مجلة الرسالة/العدد 103/من الأدب الإيطالي

مجلة الرسالة/العدد 103/من الأدب الإيطالي

مجلة الرسالة - العدد 103
من الأدب الإيطالي
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1935



الليالي العشر

ترجمة الأديب أحمد الطاهر

4

قصة زوجة صبور

جريزلدا

(النساء لا يقمن على العهد، ولا يثبتن على الولاء) ذلك ما يقوله الرجال وما يعتقدون. ولكن هذه القصة التي سأذكر تنقض هذا الرأي وتدل على ولاء المرأة مع غلظة الرجل، وثباتها مع جفوته، وما أحسبكم إلا تشتهون سماع هذه القصة:

جالتيري كان أميراً على دوقية سالوزو، وكان من زعماء الرأي الظالم للمرأة، لا يؤمن بوفائها ولا يثق بإخلاصها. وحال هذا الرأي بينه وبين الزواج، فصد عنه، وانصرف إلى صيد الوحش واقتناص الطير، يجد في ذلك ملهاة ولذة وسلوه. ولكن رعية هذا الأمير كانت مشفقة على البلاد أن يموت أميرها وليس ورائه من يجلس على العرش، وذهب مسعاهم في حمله على الزواج أدراج الرياح، واتخذوا له كل وسيلة فلم يزد إلا صداً ونفوراً

قال الملأ من قومه: (إنا لنراك في وحدة وسأم شديد، وهذه أجمل فتياتنا نقدمها إليك راضين، وإنا لأمرك لمنتظرون) قال:

(لو كانت بي إلى الزواج رغبة لاخترت شريكتي في الحياة لنفسي، لا أكلفكم في ذلك عناء ونصبا، وهذه الفتاة التي تقدمون إليّ مهما يكن من شأنها في أصالة الحسب، وعزة النسب - أرفضها مع احترامي لقدرها، وإجلالي لشرفها؛ وإني لأحذركم عاقبة ما يقع بي من حسرة، وما أجد من غضاضة إذا حملتموني كرهاً على أن أتخذ زوجة لي لا أرضاها ولا أبغي السبيل إليها). وانصرف القوم خائبين نادمين

خرج هذا الأمير يوماً يدور حول قصره، فأبصر إحدى راعيات الغنم: فتاة بهية الطلعة، ساحرة الجمال، وكانت تحمل في جرتها ماء إلى منزل أبيها، فسألها: (ما اسمك أيتها الفتاة؟) قالت: (جريزلدا)، قال: (إنني يا فتاتي أبحث عن زوجة تشاطرني النعيم، فهل إذا اتخذتك زوجة لي تعملين على هناءتي ولا تعصين لي أمراً بالغاً ما يبلغ من الشدة دون أن يكون في صدرك حرج مما تؤمرين؟). قالت الفتاة: (نعم يا مولاي) وأرسل الأمير إلى المدينة رسولاً فأحضر للفتاة من الثياب أغلاها ومن الحلل أبهاها؛ وعقد على ناصيتها تاجاً من الزهر، وأركبها جواداً وسار بها إلى قصره، وأقام للزفاف ليلة كانت غرة في جبين الدهر، ودرة في تاج الليالي

وسكن الأمير إلى زوجه الصالحة فوجد في طبعها الهدوء والسكينة، وفي شمائلها العذوبة والطمأنينة، وألفاها رفيعة الحاشية كريمة الأخلاق حتى لقد رأى نفسه في الدنيا أكمل الناس سعادة وأتمهم توفيقاً. ولم يكن الشعب أقل سروراً بهذا الزواج. فقد تجلى حبهم وولاؤهم للأميرة وإكبارهم لأخلاقهم وصفاتها ودانوا لها بالمحبة وعقدوا لها القلوب على الولاء

ومضت الأشهر ثم وضعت الأميرة. ولكن وضعتها أنثى! وعادت إلى الأمير عقيدته العتيقة، ولعبت برأسه الهواجس وركبه الشيطان فصد عن سواء السبيل وقال في نفسه: (ما كان لهذه الفتاة أن تبغي عن سواء السبيل حولاً وهي في نعمة سابغة وهناء مقيم. فلو إنني أسأت إليها وبلوتها بشيء من الشدة والبأساء لبرزت طبيعتها الخبيثة وصدق رأيي في النساء)

واستدعاها إلى مجلسه. فلما مثلت بين يديه قال لها: (إن وضاعت أصلك وخسة منبتك كانتا سبباً لسخط الشعب واستيائه، وزاد هذا السخط إنك وضعت أنثى لا تصلح لأن أستخلفها على العرش)

قالت الأميرة: (مولاي! إني أعلم خسة منبتي وإنني أقل من أحط أوزاع الناس شأناً. وما هذه المنزلة التي رفعتني إليها إلا فضل لا أستحقه ونعمة لم أكن أتسامى إلى التطلع إليها. فاتخذ معي فيما بيني وبينك من شأن ما يزكو بشرفك ويرضى نفسك غير آبه لإحساسي وشعوري، فما أنا من المنزلة بحيث أشغل بال مولاي أو أستحق رعايته) وانصرفت الأميرة المبتئسة وفيما هي مطرقة كاسفة البال إذ دخل عليها أحد وصفاء الأمير قال: (مولاتي: إنني بين أمرين أحدهما مر: إما الموت ينزل بي لا راد له ولا دافع، وإما أن آخذ منك ابنتك) وما كاد يتم رسالته حتى أدركت الأميرة أن الملك قد ساقه البغي إلى الأمر يقتل أبنتها. فنهضت إلى مهد الطفلة البريئة وقبلتها قبلة الوداع، وأسلمتها إلى الرسول في رفق وأسى والتياع، وفي العينين عبرات، وفي النفس حسرات، ولكن الأمير بعث بالطفلة إلى بولونيا أن كان له فيها أقرباء يقومون على تربيتها وتنشئتها

ومضت سنون والأميرة تحمل بين جنبيها فؤاداً كليماً ونفساً تتنزى ألماً، ولكنها لا تظهر الأمير على ما تحمل، ثم أدركت أنها أصبحت جفن سلاح فتعزت بعض العزاء، ثم وضعت غلاماً وحسبت أن الأمير ستهدأ ثورته، وتذهب عنه حدّته، وقد وضعت له ذكراً يرث العرش من بعده

ولكنه استدعاها مرة أخرى، وقال لها في غلظة وجفاء: (لقد أصبحت لا أطيق الصبر على ما ألقى بسببك من مذلة ومهانة يصبهما عليّ الشعب صباً. فلقد أثار سخطهم وألّبهم على أن رأوا هذا العرش الذي أجلس عليه وأحكم بسلطانه سيؤول بعدي إلى غلام ينتسب إلى رعاة الأغنام أهون الناس شأناًً وأقلهم مكاناً. ولقد تدبرت الأمر فلم أجد خيراً من أن أريح نفسي من هذا الغلام كما أرحتها من أخته) واقتطع الغلام من قلب أمه كما اقتطعت أخته من قبله

قالت الأميرة: (مولاي! لك الأمر وعلي الطاعة. ولا أحبّ إليّ من أن تعمل ما يشفي صدرك، ويضع الهمّ عن نفسك، ويحمل إليك السعادة بأوفى كيل، فما أجد سعادتي إلا حيث تجدها ولا تطمئن نفسي إلا حيث ترضى، وانكفأت إلى مقصورتها وقد بضع الهمّ من فؤادها بضعة

وبعث الأمير بالغلام إلى حيث كانت أخته

وشاع في الملأ أن الطفلين قد قتلا، واضطربت النفوس بالحقد على هذا الأمير الطاغي الذي غالى في الضلالة، وتبسط في الأثم، والعدوان، وأفعمت القلوب حباً وعطفاً على هذه الأميرة المنكودة التي صبرت حتى ملها الصبر، وبالغت في الرضا بالمذلة والهوان، ووصل صدى النفوس والقلوب إلى سمع الأميرة فأنكرت على الشعب أن يثور على مولاه، ودافعت عن مسلكه ما وسعها الجهد، على أن هذا كله لم يكن ليحمل الأمير على الثقة بولائها ووفائها وأربت سنو العشرة بين الأمير وزوجته على الستة عشر عاماً وهي تصابر القضاء، وتعاني البلاء. وبقدر ما أقامت على الصبر، كان الأمير يمعن في الغدر ثم أراد أن يبلوها مرة أخرى:

قال لها: (أيتها الأميرة: لقد عزمت على أن أتخذ لي زوجة غيرك، وسأردك إلى أهلك الذين نشأت بينهم، وإلى كوخك الذي درجت فيه، لتعودي إلى ما كنت فيه من بؤس وفاقة. فما يزكو بمن كان في مكاني من الشرف والعظمة أن تتسامى إلى الاقتران به فتاة وضيعة مثلك، وإني لواجد بين بنات الأشراف والنبلاء من تصلح لهذه المكانة العليا.)

قالت الأميرة وهي تكظم الغيظ وتحبس الدمع: (سمعاً وطاعة يا مولاي طبت نفساً ورضيت الطلاق مخرجاً)

ثم جاء الوصفاء وجردوها من فاخر الثياب وسني الحلل وألبسوها من الثياب رديماً قديماً وبعثوا بها إلى كوخ أبيها وأعلن الأمير أنه سيبني بابنة أحد النبلاء

ثم بعث إلى جريزلدا زوجه المشردة من قال لها: (إن الأمير على نجز الزفاف إلى عروسه النبيلة الجديدة، وهو في حاجة إلى فتاة تعد له مقاصير الزفاف والاستقبال، وتقوم على شؤون الوليمة والاحتفال. ولم يجد من هو أبصر منك بهذه الغاية وأقدر على هذا الشأن لسابق خبرتك بالقصر وما فيه، وهو يأمرك أن تعودي إلى القصر كخادم تعمل بضعة أيام تقوم فيها بما يحتاج إليه الزفاف من دعوة المدعوات، فإذا انتهيت من هذا الأمر تعودين إلى كوخ أبيك كما كنت فيه.)

هذه نصال تحز في قلب الفتاة حزاً، وتمزقه تمزيقاً، وهي لا تستطيع للبلاء رداً، ولا للأمر رفضاً. فسمعت وأطاعت وهي تكاد تنشق غيظاً وكمداً. ولم يكن هيناً عليها أن تنزل عن حب زوجها والوفاء له، وقد هان عليها أن تنزل عن النعيم الذي كانت فيه، والترف الذي تقلبت بين أعطافه وحواشيه

مضت إلى القصر في خفة ونشاط وعليها ثيابها البالية، وعملت مع الخدم في تنظيف المقاصير وإعدادها، ثم خلت إلى نفسها وأعدت الدعوات لسيدات البلاد ليشهدن العرس العظيم

وأقبل يوم الزفاف فاستقبلت المدعوات في ثيابها الخشنة، وابتسامتها الناعمة!

ثم مد سماط العشاء وأقبل الأمير وزوجه الجديدة وكانت بارعة الحسن رائعة الجمال. وأقبل عليها الناس رجالاً ونساءً يقدمون إليه وإلى الزوجة ولاؤهم وطاعتهم وإعجابهم، وطوعت لهم الزلفى أن يهنئوه على ما وفق إليه من استبدال زوجه الجديدة بزوجه القديمة

ثم نادى الأمير زوجه القديمة جريزلدا وقال لها في غير خجل ولا رعاية لإحساسها: (ماذا تقولين في زوجي الجديدة؟)

قالت: (مولاي! إني لأشعر لها بالحب من أعماق قلبي. وأرجو أن يكون نصيبها من رجحان العقل وسعة الإدراك بقدر نصيبها من الجمال. إذا تتم السعادة لمولاي الذي أتوسّل إليه بكل عزيز لديه ألا يكسر قلبها، وألا يثلم فؤادها، ولا يقرح كبدها، ولا يجرح عزتها، كما كان يفعل بزوجه القديمة. فهذه يا مولاي فتاة صغيرة نبتت في أعطاف النعمة، ودرجت في حواشي العز والترف، وأما أنا فقد تعودت منذ نشأتي شظف العيش وقسوة الدهر ونكد الحياة.)

قال الأمير وقد خلق الليلة خلقاً جديداً: (عفواً أيتها الفتاة وصفحاً جميلاً، لقد بلوتك في البأساء والضراء فما زادك بلائي إلا صبراً على البلاء، واعتصاماً بالولاء؛ ولقد كنت أحسب النساء لا يقمن على العهد ولا يدن بالصبر. وما صدفت عن هذا الرأي إلا بعد أن خبرتك فسلبتك سعادتك وهناءك: دعيني الليلة أرد عليك في لحظة واحدة هذه السعادة التي حرمتك إياها مدى ستة عشر عاماً: هذه الفتاة التي أحببتها الليلة والتي يحسبها الناس جميعاً زوجي الجديدة هي ابنتك وابنتي التي انتزعتها منك منذ كانت في المهد، وهذا الواقف إلى جوارها هو ابننا الذي حرمتك إياه رضيعاً. أقبلي يا زوجتي على ولديك وقبليهما ما وسعك الحب لهما.)

واستوت على الوجوه دهشة شادهة، ووجوم يشبه البله! ثم تقدم النساء إلى جريزلدا وقدنها إلى مقصورة فاخرة وألبسنها ثياباً لم يطل بينها وبينها العهد، وجلسن يحدثها في إكبار لقدرها وإجلال لنفسها

وأقيمت في القصر ليال غر، وشمل الفرح والسرور كافة الشعب، وطابت نفوس وقرت عيون

وبعث الأمير إلى والد جريزلدا وأتم نعمته عليه، فاقطعه من القصر جناحاً يقيم فيه، وعاش الأمير وزوجه الصبور، ووالدها الطيب، وولداها الطاهران في سعادة ونعيم، حتى فرق بينهم الدهر كما يفرق بين كل الأحياء.

(عن الإنجليزية)

يوزباشي أحمد الطاهر