مجلة الرسالة/العدد 1024/صور من الحجاز

مجلة الرسالة/العدد 1024/صور من الحجاز

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 02 - 1953



الموقف الأكبر. . .

للأستاذ محمد كامل حته

أدى الكاتب فريضة الحج هذا العام، وقد نشرنا له في عدد مضى من الرسالة فصلاً عن (الدعوة الوهابية وأهدافها الدينية والسياسية) وفيما يلي يحدثنا عن الموقف الأكبر في عرفات. . .

قال صديقي:

- هنيئاً لك حجك في هذا اليوم؛ إنه يعدل سبعين حجة!

قلت: وما ذاك؟

قال: لقد كانت حجة الوداع في يوم الجمعة، وهو يومنا هذا؛ ولهذا قيل إن الحج إذا وقع في يوم جمعة، تضاعف أجره سبعين مرة. . .

قلت: إن الذي يضاعف أجر الحج ليس وقوعه في هذا اليوم أو ذاك، وإنما في وقوعه من القلوب بمنزلة الإيمان الواعي البصير، الذي تنعكس أنواره فتسري في المشاعر كالكهرباء، ثم تترجمها المشاعر إلى أعمال مبرورة، وكلم طيب يرتفع بصاحبه إلى السماء!

ولاحت لنا عرفات، ذلك السهل المنبسط الفسيح؛ وقد أقيمت فيه الخيام على مد البصر، وفي أقصاه جبل (إلال) أو جبل الرحمة كما يقولون، وقد بدا كأنه جبل من البشر لا من الصخور. . .

إن آلاف الحجاج يغطون جوانبه حتى القمة، وإنك لتشهدهم هكذا حتى في وقت الظهيرة تحت وهج الشمس المحرقة، وفي أتون الحر اللافح الشديد!

وا رحمتاه لأولئك المسرفين في العبادة، تنطلق بهم أشواقهم إلى بعيد، حتى لتكاد تبلغ بهم المهالك، وهم هائمون ذاهلون. . .

وليس ذلك من الإسلام في شيء أيها الأخوة المسرفون.

أيها المسرفون على أنفسهم، وعلى دينهم السمح اليسير؛ هذا الدين الذي لن يشاده أحد إلا غلبه، مهما أوتي من قوة وطاقة، ومهما أسرف على نفسه من جهد وعناء.

خذوا ذلك عن سيد العابدين، وأوغلوا في الدين برفق كما يقول.

ثم ما هذا الوقوف على جبل (إلال) وما مكانه من مناسك الحج كما شرعها محمد بأفعاله وأقواله؟

إن الحج عرفة، ذلك السهل المنبسط الفسيح. وكل مكان فيه موقف لأداء هذه الفريضة، وقد وقف الرسول عند جبل (إلال) ولم يصعد جانبه أو يتسم قمته كما يفعل هؤلاء الغلاة المسرفون؛ وأقر مئة ألف من أصحابه على الوقوف حيث هم من ذلك السهل المنبسط الفسيح، يتوجهون إلى الكعبة بالتهليل والتسبيح والدعاء.

وا رحمتاه لأولئك المسرفين على أنفسهم وعلى دينهم!

إن منهم من يقدم إلى الحج في أخريات أيامه، محطماً هزيلاً متهالكاً من شيخوخة وإعياء؛ وليست لديه إلا أمنية واحدة، هي أن يموت في هذه الأرض الطاهرة البيضاء. . .

وهو في سبيل تحقيق هذه الأمنية التي تملك عليه كل مشاعره؛ يحاول جاهداً أن يستعجل هذه النهاية، ويختصر في الوصول إليها أسباب الحياة!

إنه يجد في أشعة الشمس المحرقة خيوطاً ترقى عليها روحه إلى السماء، فهو يتعرض لها ويتشبث بأسبابها ليبلغ من أمنيته ما يريد. . .

وهو يقسو على شيخوخته وضعفه، بل إنه ليمد هذه الشيخوخة وذلك الضعف بما يدفعهما به دفعاً إلى مصيره الرهيب الحبيب!

إنه الانتحار. . . الانتحار على أخبث صورة وأبعدها فتنة وضلالة؛ لأنه انتحار بلبس ثوب الشهادة في سبيل الله؛ والله ورسوله من ذلك براء.

وجدير بي وأنا أتحدث عن أولئك المسرفين على أنفسهم وعلى دينهم، من أمثال أولئك الشيوخ الفانين، وغيرهم ممن لا تتوافر فيهم شرائط (الاستطاعة) كهذا الذي يقدم على الحج وهو ضعيف معتل، لا يقوى على متاعب الحج ومشاقه؛ أو ذاك الذي يبيع كل ما يملك من حطام الدنيا ليظفر بأداء هذه الفريضة، لا يعنيه بعد ذلك أن يعود إلى بلده معدماً يستجدي الناس ما يعول به نفسه وأهله.

جدير بي في هذا المقام أن أضرب مثلاً بما فرضته دولة إسلامية ناهضة هي إندونيسيا؛ إذ اشترطت على من يريد أداء فريضة الحج شروطاً منها: ألا تزيد سنه على خمسين عاماً، وأن يجتاز فحصاً طبياً تثبت به سلامته من العلل والأمراض، وتدخل في ذلك المرأة أيام حملها؛ وأن يكون لديه من المال - عدا نفقات السفر والإقامة - ما لا يقل عن سبعين جنيهاً. وإذا ثبت أنه باع عقاراً لا يملك سواه لينفق منه على رحلة الحج، منع من السفر ورد إليه عقاره.

ولم يكن من نتائج هذه السياسة أن انصرف الإندونيسيون عن الحج؛ فإنهم ليفدون على البيت الحرام أفواجاً مؤلفة؛ وإنما كان من نتائجها أنها جنبت العجزة منهم كثيراً من المهالك والمآثم، وبعثت إلى موسم الحج بالنماذج القادرة الصالحة لأداء هذه الفريضة.

. . . واجتمع في عرفات ثلاثمائة ألف أو يزيدون. وفي هذا الموقف تتجلى روعة الحج وحكمته؛ هذا المؤتمر الإسلامي العظيم الذي يهرع إليه المسلمون من جميع أقطار الأرض ليشهدوا منافع لهم.

ولكن أي منافع تلك التي شهدناها في هذا الموقف الجامع، وأي ثمرات جنيناها من ذلك المؤتمر الخطير الذي لا تتهيأ أسبابه المادية والروحية إلا يوم عرفه؟

. . . وأخذتني سنة من النوم وأنا جالس في المخيم الذي أعده فندق مصر لنزلائه، أتفيأ الظل وأقرأ في كتاب. وإذا بي أشهد جبل (إلال) قد أقيمت عليه مظلة كبيرة تخفق فوقها عشرات الأعلام، وقد جلس تحتها نفر من الناس في لباس الإحرام، على منصة ذات أسوار. وإذا رجل منهم يقف أمام جهاز للإذاعة فيهتف:

- الله أكبر، ولله الحمد.

ثم ينطلق في حديث تردده أجهزة للإذاعة أقيمت بين الخيام. . .

إنه يتحدث عن هذا الموقف العظيم، ويرجو أن يكون شهوده جديرين بأن يباهي الله بهم ملائكته في السماء!

ثم هو يتلو على الناس ما اتخذه مؤتمر الحجيج في الموسم السابق من قرارات، وما قامت به الدول الإسلامية لتنفيذ هذه القرارات من جهود. وهو يستعرض بعد ذلك قضايا العالم الإسلامي، وعلاقاته بغيره من الدول، في إحاطة وإيجاز. ويتنحى عن مكانه بعد أن يقدم للحديث أولئك النفر الذين يجلسون حوله واحداً بعد الآخر. . .

فهذا آية الله الكاشاني يتحدث عن تأميم الزيت في الحقول الإسلامية؛ وعن مشروع الكتلة الثالثة، التي تحفظ على العالم الإسلامي والعربي كيانه، ويعتدل بها ميزان الأمن والسلام الذي تتأرجح كفتاه بين الشرق والغرب.

وهذا محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء في الجزائر، يرسم الخطوط العملية لتحرير المغرب العربي من نير الاستعمار.

وهذا سردار عبد الرب نشتر وزير الزراعة في باكستان يتحدث عن تجارب بلاده في سياسة الاكتفاء الذاتي، ويعرض مشروعاً للتعاون الاقتصادي بين البلاد الإسلامية.

وهذا بشير السعداوي زعيم طرابلس، يكشف عن المؤامرات الاستعمارية التي أحالت استقلال ليبيا بعد جهادها الدامي أربعين عاماً، إلى أسطورة سياسية. . .

وهذا الدكتور محمد حتا نائب رئيس الجمهورية الإندونيسية، يروي قصص البطولة النادرة، التي صرعت الاستعمار الهولندي وإسناده فيما وراء البحار. . .

وهذا عبد الله الفاضل المهدي، يعدد جرائم الاستعمار البريطاني في السودان، وخاصة فيما وراء الستار الحديدي في الجنوب.

وهذا الأمير سيف الإسلام عبد الله، يتحدث عن الكنوز المعدنية المخبوءة في حقول اليمن وجبالها، ويدعو أهل الفن وأرباب المال في البلاد العربية والإسلامية، لكشف هذه الكنوز واستغلالها؛ وبذلك تزداد موارد الثروة الاقتصادية في العالم الإسلامي، وتتخلص اليمن مما هي فيه من فقر وجهل ومرض وتخلف عن ركب الحياة.

وهذا أمين الحسيني يؤبن الفردوس المفقود، ويردد أنات شعب فقد الوطن، وفقد معه حقه في الحياة، وأنكر الأولياء من أبناء عرقه وملته؛ قبل أن ينكره الأباعد والأعداء.

وهذا حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة، يتحدث عما ابتدعه المسلمون في دينهم من طقوس، وما أحدثوا من ضلالات؛ الأمر الذي أوشك أن يعود بالإسلام غريباً كما بدأ، وأوشك أن يجعل المؤمنين به، القائمين على شريعته غرباء في هذه الحياة!

وهذا نجيب الراوي سفير العراق في مصر، يعرض مشروعاً أعدته بلاده لتعمير ملايين الأفدنة الغامرة على ضفاف دجلة والفرات، ويرى أن نجاح هذا المشروع في العراق؛ وقيام مثله في مصر؛ كفيل بأن يمحو عنهما وصمة استيراد (الحبوب) من البلاد الأجنبية، ويفتح مجالاً واسعاً لترقية مستوى المعيشة، بازدياد الإنتاج الزراعي، وإنعاش الحياة الاقتصادية في البلاد.

وهذا حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية، يتحدث عن التقريب بين المذاهب، وعن الاجتهاد في الشريعة، حتى توائم تطور العصر وتواجه مشكلات المجتمع. وحتى يصبح التشريع الإسلامي مادة حية في المجتمع الإسلامي، وليس أثراً جامداً في الكتب الصفراء. . .

وهذا الأمير فيصل يتحدث عن مشروع خمس السنوات الذي وضعته الحكومة السعودية للنهوض بمرافق الدولة ومستوى الشعب، ورصدت له مائة مليون من الجنيهات.

ثم عاد التحدث الأول إلى (الميكرفون) يقول:

- والآن، أيها الأخوة، نختتم هذه الجلسة الأولى للمؤتمر. وموعدنا معكم أيام التشريق في (منى) حيث تجتمع اللجان الفنية لدراسة ما لديها من مشروعات، وما تقدمونه إليها من مقترحات، ثم تعرض تقاريرها على المجلس الأعلى للهيئات النيابية، فيحولها إلى مواثيق تأخذ طريقها إلى التنفيذ.

- الله أكبر، ولله الحمد!

وأفقت من غفوتي على ضجة في المخيم، وتلفت فإذا الخدم يحملون أكواب الشراب المثلج، والناس يتصايحون ليطفئوا ظمأهم الشديد.

ثم هدأت الضجة، ولم يزل أثر هذا الحلم الجميل يداعب أجفاني، ويراودني على الإغفاء من جديد!

وساءلت نفسي: أين نحن في موقفنا هذا من تلك الصورة التي طافت بي في المنام؟ وأين هي تلك المنافع التي جئنا لنشهدها في هذا الموقف الجامع العظيم؟

إن جبل (إلال) ما يزال ماثلاً أمامي تغطي جوانبه وقمته آلاف الحجاج، تصهرهم أشعة الشمس المحرقة، ويرمضهم حرها الشديد؛ ولا تطوف بخواطرهم إلا معان غامضة ساذجة، ليس بينها وبين تلك المعاني المشرقة الرشيدة التي طافت بخواطر أولئك النفر الذين تخيلتهم في منامي، إلا ما بين الحقائق والأحلام.

وإن هؤلاء النفر الذين يمثلون الصفوة المفكرة المجاهدة من رجالات الأمة الإسلامية، والذين تخيلتهم في موقفهم ذاك على جبل (إلال) يتحدثون ويلهمون؛ فتهتز لحديثهم جنبات الوادي، وتتجاوب مع كلماتهم قلوب الملايين من مسلمي الأرض، وتنخلع أفئدة زبانية الاستعمار وقراصنة الشعوب. . . ها هم أولاء بذواتهم يؤدون فريضة الحج، ويقفون في عرفه. ولكن وقوفهم هذا أبعد ما يكون عن وقوفهم ذاك؛ بعد الأرض عن السماء.

إنهم هنا لا يؤدون تلك الأمانة العظمى، فيتحدثون إلى مئات الألوف، ومن ورائهم مئات الملايين؛ ومن ورائهم دول العالم ترهف السمع والقلب - حديث التوجيه والإلهام والبعث والبناء؛ ولكنهم يقفون كغيرهم من عامة الناس، ممن لا يحملون أمانة، ولا يضطلعون بمسؤولية. وإذا تحدث أحدهم لا يتجاوز حديثه بضعة أفراد، ولا يتخطى أبواب الخيمة وآذان سامعيه!

أين هي إذن تلك المنافع التي جئنا لنشهدها في هذا الموقف الجامع العظيم؟

إن منفعة واحدة هي التي أزعم أنني أفدتها. ويزعم الكثيرون.

هي الشعور بهذا النقص الخطير في تمثل حكمة الحج وتلك المسؤولية الكبرى في إهدار هذه الفرصة التي لا تتاح للمسلمين إلا مرة كل عام.

محمد كامل حتة