مجلة الرسالة/العدد 103/، شمس الدين السخاوي

مجلة الرسالة/العدد 103/، شمس الدين السخاوي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935


1 - شمس الدين السخاوي

حياته وتراثه

للأستاذ محمد عبد الله عنان

أتيحت لي في الأعوام الأخيرة فرصة لدراسة شخصية بارزة تتبوأ مكانة رفيعة في آداب مصر الإسلامية، وفي الآداب العربية بوجه عام، وتمثل وحدها مدرسة فكرية زاهرة، وتمتد عبقريتها الشاملة إلى عدة نواح وفنون مختلفة، وما زال تراثها إلى اليوم يكون مجموعة قوية حافلة في تراث الأدب العربي والتفكير الإسلامي

أريد بتلك الشخصية، شمس الدين السخاوي الذي تملأ شخصيته الحركة الأدبية المصرية زهاء نصف قرن

كان السخاوي إحدى هذه العبقريات الأدبية التي تفتحت بمصر في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) واختتمت بها مصر الإسلامية حياة أدبية باهرة سطعت مدى قرنين؛ وكان ظهوره في النصف الأخير من هذا القرن، حينما أخذت عوامل الانحلال تفت في هذا الصرح الباذخ الذي شادته دول السلاطين بمصر، وأخذت الحركة الأدبية التي كانت في النصف الأول من القرن التاسع في أوج عنفها وازدهارها، تميل إلى الضعف والسقم، وتستبدل ألوانها القوية الساطعة بألوان سطحية باهتة؛ فكان ظهور السخاوي وتلميذه ومنافسه السيوطي في أواخر هذا القرن نفثة أخيرة من نفثات هذه الحركة القوية التي لم تلبث أن خبت بعد ذلك وانهارت أمام الفتح العثماني

- 1 -

ومن حسن الطالع إننا نستطيع أن ندرس شخصية السخاوي على ضوء حسن؛ فلدينا أولاً معظم آثاره نقرأ فيها خواص تفكيره وأدبه؛ ولدينا ترجمته لنفسه وعدة أخرى من التراجم المعاصرة، نتتبع فيها حوادث حياته وظروف تكوينه

ولد السخاوي، كما يحدثنا في ترجمته لنفسه، بمدينة القاهرة، بحارة بهاء الدين، في ربيع الأول سنة831 هـ (1428م) في أسرة أصلها من بلدة سخا من أعمال الغربية، واستقرت في القاهرة قبل ذلك بجيلين. وهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عث شمس الدين أبو الخير السخاوي؛ ولما بلغ الرابعة من عمره تحولت أسرته إلى منزل جديد في نفس الحي اشتراه أبوه؛ وكان موقعه بجوار دار علامة العصر الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ وكان لهذا الجوار أكبر أثر في حياة السخاوي، كما سنرى. وأنفق السخاوي بضعة أعوام في المكتب وحفظ القرآن؛ ثم أخذ يطوف بأشياخ العصر يتلقى عنهم مختلف العلوم والفنون؛ ودرس النحو والعروض واللغة والفقه والحساب والميقات والأصول والبيان والتفسير والمنطق؛ وهنا يعدد لنا السخاوي ثبت أساتذته وما أخذه عن كل منهم، وما درسه من مختلف الكتب؛ وتجلت مواهبه ومقدرته بسرعة مدهشة؛ وأجاز له الكثيرون من شيوخه، بل أجازوا له الإفتاء ولما يبلغ العشرين بعد

وقد كان ابن حجر في مقدمة أساتذته؛ وكان ذلك الجوار الذي رتبته ظروف الحياة مبعث هذه الصلة الوثيقة التي استمرت مدى الحياة بين الأستاذ وتلميذه، والتي بثت غير بعيد إلى نفس الفتى نوعاً من العبادة الروحية لهذا الذي كان يعتبر يومئذ إمام الأئمة وقطب العلماء والباحثين. والواقع إن ابن حجر كان يتبوأ يومئذ مركز الزاعمة العلمية في مصر الإسلامية، وكان في ذروة نضجه ومجده، وقد انتهت إليه الرياسة في معظم علوم العصر، ولا سيما الحديث والشريعة. وكان بدء اتصال السخاوي بأستاذه في سنة 838هـ، أعني وهو طفل لم يجاوز الثامنة؛ وكان يذهب مع أبيه ليلاً إلى مجالس الشيخ فيستمع إلى دروسه في الحديث. ويصف لنا السخاوي علاقته بأستاذه في عبارات مؤثرة تنم عما كان لهذه العلاقة من عظيم الأثر في تكوينه فيقول متحدثاً عن نفسه: (وقبل ذلك كله سمع مع والده ليلاً الكثير من الحديث على شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته، فلازم مجلسه، وعادت عليه بركته في هذا الشأن. وأقبل عليه بكليته إقبالاً يزيد على الوصف بحيث تقلل ما عداه. . . وداوم الملازمة لشيخه حتى حمل عنه علماً جماً، واختص به كثيراً بحيث كان من أكثر الآخذين عنه؛ وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر. . . وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. وعلم شدّة حرصه على ذلك فكان يرسل خلفه أحياناً بعض خدمه لمنزله؛ يأمره للمجيء للقراءة)

وهنا يفيض السخاوي في ذكر الكتب والمتون التي قرأها ودرسها على شيخه ابن حجر، سواء من تصنيفه أو تصنيف غيره، ومعظمها في الحديث، ودرس عليه أيضاً التاريخ والتراجم؛ ودرس في الوقت نفسه على كثير من شيوخ العصر؛ ويعدد لنا السخاوي كثيراً من شيوخه ويقول لنا انهم بلغوا أكثر من أربعمائة؛ بيد أن ابن حجر كان دائماً إمامه وشيخه المفضل، وقد أذن له غير بعيد في الإقراء والإفادة والتصنيف؛ ويقول لنا السخاوي إنه لم ينفك عن ملازمة أستاذه، ولا عدل له بملازمة غيره من علماء الفنون خوفاً على نقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية بل ولا حج إلا بعد وفاته؛ لكنه حمل عن شيوخ مصر الواردين إليها كثيراً، وفي الأوقات التي لا تعارض وأوقاته سيما حين اشتغاله بالقضاء وتوابعه). وقد لبثت هذه العلاقة الوثيقة بين التلميذ وشيخه حتى توفى ابن حجر في أواخر سنة 852هـ

وهنا تبدأ المرحلة الثانية في حياة السخاوي؛ وهي مرحلة درس وتحصيل أيضاً ولكن خارج مصر. وكان السخاوي يومئذ في الثانية والعشرين من عمره؛ ولكنه كان رغم حداثته قد برز في كثير من العلوم التي تلقاها؛ وكان قد استأثر في هذه الأعوام الطويلة التي قضاها إلى جانب ابن حجر بكثير من علمه ومعارفه، وتأثر أعظم تأثير بأساليبه ومناهجه؛ بل نستطيع أن نقول أن السخاوي كان بعد ابن حجر، مستودع علمه وتراثه، وكان أشد تلاميذه تمثيلاً لمدرسته؛ بل كان بعد شيخه زعيم هذه المدرسة وأستاذها القوي يرفع لواءها ويحمل مناهجها حتى خاتمة القرن التاسع؛ وقد أشار ابن حجر نفسه في أواخر أيامه إلى تلك الحقيقة، وكثيرا ما وصف السخاوي بأنه (أمثل جماعته) أو (ممثل جماعته)

وسافر السخاوي عقب وفاة أستاذه إلى دمياط ودرس على شيوخها حيناً؛ ثم سافر مع والدته بحراً إلى مكة ليؤدّي فريضة الحج؛ وانتهز هذه الفرصة فدرس على شيوخ مكة والمدينة، وطاف بالبقاع والمشاهد المقدسة كلها؛ ثم عاد إلى مصر، وسافر إلى الإسكندرية وقرأ بها مدى حين؛ وزار معظم عواصم الوجه البحري وقرأ على شيوخها الأعلام جميعاً، وحصل كثيراً من الفوائد والمعارف. ثم رأى أن يقوم برحلة إلى الشام ليزور معاهدها، ويتعرف بشيوخها؛ فسافر إلى فلسطين وطاف بيت المقدس والخليل ونابلس؛ ثم قصد إلى الشام، وزار دمشق وحمص وحماه، ثم استقر حيناً في حلب؛ كل ذلك وهو يدرس ويقرأ على أعلام هذه العواصم؛ ويقول لنا إنه (اجتمع له في هذه الرحلة من الروايات بالسماع والقراءة ما يفوق الوصف)؛ ويبدو من تعداده للكتب التي درسها وقرأها في هذا الطواف، إنه كان يعنى بدراسة الحديث والقراءة والنحو والفقه وعلوم البلاغة والتصوّف. ولم يعين السخاوي لنا تواريخ تنقلاته في هذه الرحلة، ولكن الظاهر إنها استغرقت بضعة أعوام.

ولما عاد السخاوي إلى مصر، عكف على التدريس، ولا سيما تدريس الحديث، أحياناً بمنزله، وأحياناً بخانقاه (معهد) الصوفية المعروف بسعيد السعداء؛ وكذا انتدب في أوقات مختلفة للتدريس في أعظم مدارس القاهرة كدار الحديث الكاملية والصرغتمشية، والظاهرية، والبرقوقية، والفاضلية وغيرها، وذاع صيته وأقبل عليه الطلاب من كل صوب. وفي سنة 870 هـ - سافر مع أسرته - وكان قد تزوج يومئذ ورزق بعض الأولاد كما يفهم ذلك من إشارته إلى مولد ولده أحمد - ومع والده وأكبر أخويه إلى الحج للمرة الثانية؛ وصحبه أيضاً في تلك الرحلة صديقه وأستاذه والنجم بن فهد الهاشمي - وكان من أعلام العصر. ودرس بمكة مدى حين، وقرأ بالمسجد الحرام بعض تصانيفه وتصانيف غيره. ولما عاد إلى القاهرة استأنف دروسه وإملاءاته؛ وتبوأ مركز الزعامة يومئذ في علم الحديث، وشغل فيه نفس المركز الذي كان يشغله فيه أستاذه ابن حجر قبل ذلك بثلاثين عاماً

ثم حج السخاوي للمرة الثالثة في سنة 885هـ، وقضى بمكة عاماً في التدريس والدرس؛ ثم حج سنة 87 وقضى ثمة حين في الدرس والإقراء؛ وحج للمرة الخامسة في سنة 92هـ وقضى ثمة عاماً آخر في الدرس والإقراء؛ ثمّ حج في سنة 94، وقرأ الكثير من دروسه وتصانيفه، وغدت مكة وطناً ثانياً له؛ وكتب بها كثيراً من مؤلفاته كما سنرى

ولما عاد إلى القاهرة في سنة ثمان وتسعين (898هـ) استقر بمنزله، وأبى الدرس والإقراء في المعاهد والحلقات العامة (ترفعاً عن مزاحمة الأدعياء) حسب قوله، وترك الإفتاء أيضاً واكتفى بالإقراء في منزله لخاصة تلاميذه؛ وكان السخاوي قد اشرف يومئذ على السبعين من عمره، ولكنه استمر منكباً على الدرس والتأليف؛ وكانت قد انتهت إليه الرياسة يومئذ في معظم علوم عصره، ولا سيما الحديث، حتى قيل أنه فاق شيخه ابن حجر في ميدانه، وانتهى إليه فن الجرح والتعذيب، حتى قيل لم يبلغ أحد مكانته فيه منذ الحافظ الذهبي؛ وكانت شهرته قد تعدت حدود مصر منذ بعيد وذاعت في أنحاء العالم الإسلامي، ولا سيما في الشام والحجاز حيث تلقى عليه مئات العلماء والطلاب؛ ولبث السخاوي رغم مكانته العلمية الرفيعة ونفوذه القوي بعيداً عن ميدان السياسة ودسائس البلاط والمناصب الرسمية؛ واقترح عليه صديقه الأمير يشبك الداوادار أن يقرأ التاريخ بمجلس السلطان الظاهر خشقدم فأبى؛ ثم عرض عليه أن يتولّى القضاء بعد ذلك، فاعتذر وأشار بتعيين خصمه ومنافسه السيوطي رغم ما كان بينهما من الخصومات الأدبية الشهيرة

وأقام السخاوي حيناً في القاهرة؛ ثم سافر إلى مكة ليحج للمرة السابعة؛ وعكف بعد أداء الفريضة على الإقراء والدرس، وتردد حيناً بين مكة والمدينة؛ ثم استقر أخيراً بالمدينة؛ واستمر في الإقراء بها حتى توفّى في 13ذي القعدة سنة 902هـ (1497م) في الحادية والسبعين من عمره.

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان المحامي