مجلة الرسالة/العدد 1022/عدالة الأرض
مجلة الرسالة/العدد 1022/عدالة الأرض
ودم الشهيد حسن البنا
للأستاذ سيد قطب
قضية هذا الدم الزكي لا تزال بين يدي القضاء، فلا تعليق لدي عليها في موضوعها ووقائعها؛ ولكنها تثير في النفس أشجاناً، وتكشف في الوقت المناسب عن حقائق، وتوجه النظر إلى حقيقة عدالة الأرض، وترفع البصر إلى عدالة السماء، وتميز بين ما يصنعه البشر من القانون، وما يصنعه الله من الشريعة. . (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
إن ممثل الاتهام يقول:
(وبما أن الواقعة - كما أظهرها التحقيق - تتلخص في أن الأمير الاي محمود عبد المجيد بيت النية على قتل المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين (المرحوم الشيخ حسن البنا) وإن لم يصل التحقيق إلى تحديد إن كان في ذلك متفقاً عليه مع ولاة الأمور في الدولة - وقتئذ - أو أنه كان يعمل لهذا حتى يحظى بتقدير ولاة الأمور أولئك، لثقته في أنهم أهدروا دم المجني عليه، فبات تنفيذ قتله أمنية يتوقون إلها ويروجون لتحقيقها.
(وتنفيذا لما بيت الأمير الاي محمود عبد المجيد النية عليه، استقدم إليه الأشخاص الذين يعرف فيهم الاستعداد الإجرامي لتنفيذ هذه الجريمة، والذين وقع اختياره عليهم لتدبيرها وتنفيذها، وهم الصاغ حسين كامل، واليوزباشي عبده أرمانيوس، والأمباشي أحمد حسين جاد، ووكيل الباشجاويش محمد إسماعيل، والأمباشي حسين محمدين رضوان، والباشجاويش محمد محفوظ محمد، ومصطفى محمد أبو الليل ويوسف أبو غريب. . . الخ)
وينتهي ممثل الاتهام إلى المطالبة برؤوس هؤلاء الذين حددتهم عريضة الاتهام: ويقف مكتوف اليدين أمام (ولاة الأمور أولئك الذين أهدروا دم المجني عليه) لأن قانون الأرض الذي بين يديه، لا يساعده ولا يساعد العدالة على الأخذ بتلابيبهم على الأقل بتهمة (إهدار دم المجني عليه) وهم المكلفون حماية هذا الدم البريء.
والقضية بين يدي القضاء فيما يختص بالمتهمين، فلا تعليق لي على موضوع الدعوى ولا حوادثها. . ولكن لنفرض أن المحكمة قد أجابت ممثل الاتهام إلى كل طلباته، وسلمت إليه رؤوس هؤلاء المتهمين. . فماذا تساوي تلك الرؤوس بالقياس إلى رأس حسن البنا؟ وماذا تساوي تلك الدماء بالقياس إلى ذلك الدم الزكي الذي أريق؟
ألا ما أعجز عدالة الأرض حينئذ، وما أقصر يدها عن العدل في أضيق معانيه!
إن أكبر الرؤوس في ذلك العهد الآثم، رؤوس (ولاة الأمور أولئك) كما يعبر عنهم ممثل الاتهام في احتقار. . إن أكبر الرؤوس يوم ذلك مجتمعة لا تصلح أن تكون موطئا لقدم ذلك الشهيد الكريم. ولا تحقق ذلك القصاص العادل من ذلك العهد الفاجر وممثليه أجمعين. . فكيف ببضعة رؤوس صغيرة أكبرها رأس ذلك الأمير الاي الصغير؟
هنا تبدو عدالة الأرض قاصرة. ويبدو تشريع الأرض هزيلاً. ويبدو مشرعو الأرض أقزاماً. .
وهنا تبدو المسافة هائلة بين تشريع الله للبشرية وتشريع الإنسان.
ما جزاء ولي الأمر الذي يهدر دم الأبرياء الطاهر؟
ماذا تقول عدالة الأرض في ذلك الاتهام الذي يذكره ممثل الاتهام على سبيل الجزم والتأكيد؟
لعل الحصانة الكاذبة (لولاة الأمور أولئك) هي التي قيدت يد ممثل الاتهام، فلم يستطع إليهم سبيلا!
فأي زيف زيف تلك الدساتير التي تسبغ الحماية على المجرمين وترفعهم فوق العدالة وفوق القانون؟ وأي عجز في عدالة الأرض وأي قصور؟
إن عدالة الأرض هذه لتمنع محكمة النقض في مواطن كثيرة أن تحكم ببطلان الحكم الجائز إذا لم تجد سبيلاً لقبول الطعن فيه شكلاً، فإذا كانت الإجراءات الشكلية كلها صحيحة ومستوفاة وقفت محكمة النقض عاجزة عن أن تنفذ إلى الموضوع. ممنوعة من إحقاق الحق الذي تراه، مكتوفة عن رفع الظلم الذي تعتقده!
وحتى حين تجد منفذاً في الشكل فإنها تقف مكتوفة اليدين إذا لم تجد في التطبيق القانوني الموضوعي خطأ. . مهما يكن الحلم مع ذلك جائرا.
ولقد وقف المرحوم عبد العزيز فهمي هذا الموقف في قضية البداري. لا يجد سبيلاً إلى دفع الظلم وتحقيق العدل إلا صرخة يبعثها من أعماق ضميره، صرخة في وجه قانون الأرض الذي يقف جامداً مكبلاً بالإجراءات!
وتخطئ المحكمة ذاتها ثم يتبين لها الخطأ بعد أن تصدر حكمها، فلا تملك حينئذ أن ترجع إلى الصواب. .
لقد خرج الأمر من يدها بمجرد إصدار الحكم!
ها ها! ها ها لعدالة الأرض التي ترى الحق واضحاً ولكنها لا تملك الرجوع إليه، لأن الأمر خرج من يدها محافظة على الإجراءات!
أما عدالة السماء فتقول: إن الرجوع إلى الحق فضيلة. ولا تمنع القاضي الذي يصدر الحكم، ثم يتبين له خطؤه أن ينقض حكمه بنفسه، وأن يرتد إلى الحق، لأن الحق أولى بالإتباع.
وبالطبع لا تقف أمام محكمة أخرى أن ترد الحق إلى نصابه بمجرد أن يتبين الحق، غير مقيدة بهذه الشكليات التي يؤثرها قانون الأرض على العدالة، ويصون اعتبارها ولو بإهدار دماء الأبرياء.
فأين عدالة الأرض من عدالة السماء؟!
إننا حين نطلب للإسلام أن يحكم، وحين نطلب لشريعته أن تكون مصدر التشريع. . إنما نطالب بشريعة أرقى، وبإجراءات أدق، وبعدالة أكمل
والجاهلون يقولون: أتريدوننا على أن نرتد إلى الوراء أربعة عشر قرناً؟!
يا للغرور! يا للجهالة! إن قانونكم هو القاصر العاجز، وإن تشريعكم هو المتأخر الجامد. .
إن شريعتنا التي ندعوكم إليها لا تغل يد القاضي عن العودة إلى الحق، في أي وقت وفي أي دور من أدوار المحاكمة. . حتى بعد الحكم، له أن يعود إلى الحق الذي يراه.
إن شريعتنا لا تقف جامدة مشلولة أمام الظلم الواقع والعدل الضائع، لأنها تريد المحافظة على كرامة الإجراءات دون كرامة العدل والحق والقضاء.
إن شريعتنا لا تقف عاجزة أمام ملك ولا رئيس جمهورية ولا رئيس وزارة ولا وزير ولا كبير. . فحيثما كانت جريمة فشريعتنا حاضرة لردع المجرم كائنا منصبه ما كان.
إن شريعتنا لا تسمي القاتل ولا المحرض على القتل صاحب جلالة، ولا تصون ذاته المقدسة، ولا تضعه فوق القانون.
إن شريعتنا لا تدع ولاة الأمور يهدرون دم الأبرياء، ثم يروحون ناجين لا تمتد إليهم يد القانون الشلاء العزلاء.
لهذا نحن ندعو إلى تحكيم شريعة الإسلام؛ لأنها شريعة أكثر تقدما، وأوسع أفقاً، وأكثر مرونة. . ولأن قانونكم الأرضي قاصر جامد متخلف لا يلبي داعي الزمن؛ ولا يقتص لدماء الأبرياء!
تساوقت هذه الخواطر في نفسي وأنا أطالع صحيفة الاتهام. وأنا أبصر بيد العدالة الأرضية قصيرة عاجزة شلاء. وأتطلع إلى عدالة السماء فأراها شاهقة ساحقة متفوقة شماء.
وقلت: ألا يفتح الله على هذه البشرية فتخرج من مضيق الأرض إلى فسحة السماء؟ ألا يكشف الله عن بصيرة هؤلاء الناس فيبصروا النور الذي يتخبطون دونه في دياجير الظلام؟
إن أشد ما يثير الضحك المر. . رجال القانون عندنا، أولئك الذين يحسبون شرائعهم عصرية تقدمية، ويعدون شريعة الله قديمة ورجعية!
إنهم لا يكلفون أنفسهم النظر في شرائعهم وشريعة الله. ليعلموا أن عقلية التشريع التي بين أيديهم جامدة قاصرة حين تقاس إلى الشريعة السمحة الحرة الدقيقة العادلة.
إنهم جهلاء ويحسبون أنفسهم من العلماء! إنهم جامدون ويحسبون أنفسهم متحررين (وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض. قالوا: إنما نحن مصلحون! ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
غفر الله لهم وهداهم إلى الحق. والحق منهم على قيد ذراع.
سيد قطب