مجلة الرسالة/العدد 105/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 105/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 105
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1935


13 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

فرديريك نيتشه

للأستاذ خليل هنداوي

ونظرة واحدة إلى المواد التي شاء أن يلم بها ترينا ما بدل صاحبها من قلبه وعقله في التحليل والاستقراء، معالجاً الأدب اليوناني وتاريخ اليونانية القديمة، والفصاحة اليونانية وتاريخ الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون. وبعض نظرات عميقة ينفذ بها إلى بعض فلاسفة أو شعراء. وقد قدر بنفسه أنه منجز خلال سبعة أعوام أو ثمانية درس كل ما يتعلق ببراعة اليونان. واقدم على المفادة بعشر سنوات من عمره ليكمل درس المسألة اليونانية من جميع وجوهها، ولكن - ويا للأسف - ظلت هذه الأفكار صوراً مقتضبة ومقاطيع صغيرة غير كاملة. لان صحته المختلة حالت بينه وبين تقديم ما ينبغي له لمثل هذا الامر، فانثنى عن عمله هذا، ولكن الصور التي تركها تكاد لا تخفى عنا الفكرة العامة التي أراد نيتشه أن يصورها وينشرها

يعتقد نيتشه بما اعتقد به معلمه (شوبنهاور) بان جوهر الوجود هو الإرادة، وهذه الإرادة واحدة عند كل الكائنات، وهي تتجلى بثباتها وقوتها في جثمان الخليفة؛ على أن هذه الإرادة هي شقية تفتقر إلى الرحمة لأنها تثابر على الجهاد والمقاومة في هذا الوجود، وهي موقنة عالمة أن نتيجة المعركة عليها لا لها. (وهل الحياة إلا أن تريد شيئاً بدون سبب، وان تتألم دائماً، ثم لا ينتهي الألم إلا بالموت. . . وهكذا تقابل الحياة الأحياء حتى يتفطر الكون ويعمر فساده). أن الوجود في نظر العقل غير كامل، لان نواقصه كثيرة، وعنصر الألم فيه غالب على السعادة والراحة، وبهذا يقضى على العقل أن يطوي الإرادة على نفسها ويسحقها من وجوده، وإذا أنعدمت الإرادة أنعدم الوجود نفسه، لان الوجود ما هو إلا الإرادة الفعالة، ولكن نيتشه لا يذهب إلى هذه النتيجة التي أدركها (شوبن هاور). فالوجود الذي لا يكمل في نظر العقل - عند (شوبنهاور) - فانه يكمل كأثر فني يحمل إلى صاحبه الغبطة الفنية. وفي مثل هذا الافتراض الذي يفترضه نيتشه يرى من واجب كل إنسان أن يستنفد وسعه ويبذل جهده في امتلاك نصيبه من هذا الجمال، باحتوائه على ما في نفسه من معنى الجمال، وبتأمله للوجود ولنفسه بعين الجمال

أننا في ساعة الإبداع الفني نشعر بغبطة لا تحد ولا تحس إذ هي غبطة المبدع. وإذا كان الإنسان في هذه الحياة فرداً قائماً بذاته، يحيا في عالم المادة، فهو فنان بطبيعة خياله المبدع الوثاب. يستطيع أن يبدع إبداع من يخلق ويصور - أن كان فناناً مبدعاً، ويقدر أن يكون مبدعاً في تفكيره في الأثر الفني الذي يبعث في نفسه خياله الباطني، لأنه يشاطر المبدع فنه ويتحد معه في تحليقه. وهو في كلتا الحالتين متخيل صوراً وألوانا جديدة تبعث فيه الغبطة الفنية، ولا يضر هذه الصور أن تكون أخيلة أو أحلاماً، لان أجزاءها مقتبسة من الوجود، ولا ينبغي لهذه الصور أن تكون صوراً ضاحكة تملأ الجو افراحاً، فقد تكون صوراً تملأ الأفئدة ذعراً والنفوس شقاء، وتكون بعد ذلك كله جميلة. . .

هذه الخاصة العاملة على إبداع الصور والأوهام، وتغليب الناحية الخيالية على الناحية الحقيقية يدعوها نيتشه (الخاصة الأبولونية: نسبة إلى (أبولون)، والفن الأبولوني عنده هو النحت والتصوير والشعر القصصي. أن الرجل الأبولوني يستنقذ نفسه من التشاؤم باستسلامه للجمال. يقول للحياة: أنا أريدك، لأن صورتك جميلة، يجدر بها أن تكون مادة للحلم والخيال. . .

ولكن الإنسان ليس بكائن يمكن تحديده بالذاتية، أو بالانفصال، فهو كائن يشعر بنفسه كإرادة متفوقة، ويحس أنه قطعة من هذه الإرادة المتوزعة في الوجود كله، ويدرك أنه متحد مع كل ما يحيا وما يتألم، تام الاتحاد مع الوجود. والإنسان - في حالة ذهول أو سكر ناشئ عن مادة مخدرة، أو إزاء حوادث طبيعية كعودة الربيع - يشعر بان هذا الحاجز الذاتي الذي يفصله عن الوجود قد وهى وزال، ويجد نفسه متحدة مع الطبيعة كلها، وهذا الطور ما يدعوه نيتشه (الطور الديونيزوسي)، نسبة إلى الإلهة (ديونيزوس) ولغة الرجل الديونيزوسي هي الموسيقى التي يعتبرها شوبنهاور لغة الإرادة الخالدة بل صورة الرغبة الدائمة المستترة في باطن الوجود، والإنسان - في هذا الطور - يحس بالألم الشامل والوهم الباطل وشقاء الفردية، فكاد يجنح إلى التشاؤم، ولكنه يهتز قليلاً ويشعر بخلوده ويدرك أن إرادته المفصولة إنما هي جزء من إرادة الوجود، فتراه حيال كل مظهر من مظاهر الفناء، أو مصرع بطل من الأبطال، تراه يشعر بان حياة الإرادة الباقية لم تطفأ بموت البطل. إن الرجل الديونونيزوسي ينقذ نفسه من التشاؤم لأنه يبصر خلود الإرادة، والحادثات تمر والتقلبات تستمر؛ هو يقول للحياة: أنا أريدك! لأنك أنت الحياة الخالدة

وبهذين المذهبين يرى نيتشه أن اليونان قد قهروا التشاؤم، وجعلوا الحياة جميلة زاهية؛ ويرى أن التفاؤل اليوناني لم يكن وليد الخفة والعبث، أو تجاهل لما يغمر الوجود من شقاء والم، ولكنه تفاؤل تولد من مثل أعلى وغاية أسمى؛ والمؤرخ الذي يستقرأ هذه التأثيرات في مطلع تاريخهم يتبين له أن القوم عرفوا الألم كما عرفناه؛ وتذوقوا الشقاء كما تذوقناه

سأل ملك (ميدا) الفيلسوف (سيلين) ما عساك تجد خير شيء للإنسان؟ فأجاب الفيلسوف: (يا ذرية التعس والألم، وأبناء المصادفات والمتاعب! لماذا تنقمون علي إذا جئتكم بما لا ترتاح له اذانكم؟ إن الخير الذي لا خير بعده هو إلا تكون - أيها الإنسان - مولوداً، وإلا تكون موجوداً، وإلا تصير شيئاً؛ والخير العاجل لك إن تلقى مصرعك الآن!) فهذا الألم المنبعث من أعماق الروح الشاعرة بالأوجاع والشقاء الغامر الأرض، هو الذي أهاب باليونان ودعاهم إلى أن يكملوا معنى الحياة الناقصة بخلقهم آلهة هي آلهة جبال (أولمباوس)، هذه الإلهة هي نتيجة إبداع الروح (الأبولونية) وانتصارها. أرادوا أن يستنقذوا أرواحهم من حقيقة الوجود المروعة فعمدوا إلى خلق شعب من الإلهة وجملة أوهام طبقوها على الحياة التي يرونها صالحة للظهور؛ وهم مؤمنون بأن هذه الإلهة تعمل معهم على مجابهة التشاؤم. وهكذا لبست الحياة عندهم لباساً جديداً، وظهرت ظهوراً جديداً، وغدت جميلة في عيونهم لان إلهة جميلة تتصرف بها وتقبل بأقدارها؛ وهوميروس هو المثل الأعلى للروح الأبوبونية؛ ومقاطيعه وقصائده هي نشيد انتصار الحضارة اليونانية على سيئات الأجيال الغابرة، وهي التي خلقت هذه الروح التي تغلب اليونان بأوهامها وأخيلتها على كآبة الحياة الحقيقية وقبحها. وإزاء هذه البراعة الأبولونية نشأت البراعة (الديونيزوسية) أو براعة المأساة.

(يتبع)

خليل هنداوي