مجلة الرسالة/العدد 1023/حسن البنا

مجلة الرسالة/العدد 1023/حسن البنا

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 02 - 1953


بمناسبة ذكراه

كان الإمام المرشد حسن البنا طيب الله ذكره وذكراه يسلك الطريق الذي تسلكه (الرسالة) منذ عشرين سنة فكان لابد مما لا بد منه أن يلتقيا على جادته أو عند غايته.

وكان لقاؤهما الأول في مكتبي قبل أن يظهر أمر الرجل وتبلغ دعوته (الإخوان)، فوجدت فيه ما لم أجد في قبيله أو أهل جيله من إيمان بالله راسخ رسوخ الحق لا يزعزعه غرور العلم أو شرود الفكر، وفقه في الدين صاف صفاء المزن لا يكدره ظلال العقل ولا فساد النقل، وقوة في البيان مشرقة إشراق الوحي لا تحبسها عقدة اللسان ولا ظلمة الحس؛ إلى حديث يتصل بالقلوب، ومحاضرة تمتزج بالأرواح، وجاذبية تدعوك إلى أن تحب، وشخصية تحملك على أن تذعن. فقلت في نفسي بعد أن ودعني وشيعته:

عجيب! هذا الشاب نشأ كما ينشأ كل طفل في ريف مصر، وتعلم كما يتعلم كل طالب في دار العلوم، وعمل كما يعمل كل مدرس في وزارة المعارف؛ فعمن ورث هذا الإيمان، وممن اقتبس هذا البيان، ومن أين اكتسب هذا الخلق؟

أن الشذوذ عن قواعد البيئة الجاهلة، والنشوز على أنظمة المجتمع الفاسد، والسمو على أخلاق العصر الوضيع، لمن خصائص الرسول أو المصلح؛ فإن الله الذي يعلم حيث يجعل رسالته يريد أن يصنع النبي أو المصلح على عينه، ليظهره في وقته المعلوم ليجدد ما رث من حبله، ويوضح ما أشتبه من سبيله.

والفطرة التي فطر عليها حسن البنا، والحقبة التي ظهر فيها حسن البنا، تشهد بأنه المصلح الذي اصطنعه الله، لهذا الفساد الذي صنعه الناس.

ولم يكن إصلاحه رضوان الله عليه من نوع ما جاء به ابن تيمية وابن عبد الوهاب ومحمد عبده؛ فإن هؤلاء قصروا إصلاحهم على ما أفسدته البدع والأباطيل من جوهر العقيدة؛ أما هو فقد نهج في إصلاحه منهج الرسول نفسه: دعا إلى إصلاح الدين والدنيا، وتهذيب الفرد والمجتمع، وتنظيم السياسة والحكم؛ فكان أول مصلح ديني فهم الإسلام على حقيقته، وأمضى لإصلاحه على وجهه.

لم يفهم الإسلام الذي طهر الأرض وحرر الخلق وقرر الحق على إنه عبادات تؤدى، وأذكار تقام، وأوراد تتلى؛ وإنما فهمه كما فهمه محمد وعمر وخالد: نوراً للبصر والبصيرة، ودستوراً للقضاء والإدارة، وجهاداً للنفس والعدو.

وإذا كانت سنة الله أن يبعث الرسول أو يظهر المصلح مزوداً بالطب الناجع لوباء معين فشا، وفساد مبين عم، فإن الحال الأليمة التي تكابدها الأمة الإسلامية اليوم من ضعف في وطنها أطمع الاستعمار، وجهل أطفأ في قلبها العقيدة، وزيغ مال بوجهها عن السبيل، تقتضي أن تكون رسالة المصلح في هذا الزمن جارية على النهج الذي نهجه المرشد الأول للأخوان المسلمين!

ولقد كان هذا النهج الذي قبسه البنا من القرآن وعززه بالعلم، وأقامه على الإيمان وقرنه بالعمل، ونشره بالبيان وأيده بالمعاملة، كان من الجد والصدق والعزيمة بحيث زلزل أقدام المستعمر، وأقض مضاجع الطاغية، وخيب آمال المستغل؛ فتناصرت قوى الشر إلى الدعوة العظمى وهي تتجدد في مصر، كما تناصرت عليها وهي تولد في الحجاز.

وقضى الله أن يبتلى الأخوان فاغتيل الإمام وحوربت الدعوة واضطهدت الشيعة. ولكن الله عصمهم فلم ينقلب طريد على عقبه، ولم يفتن شهيد عن دينه!

ذلك لأن حسن البنا فكرة لا صورة، ومبدأ لا شخص. والفكرة الصالحة تنمو نماء النبت، والمبدأ الحق يبقى بقاء الحق. وما كان محمد صلوات الله عليه إلا باذر بذرة تعهدها من بعده صحابته، فخرج نباتها بإذن الله وزكا، ثم نما وسما، ثم أزهر وأثمر. وسيبقى ثمرها أبد الأبيد، على الرغم من سموم الريح وجدب التربة وعبث الآفة، شهي الجنا داني القطوف لمن سبقت لهم من ربهم الحسنى!

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون) فرحين بغرسهم الذي فاحت أزاهيره، مغتبطين أن يروا من وراء الحجب الشفيفة دعوتهم تنتشر، وأمتهم تنتصر، وخطتهم تؤدى!

وأن القتيل الذي تتعطر المحافل بذكراه اليوم، ليبتسم ابتسامة الرضا وهو في مقامه الأعلى مع الشهداء والصديقين، إذ يرى دمه المطلول يحيي العقيدة، وجهده المبذول يوقظ الأمة!

أحمد حسن الزيات