مجلة الرسالة/العدد 1023/محاضرات ومناظرات
مجلة الرسالة/العدد 1023/محاضرات ومناظرات
حياتنا الأدبية والفنية على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته
أحتشد بقاعة (يورت) بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة السابق آلاف من الناس لسماع هذه المحاضرة التي ألقاها الدكتور طه حسين، حتى ضاقت بهم القاعة على رحبها، وامتاز هذا الجمع الكبير بأنه كان يضم أكبر عدد يمكن أن يضمه جمع مثله من الصفوة المختارة من رجال الأدب والسياسة والتعليم، واستغرق الدكتور طه حسين في إلقائها ساعة كاملة وانتهى منها والناس تكاد أكفهم تدمى من التصفيق الملتهب، ويمكننا أن نلخص للقراء هذه المحاضرة فيما يأتي: -
أيها السادة:
أعترف لكم أنني تعرضت لكثير من الحيرة قبل أن أقدم على إلقاء هذه المحاضرة؛ فموضوعها غامض من جهة وشائك من جهة أخرى. غامض لأن العهد الجديد - وإن كان شيئاً نحسه ونعرفه ونلمسه - فإن فلسفته لم تكتب بعد ولم تؤلف فيه الأسفار ولم تصنف له الكتب، وأنا - كغيري من الرجال الجامعيين - رجل ينبغي عليه أن يقرأ وأن يرجع إلى الكتب وأن يحيط بالموضوع قبل أن يهم بالحديث أو الكتابة.
وهو شائك لأنه قد ينتهي إلى مواطن لا يؤمن فيها الزلل؛ فأحاديث العهد الجديد - كأحاديث العهد القديم - إذا اتصلت بالسياسة فربما جرت إلى الزلل أو إلى ما هو أكثر من الزلل!
ولكنني اعتمدت على الله - الذي أعتمد عليه دائماً في كل أمر - وجئت للتحدث إليكم وأمري وأمركم إلى الله!
وأول ما ينبغي أن نلاحظه هو حال الأدب قبل العهد الجديد، كيف كان؟ ومم كان يشكو؟ وبماذا كان الأدباء يضيقون؟ والملاحظة اليسيرة تدلنا على أن أول مظهر من مظاهر الأدب قبل أن تشب نار الثورة إنما هو (الخوف) الذي كان يملك على الأدباء أمرهم ويضطرهم إلى كثير من الجهد والحيلة والمناورة والمداورة ليقولوا - ما يريدون أن يقولوه - دون أن يتعرضوا لبطش السلطان وتضييق الرقابة، سواء أكانت هذه الرقابة سافرة عند قيام الأحكام العرفية أو مستخفية كتلك التي كانت تفرضها (النيابة) حين تكون الأحكام العرفية نائمة!
ولا أدري هل كنتم تحسون ذلك الخوف أم لا؟ وإن كان أغلب الظن أنكم كنتم تحسونه وتلحظونه من بين ثنايا ما تقرءون، أما أنا فإني أتحدث إليكم عن علم ويقين؛ ذلك أني كنت أحد الأدباء الذين امتحنوا في العهد القديم، فقد تحدثت خلاله وكتبت أكثر مما تحدثت وكتبت خلال العهد الجديد، وأؤكد لكم أنني لم أكن أفرغ يوماً أو ليلة لكتاب أو حديث دون أن أتشعر غضب السلطان علي وبطشه بي إذا كان الغد! والأدباء - والحمد لله - بارعون مكرة مهرة في اصطناع الحيلة للتخلص من بطش السلطان، بل للعبث بعقل السلطان! فهم يلتمسون من طرق الرمز ومن التواء التعبير ومن فنون المناورات والمداورات فيما يكتبون وفيما يقولون ما يورط المراقبين في ألوان من الارتباك لا حد لها!. ولقد كنت في أوربا يوما مع الكاتب الكبير (أندريه جيد) فجاءتنا صحيفة تعلن أن إسماعيل صدقي - في محاربته للشيوعية - قد استطرد فسن قوانين لعقاب الذين يدعون للعدل الاجتماعي ويطلبون الحرية للناس، فضقنا بذلك أشد الضيق، وكتمت في نفسي غيظاً بالغاً، وأضمرت عزماً على مقاومة هذه القوانين، فلما عدت إلى مصر - والرقابة في أوج طغيانها - لم أجد أيسر أو أبسط في مقاومة تلك القوانين من أن الجأ إلى آيات من القرآن الكريم تدعو إلى العدل بين الناس، وتنادي بحقهم الطبيعي في الحرية والكرامة، فأجعلها موضوعاً لكلماتي، فإن استطاع إسماعيل صدقي عن يصادر القرآن الكريم فقد ورط نفسه ووقع في حرج شديد، وإن لم يسطع قرء المقال وسمعت الدعوة إلى العدل الاجتماعي والحرية!
ولم أكن منفرداً بهذا المكر والاحتيال بل كان الأدباء جميعهم كذلك، وكان بينهم وبين (النيابة) حرب متصلة، وكانوا يقهرون (النيابة) في أكثر الأحيان بما يحذقون من مكر واحتيال!
وهذا أمر - وإن نجا الأدباء من عقابيله - فقد كان يفسد على الأدباء تفكيرهم ويجعلهم منغصين دائماً، فليس من الطبيعي ألا تفكر وألا تكتب إلا وأنت تعلم أن ورائك رقيباً يحاسبك ويؤاخذك ويستطيع أن يجرك إلى ما لا تحمد عقباه!
تلك كانت الظاهرة الأولى من ظواهر الأدب قبل العهد الجديد، وأما الظاهرة الأخرى فهي ظاهرة (الرغبة). وأنتم تعلمون أن في الناس ضعافاً لا يقدرون على المقاومة، وإن قدروا يوماً فلن يستطيعوا المضي في المقاومة والثبات على متاعبها ومصاعبها، وأن فيهم الكثيرين ممن يستهويهم الإغراء وتستذلهم المنفعة. وحياة الأدباء - كما تعلمون - معرضة لكثير من الضيق والعنت والإقلال، فما أيسر أن يضعف البعض منهم أمام مظاهر الإغراء وملحاته فيضعوا أدبهم موضع التجارة والمساومة، والأدب الذي ينتهي إلى تلك الخسة والمهانة شر ليس وراءه شر، وفساد للذوق وللخلق وللنفس، وليته فساد يقف عند حد منشئه ولكنه يتجاوزه إلى قرائه وقد يكونون آلافاً من الناس القليل منهم من يفطن للفساد أو لا يضعف أمامه.
ولقد حدثني الأستاذ مصطفى عبد الرزاق رحمه الله أن كاتباً من الكتاب كان له راتب معلوم كل شهر من المصروفات السرية، فإذا جرى عليه هذا الراتب في ميقاته المضروب سكت عن كل معارضة، وصمت عن كل قول يغضب له الإنجليز أو الوزراء الذين يصانعون الإنجليز. أما إذا تأخر هذا الراتب عن ميعاده المضروب عارض وثار وكتب - وكان سعد في المنفى - يطالب بعودة (سعد) من منفاه، فتنتبه إليه السلطة وترسل إليه راتبه فينسى سعداً إلى أن يدور الشهر فيعود فيذكر سعداً.
وهكذا دواليك!. . . هاتان هما الظاهرتان الملحوظتان - في وضوح كثير - على أدبنا قبل العهد الجديد، وإذا كنت قد فهمت أحاديث قائد الثورة وخطبه وبياناته - وما أشك في أني فهمتها لأنه لا يحسن المداورة ولا يعرف المصانعة ولا يخشى رقيباً! - فأظن أن أول مظهر لفلسفته إنما هو تحرير المصريين جميعاً من الطغيان وهو إذا حرر المصريين من الطغيان فقد حرر أدب المصريين من الخوف ومن الرغبة ومن كل أعقاب الطغيان، وقد بدأ في ذلك موفقاً من غير شك.
فالذين يظنون أن الثورة لم تهد - بعد - إلى الأدب شيئاً مخطئون، فقد أهدت الثورة إلى الأدب أن أتاحت له أن يظهر جلياً صريحاً سافراً لا يلتوي ولا يداور ولا يحتال ولا يخشى عنتاً أو بطشا.
لقد كان أدبنا تصويراً للبؤس والحرمان والشقاء والظلم الذي كانت الأمة ترسف في أغلاله، كان مرآة للظلام الحالك الذي كانت تحيا فيه الأمة، والمرآة في الظلام لا تكاد تعكس شيئاً فكنا نفر من هذا الظلام إلى غير مصر، كنا نبعد في الزمان ونبعد في المكان فنتكلم في التاريخ القديم وفي الأمم القديمة والمعاصرة لنسلي أنفسنا وقراءنا عما نحن فيه من البأساء والضراء.
ولكننا اليوم وبعد اليوم سنقبل على حياتنا راغبين في تصويرها مطمئنين إليها واجدين فيها ألواناً من الأدب وفنونا من القول لم نعرفها من قبل. . ولكن هذا ليس كل ما ننتظره من الثورة، فالأدب والفن أزهار لا يمكن أن توجد أو تزدهر في بلد كثرته جاهلة وقلته متعلمة تعليماً ليس خيراً من الجهل إلا قليلاً! وما هو الأدب في حقيقة الأمر؟ وما هو الفن؟ الأدب والفن هما تفكير وتعبير وكتابة أو قول، ثم آذن تسمع أو عيون تقرأن وقلوب تعي، وشعور يحس ويتأثر، وأذواق تذوق فتشعر بالمتعة والجمال. . . هذا هو الأدب وهذا هو الفن، فإذا وجدت القلة التي تفكر وتعبر وتكتب وتتحدث وتذيع ثم لم توجد الكثرة التي تسمع لها أو تتذوق منها، فإن تلك القلة تكون أشبه شيء بالزهرات التي تظهر فجأة في الصحراء أعقاب الغيث ثم لا تلبث أن تمسها الشمس وتلح عليها فيصيبها الذبول والضمور والزوال. . . فلا تريحوا أنفسكم ولا تريحوا حكامكم ولا تريحوا ثورتكم حتى يصبح التعليم ماء وهواء وحتى يصل إلى الناس في قراهم ومدنهم دون أن يجدوا مشقة أو يلقوا عناء. ولا تصدقوا أن انتشار التعليم - بجميع مراحله - شراً إلا على الذين يؤثرون أنفسهم بالخير دون الناس، أولئك الذين يريدون أن يسودوا ليتخذوا الناس عبيداً!
الإصلاح أقوى دعاية
في قاعة المحاضرات بدار جمعية الشبان المسلمين اجتمع - يوم السبت الأسبق - عدد كبير من صفوة رجال العلم والفكر لسماع هذه المحاضرة التي ألقاها الأستاذ محمد فؤاد جلال وزير الإرشاد القومي، والتي اقتطع الأستاذ لإلقائها ساعة ونصف من اجتماع مجلس الوزراء الذي كان منعقداً في نفس الوقت. وكانت نبرات الأستاذ المحاضر ونغماته - ونغمة الصوت كما يقولون نصف اللغة - تدل على ما في نفس الرجل من رغبة مكينة في الإصلاح الشامل السريع، وعقب عليه - كشأنه دائماً - الدكتور منصور فهمي فكان تعقيباً فيضاً من الثناء أسبغه على المحاضر، والمحاضر ينطوي على نفسه حياء وخجلاً! ونلخص المحاضرة بما يأتي: -
عندما نتكلم عن (الإصلاح) فإنما نتكلم عن شيء فكر فيه الجميع وعالجه الجميع واتفق عليه الناس جميعاً. فكلنا يعتقد بضرورة (الإصلاح)، الفلاح والعامل والموظف والسياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرهم، ولكل من هؤلاء أسلوبه الخاص وهدفه الذي يسعى إليه.
وتلك الأساليب والأهداف هي - دون سواها - ما يختلف الناس عليه حين يتكلمون في الإصلاح.
والإصلاح هو أن ترى في يومك خيراً مما رأيت في أمسك، وأن تجد في غدك أحسن مما وجدت في يومك، أي أن تتجه إلى الأمام دائماً دون وقوف أو رجوع إلى الوراء.
ولكن: كيف نقوم بهذا الإصلاح؟ وكيف نحققه في حياتنا الواقعية؟ إن الإصلاح يجب - ابتداء - أن تكون له في أذهاننا صورة واضحة كاملة حتى يمكن أن نتجه إلى شيء له كيان قائم ومعالم معروفة، وتلك أولى الخطوات في كل إصلاح بل في كل عمل، فإن الأفكار إذا لم تتضح جلياً قبل تنفيذها بحيث تعرف لنا دقائقها وتفصيلاتها فهيهات أن نستطيع تحقيقها. والإصلاح ينصب على حياة الناس من كافة جوانبها وزواياها، ولن ينهض إنسان إذا قام منه جانب ومال جانب، فإن الجانب المائل يشد إليه الجانب الذي سمق وارتفع فإذا بهما منحدران معاً إلى منحدرهما القديم؟
والإصلاح لا يقف عند حد، فما دامت الحياة فهناك إصلاح منشود، والإنسان طموح دائماً ولن يقف طموحه إلا بوقوف نبضات قلبه! والمصلحون هم نحن أنفسنا دون سوانا، ولن يصل أحد إلى دخائل نفس الإنسان سوى نفسه، والفرد هو الوحدة المتكررة التي يتكون منها المجتمع، فيجب أن يتجه الإصلاح أول ما يتجه إلى عقله وذهنه وسلوكه وبهذا نخلق الوعي بين المواطنين فيصبح طريق الإصلاح ممهداً ويقل ما ننفق في الإصلاح من جهد وننتفع بما ننفق أكبر انتفاع.
علي متولي صلاح