام الملحون بحث آخر فيه طرافة وله علاقة ببحث اللهجات وهو: هل يجوز للكاتب أو المحدث أن ينقل الكلام الملحون بنصه من دون تغيير؟ والجواب عن هذا يعلم مما مر بالضرورة. أليسوا قد أجازوا التكلم بالملحون فلأن يبيحوا نقله أو روايته بالطريق الأولى. على أن أساطين الأدب العربي صرحوا بالترخص فيه بل بترك الكلام الملحون على اعوجاجه وقبيح أغلاطه.

قال الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) ومتى سمعت حفظك الله نادرة من كلام الأعراب (وقد عنى بهم أرباب السليقية الفصحى) فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها. فإنك إن غيرتها بأن لحنت في إعرابها أو أخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير وإن سمعت نادرة من نوادر العوام (وقد عنى بهم أصحاب السليقية العامية) أو ملحة من ملحهم فإياك أن تستعمل لها الإعراب أو تتخير لها لفظاً حسناً فإنك إن فعلت أفسدت الإمتاع بها وأخرجتها من صورتها التي وضعت لها وأذهبت استطابة السامعين إياها. فالجاحظ يرى أن رواية الأقوال الملحونة والنوادر الملتوية اللهجة يستطيبها الجلساء ويلذون بسمعها وخاصة إذا كان اللحن (من الجواري الظراف والكواعب النواهد والشواب الملاح) فإن ذلك يستملح في كلامهن ما لم تكن الواحدة منهن صاحبة تكلف فإن المتكلمة للكلام الملحون تسمج ويتجافى عنها ويكثر هذا اللحن المستملح في الأعجميات من النساء كالروميات والأرمنيات.

أعجب ما أسمع منها في السحر ... تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر

والسوءة السواء في ذكر القمر

وما قولكم في أبي اسحق بن سيار النظام فإنه كان يلحن في كلامه ويروي عنه صديقه الجاحظ كلامه الملحون ويعتذر عنه بل يسوغ له عمله: فقد روى في كتابه الحيوان (جزء 1ص136) أنه خرج مع النظام ليلة في بعض طرقات الأبلة فألح على النظام كلب من شكل كلاب الرعاة فثبت له ولم يجزع وأقبل على الجاحظ يحدثه عن نفسه ويعدد خصاله إلى أن قال ما نصه: إن كنت سبع فاذهب مع السباع. إلى آخر حديثه؛ فعلق الجاحظ على هذا بقوله: لا تنكر (أيها القارئ) على حكايتي عن النظام بقول ملحون مذ قلت (إن كنت سبع) ولم (أقل إن كنت سبعاً).

ثم علل ذلك بقوله إن الإعراب يفسد نوادر المولدين كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب لأن سامع النوادر إنما أعجبته تلك الصورة وذلك المخرج وتلك اللغة، فإذا أدخلت على هذا الأمر الذي إنما أضحك سخفه وعجمته حروف الأعراب والتخفيف والتثقيل وحولته إلى صورة ألفاظ الأعراب الفصحاء وأهل المروءة والنجابة - إذا فعلت ذلك انقلب المعنى مع انقلاب نظمه وتبدلت صورته.

ثم قال الجاحظ في مكان آخر: ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء فالسخيف للسخيف والخفيف للخفيف: فإن كان موضع الحديث على أنه مضحك ومله وداخل في باب المزاح والتفكيه فاستعملت فيه الإعراب انقلب عن جهته وإن كان في لفظه سخف فأبدلت السخافة بالجزالة صار الحديث الذي وضع على أن يسر النفوس يكربها ويأخذ بأكظامها.

ثم قفى الجاحظ على رأيه هذا بهذه العبارة الجريئة فقال: (وبعض الناس إذا انتهى إلى ذكر كذا وكذا وعدد الجاحظ ألفاظاً يستحي من ذكرها) ارتدع وأظهر التعزز واستعمل باب التورع. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم والنبل والوقار إلا بقدر هذا الشكل من التصنع. ولم يكشف قط صاحب رياء ونفاق إلا عن لؤم مستعمل ونذالة متمكنة انتهى.

أقول قد غلا الجاحظ في تهوين أمر كلمات الرفث والبذاء على الناس؛ وأرى أن استدرك عليه بما استدركه ابن قتيبة على نفسه وقد حام على ما قاله الجاحظ فقال: ولم أترسل لك بإرسال اللسان بالرفث على أن تجعله هجيراك على كل حال، وديدنك في كل مقال. بل الترخص مني فيه عند حكاية تحكيها أو رواية ترويها تنقصها الكناية ويذهب بحلاوتها التعريض وأحببت لك أن تجري في القليل من هذا على عادة السلف الصالح في إرسال النفس على السجية والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع ولا تستشعر أن القوم (يعني السلف الذين ترخصوا بذكر الرفث) قارفوا وتنزهت، وثلموا أديانهم وثورعت اهـ.

ثم انتقل ابن قتيبة في كتابه (عيون الأخبار) من رواية كلمات الرفث والترخيص بها بقدر معلوم إلى رواية الكلام الملحون من نوادر وملح، وهو موضوعنا الذي كنا فيه مع الجاحظ فقال: وكذلك اللحن في الإعراب إن مر بك في حديث من النوادر التي نرويها لك: لأن الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه وشاطر النادرة حلاوتها قال: وسأمثل لك مثالاً: قيل لمزيد (وهو رجل صاحب نوادر) وقد أكل طعاماً كظه (أي ثقل على معدته) قي. فقال ما أقي؟ أقي! نقي! ولحم جدي: مرتي طالق، لو وجدت هذا قياً لأكلته. ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتها ولأستبشعها سامعها.

والمؤلفون في نقد الشعر كابن قدامة لم يغب عنهم حسن ما قاله الجاحظ وابن قتيبة: فهم على شدة تنطعهم في نقد الأقوال وتمييز زيوفها أجادوا رواية الملحون، وحكاية السخيف من النوادر: قال ابن قدامة في كتابه نقد الشعر (وللفظ السخيف موضع آخر لا يجوز فيه غيره وهو حكاية النوادر والمضاحك وألفاظ السخفاء والسفهاء فإنه متى حكاها الإنسان بغير ما قالوا خرجت عن معنى ما أريد بها وبردت عند مستمعها اهـ.

هذه هي كلمتي في السليقية بنوعيها: السليقية في القول الفصيح، والسليقية في البذلة من الكلام. والسليقية الثانية هي سليقيتنا نحن أبناء هذا العصر فقد ملكت علينا ألسنتنا كما ملكت لسان الفراء في عصر الرشيد حتى أصبحنا غير قادرين على التفلت من أوهاقها إلا بتكلف وتلكؤ شديدين. وذلك يكون منا إذا رأينا أنفسنا مضطرين إلى إفهام غيرنا ممن لا يفهم لهجتنا ولا ما يحكى بها: كما إذا حاورنا أبناء المغرب الأقصى أو حاورونا، فإن لهجاتنا المختلفة تحول بيننا وبين الاستمتاع بحديثهم فنضطر إذ ذاك إلى ترك سليقية البذلة واللجوء في التفاهم إلى السليقية الفصحى وهي لغة القرآن وما أبركها لغة.

وأكثر ما تتحقق هذه الضرورة أي ضرورة الالتجاء إلى لغة القرآن حينما نجتمع بإخواننا المسلمين الأعاجم الذين أصابوا ولو قليلاً من الثقافة القرآنية أو الثقافة العربية: فإنه لا ينفس الكرب عنا وعنهم ويجعلنا ننعم بالحديث معهم إلا لغة القرآن. ويظهر أن وسائل النشر والإذاعة والآلات والمواصلات وفرت دواعي الاجتماع والتلاقي بيننا وبينهم في البعثات والمؤتمرات.

كل ذلك يمهد الطريق أمام استعمال اللغة الفصحى بيننا فتقوى فينا ملكة التكلم بها من حيث تضعف في نفوسنا إلى حد محدود سليقية البذلة العامية.

وإنما قلت إلى حد محدود: لأنه ما دام هناك اختلاف وتباين في عقول أبناء الأمة الواحدة وقابلياتهم ومعارفهم وتفاوت في ملكاتهم وتربيتهم وثقافاتهم فلابد أن تبقى فيهم لهجة عامية عائشة بجانب اللغة الفصحى.

على أن اللغة الفصحى مع الأسف مهما انتشرت وقام لها سوق فيما بيننا سوف تبقى عاطلة من حليتها، مجردة من حركات إعرابها كما هي حالة لغة أهل (عكاء) في اليمن على ما حكاه الشيخ عبد الرحمن الكواكبي للشيخ أحمد الإسكندري. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

عبد القادر المغربي