مجلة الرسالة/العدد 104/محاورات أفلاطون

مجلة الرسالة/العدد 104/محاورات أفلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1935


27 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

قال: أما إن كانت الروح يا أصدقائي خالدة حقاً، فما أوجب العناية بها، ليس في حدود هذه الفترة من الزمن التي تسمى بالحياة وكفى، بل في حدود الأبدية! وما أهول الخطر الذي ينجم عن إهمالها بناء على هذه الوجهة من النظر. لو كان الموت خاتمة كل شيء، لكانت صفقة الأشقياء في الموت راجحة، لأنهم سيغتبطون بخلاصهم، لا من أجسادهم فحسب، بل من شرهم ومن أرواحهم معاً. أما وقد اتضح في جلاء أن الروح خالدة، فليس من الشر نجاة أو خلاص إلا بالحصول على الفضيلة السامية والحكمة العليا، لأن الروح لا تستصحب معها شيئاً في ارتقائها إلى العالم السفلي، اللهم إلا التهذيب والتثقيف، اللذين يقال عنهما بحق إنهما ينفعان الراحل أكبر النفع أو يؤذيانه أكبر الأذى، إذا ما بدأ حجته إلى العالم الآخر

فبعد الموت، كما يقولون، يقود كل امرئ شيطانه الذي كان تابعاً له في الحياة، إلى مكان معين يتلاقى فيه الموتى جميعاً للحساب، ومن ثم يأخذون سمتهم نحو العالم السفلي، يقودهم دليل نيطت به قيادتهم من هذا العالم إلى العالم الآخر، فإذا ما لقوا هناك جزاءهم ولبثوا أجلهم، رجع بهم ثانية بعد كر الدهور المتعاقبة دليل آخر، وليست هذه الرحلة للعالم الآخر، كما يقول اسكيلوس في (التلفوس) طريقاً واحدة مستقيمة، وإلا لما احتاج الأمر إلى دليل، فلم يكن أحد ليضل في طريق واحدة، ولكن الطريق كثيرة الشعب والحنايا، وإني لأستنتج ذلك مما يقدم إلى آلهة العالم السفلي من الشعائر والقرابين، في أمكنة من الأرض تتلاقى عندها سبل ثلاث. فالروح الحكيمة المنظمة تكون عالمة بموقفها وتسير في سبيلها على هدى، أما الروح الراغبة في الجسد، والتي لبثت أمداً طويلاً - كما سبق لي القول - ترفرف حول الهيكل الذي لا حياة فيه، وحول عالم الرؤية، فيحملها شيطانها الملازم لها في عنف وعسر، وبعد عراك متصل وعناء كثير، حتى تبلغ ذلك المكان الذي تجتمع فيه سائ الأرواح. فإن كانت روحاً دنسة، خبيثة الصنيع بأن انغمست في الفتك المنكر، وفي أخوات الفتك من الجرائم الأخرى، وتلوثت بهذه السلسلة من الآثام - فإن كل إنسان يفر من تلك الروح وينصرف عنها، فلن يكون أحد لها رفيقاً أو دليلاً، بل تظل تخبط وحدها في أرذل الشر، حتى ينقضي أجل معلوم، فإذا ما انقضى ذاك الأجل، حملت خانعة إلى مستقرها الملائم؛ كذلك لكل روح طاهرة مستقيمة، مضت في حياتها مرافقة للآلهة مترسمة خطوهم، مقامها الخاص

هذا وإن في الأرض لربوعاً مختلفة عجيبة، تختلف في حقيقة أمرها - كما اعتقد معتمداً على رأي ثقة لن أذكر اسمه - تمام الاختلاف عن آراء الجغرافيين من حيث طبيعتها ومداها. فقال سمياس: ماذا تعني يا سقراط؟ لقد سمعت للأرض أوصافاً كثيرة ولست أدري مع أيها تذهب، وأحب أن أعلم ذلك

فأجاب سقراط: حسناً يا سمياس، لا أظن أن حكاية تروى تستلزم لروايتها فن جلوكس ولست أرى أن فن جلوكس يستطيع أن يقيم الدليل على صدق حكايتي، التي أنا عاجز تمام العجز عن إثباتها بالدليل، وحتى لو استطعت ذلك، لخشيت يا سمياس أن أختتم حياتي قبل أن يكمل الدليل، ومع ذلك فقد أستطيع أن أصف لك صورة الأرض وربوعها كما أتصورها!

قال سمياس: حسبي منك ذلك

قال: حسناً، إذن فيقيني أن الأرض جسم مستدير، وهو من السماوات في مركزها. لهذا لم يكن بها حاجة إلى الهواء أو ما إلى الهواء من قوة أخرى، ليكون لها عماداً، بل هي قائمة هنالك، تحول موازنة السماء المحيطة بها، وتوازنها هي نفسها، بينها وبين السقوط أو الانحراف في أية ناحية، ذلك لأن الشيء الذي يكون في مركز شيء آخر منتشر انتشاراً متوازناً، ويكون هو نفسه متزناً، لن ينحرف بأية درجة في أي اتجاه، بل سيظل ملازماً لحالة بعينها دون أن يحيد. ذلك هو أول رأي لي

فقال سمياس: وهو بغير شك رأي صحيح

- كذلك أعتقد أن الأرض فسيحة جداً؛ وإننا، نحن الذين نقيم في المنطقة التي تمتد من نهر فاسيس إلى أعمدة هرقليس وبمحاذاة البحر، إنما نشبه النمل أو الضفادع احتشدت حول مستنقع، فلسنا نأهل إلا جزءاً ضئيلاً، وأعتقد أن كثيراً من الناس يقيمون في أمكنة كثيرة كهذه. فلا بد من القول بأن هنالك فجوات في أنحاء الأرض جميعاً، مختلفاً أشكالها وحجومها، يتجمع فيها الماء والضباب والهواء، وأن الأرض الحقيقية أرض نقية تقيم في السماء النقية حيث سائر النجوم - تلك هي السماء التي يجري عنها الحديث عادة بأنها أثير، وليس الأثير منها إلا أر سابا يتجمع في فجواتها، وأما نحن الذين نقيم في هذه الفجوات، فنظن مخدوعين بأننا إنما نقيم على سطح الأرض، كما يخيل للكائن الذي في قاع البحر بأنه على سطح الماء، وبأن البحر هو السماء التي يرى خلالها الشمس وسائر النجوم - فهو لم يطف على سطح الماء قط لوهنه وفتوره، ولم يرفع رأسه ليرى، ولا سمع دهره ممن شهد تلك المنطقة الثانية، وهي أشد نقاء وجمالاً من منطقتنا. والآن، فتلك حالنا تماماً: فنحن مقيمون من الأرض في فجوة، ونخيل لأنفسنا أننا على السطح، ونطلق على الهواء اسم السماء ثم نتوهم أن النجوم سابحة في تلك السماء. ولكن ذلك أيضاً يرجع لما بنا من ضعف وفتور، فهما اللذان يحولان بيننا وبين الصعود إلى سطح الهواء: فلو استطاع إنسان أن يبلغ الحد الخارجي، أو أن يستعير جناحي طائر ليطير بهما صُعُداً، فيكون كالسمكة التي تطل برأسها لتشهد هذا العالم، إذن لرأى عالماً قاصياً، ولاعترف الإنسان، إذا ما شحذت طبيعته من بصره، بأن ذلك هو مكان السماء الحق والضوء الحق والنجوم الحق، لأن هذه التربة وهذه الصخور، بل وكل هذه المنطقة التي تحيط بنا قد فسدت وتآكلت كما يتآكل ما في البحر من أشياء بفعل الأجاج. فيندر في البحر أن ينمو شيء نمواً رفيعاً كاملاً، فكل ما فيه شقوق ورمال وحمأة لا نهاية لها من الطين، لا بل يجوز أن نقرن البر بما في ذلك العالم من مناظر هي أروع في جمالها، فالعالم الآخر أسمى بدرجة عظيمة جداً. والآن أستطيع أن أقص عليك يا سمياس حكاية رائعة عن تلك الأرض العليا التي تحت السماء، وهي جد جديرة بالإنصات

فأجاب سمياس ونحن يا سقراط يسرنا أن نصغي

(يتبع)

زكي نجيب محمود