مجلة الرسالة/العدد 106/التشجيع. . . .

مجلة الرسالة/العدد 106/التشجيع. . . .

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1935



للأستاذ علي الطنطاوي

سيدي. . . . . صاحب الرسالة، أنت لا تحب الثناء، ولكن القراء يحبون الحقيقة، فأرجو أن تنشر لهم هذا الفصل (على)

قرأت ما كتب عنى وعن كتابي (أبو بكر الصديق) أستاذنا أديب العربية الأستاذ الزيات، فقرأت فيه صفحة من كرم السجايا، ونبل الأخلاق، والتشجيع الذي يتفضل به الكبير على الصغير، فيسدد به خطواته، ويأخذ بيده، ويصب من قوته في أعصابه، حتى يقوى ويشتد ويتقدم، فأحببت أن أعلق على هذا التقريظ بكلمة في التشجيع وماله من الأثر في العلوم والآداب، وأن أفي للحق والواجب، بأن أسجل للأستاذ وللرسالة، ماله علينا من منة، وما للرسالة علينا من يد؛ وأنا وأصحابي هنا مدينون للرسالة، بما نجد من قوة، وما نحس من نشاط، ما كنا لولا (الرسالة) نحس منه شيئاً؛ وما رأينا قبل الرسالة مجلة أدبية راقية، فتحت أبوابها لأدباء العربية جميعاً، لا تفرق بين أبناء قطر وقطر، وبلد وبلد، ولا تزن الأدباء بالشهرة الواسعة، ولكن بالإنتاج القيم، فكانت بذلك الرسالة ديوان العرب المشترك، وسجل الأدب الحديث، وجعلت من قرائها - وقراؤها كل الناطقين بالضاد - أسرة واحدة، تجمعها وحدة المبدأ، ووحدة الغاية. وهل أجمل في إثبات هذه الوحدة، من رجل يكتب مقالة عن الأوزاعي من فلسطين، فيعقب عليه آخر من الشام، ويجيبه ثالث من مصر، ويعلق عليها رابع من سنغافورة ثم يكتب في الموضوع خامس من دمشق؟. . . . كأن الرسالة قد محت بسحرها ما بين سنغافورة والشام من صحارى وبحار، وجبال وأنهار فغدت هذه من تلك، كالمقعد من المقعد في الصف الواحد، يخرج رأي من هنا، ورأي من هنا، ويسمع الأستاذ وهو على منبره الرأيين ليقول القول الفصل، وينطق بالكلمة الحاسمة

وما الأستاذ إلا الزيات وما المنبر إلا الرسالة!

أشكر للأستاذ هذه السنة التي يتبعها في تشجيع صغار الأدباء، والأخذ بأيديهم، لأن التشجيع مذ كان أصل التقدم، وسبب النجاح؛ وقد قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع! وقالت: أنها في تلك السنّ، بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضى إلى الأمام وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير

وإن من أظهر الأسباب في ركود الأدب في الشام في القرن الماضي، وانقطاع سبيل التأليف، هو فقدان التشجيع، وذلك (الاحتكار العلمي) الذي قتل كثيراً من النفوس المستعدة للعلم، وخنق كثيراً من العبقريات المتهيئة للظهور، فقد كان العلم في الشام مقصوراً يومئذ على بيوت معروفة، لا يتعداها ولا يجوز أن يتعداها، هي: بيت العطار، والحمزاوي، والغزي، والطنطاوي، والشطي، والخاني، والكزبري، والاسطواني، والحلبي. . . وكانت كلها متجمعة حول المدرسة البادرائية؛ في القميرية والعمارة، وزقاق النقيب، حيث يسكن الأمير العالم المجاهد عبد القادر الجزائري رحمه الله عليه وعليهم؛ وكان لهذه البيوت كل معاني الامتياز و (الاحتكار العلمي)، فإذا سمع أن شاباً أشتغل بالعلم من غير هذه البيوت، وقدروا فيه النبوغ، وخافوا أن يزاحمهم على وظائفهم الموروثة، بذلوا الجهد في صرفه عن العلم، والعدول به إلى التجارة؛ أو ليست الوظائف العلمية وقفاً على هذه البيوت؟ أو ليس للولد ولاية العهد في وظيفة أبيه، تنحدر إليه الإمامة أو الخطابة أو التدريس عالماً كان أو جاهلاً، فكيف إذن يزاحمهم عليها أبناء التجار، وهم لا يزاحمون أبناء التجار على (حوانيتهم)؟ أولا يكفي أبناء التجار هذا القسط الضئيل من النحو والصرف والفقه والمنطق الذي يمن به عليهم هؤلاء العلماء؟. . .

حتى إنه لما نشأ محمد أمين (ابن عابدين) وأنسوا منه الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقد، والعقل الراجح، خافوا منه فذهبوا يقنعون أباه - وكان أبوه امرأً تاجراً - ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكب به طريق العلم، وجعلوا يكلمونه، ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فثبت الوالد فكان من هذا الولد المبارك، ابن عابدين صاحب (الحاشية)، أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي

بل لقد أرادوا أن يصرفوا أستاذناً العلامة محمد بك كرد علي عن العلم، فبعثوا إليه بشقيقين من آلـ. . . بشقيقين قد ماتا فلست أسميهما، على رغم أنهما قطعاً عن العلم أكثر من أربعين طالباً - فمازالا بأبيه - ولم يكن أبوه من أهل العلم - ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع، ولا منه فائدة. . . ويلحان عليه ويلازمانه، حتى ضجر فصرفهما فكان من ولده هذا، الأستاذ كرد على أبو النهضة الفكرية في الشام وقائدها، ووزير معارف سورية ومفخرتها، والذي من مصنفاته: خطط الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإدارة الإسلامية، والإسلام والحضارة العربية. . . والمقتبس. . . ومن مصنفاته: (المجمع العلمي العربي بدمشق)، ومن مصنفاته هؤلاء: (الشعراء والكتاب من الشباب)!

ولعل في الناس كثيرين كانوا لولا الاحتكار والتثبيط كابن عابدين أو ككرد علي. وهاهو ذا العلامة المرحوم الشيخ سليم البخاري مات وما له مصنفٌ رسالة فما فوقها، على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه؛ وسبب ذلك أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه، فسخر منه وأنبه، وقال له:

أيها المغرور! ابلغ من قدرك أن تصنف، وأنت. . وأنت. . ثم أخذ الرسالة فسجر بها المدفأة. . فكانت هي أول مصنفات العلامة البخاري وآخرها!

وقد وقع لي أنى كنت في المدرسة وكنت أحاول أن أنظم الشعر، فآخذ أبيات قديمة فأغير قوافيها، وأبدل كلماتها، وأدعيها لنفسي، كما يفعل اليوم بعض الأدباء (الترجمة) حين يترجمون الكلمة الإنكليزية أو الفرنسية حتى إذا بلغوا التوقيع ترجموه هو أيضاً، فكانت ترجمة أسم المؤلف أو الكاتب اسم الترجمان أو (السارق)! وكان الكتاب أو الفصل المترجم من وضع أديبنا البارع. . .

كنت أنظم أبياتاً من الشعر أو اسراقها، كما ينظم كل مبتدئ ويسرق، حتى إذا اجتمع عندي كثير من القطع، عرضته على أستاذ العربية، وكان لسوء الحظ تركياً يسمى إسماعيل حقي أفندى، يعلمنا النحو العربي باللسان التركي! فلما قرأه سخر منى وسبني وتهكم علي، وجاء من بعد أخي أنور العطار - فنظم كما كنت أنظم حتى إذا اجتمع عنده كثير من القطع، عرضه على الأستاذ كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي، فأقام له حفلة تكريمية!

فكانت النتيجة أنى عجزت عن الشعر، حتى لنقل البحر بفمي أهون علي من نظم خمسة أبيات، وأن أخي أنور العطار غدا شاعر الشباب السوري، وسيغدو شاعر شباب العرب! وأول من سنّ سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة المرحوم مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري، الفيلسوف المؤرخ الجدلي، الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية، والأستاذ محمد كرد علي بك، وخالي الأستاذ محب الدين الخطيب. . . . ومما كتب في ذم التثبيط:

(. . . وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم، في هذا الوقت الذي يتنبه فيه الغافل. . .

وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولم نرَ أحد من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فينبغي للجرائد الكبييرة، أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة، والتحذير منها، ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم)

وكان الشيخ في حياته يشجع كل عامل، ولا يثني أحداً عن غاية صالحة، حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة ايام، فلا تقل له إن هذا غير ممكن. فتفل عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه وحبب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته

ثم أن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها؛ ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالماً من أكابر العلماء، أو أديباً من أعاظم الأدباء! وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة، إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس تحت القبة.

نشأ الشيخ محمد إسماعيل الحائك عامياً، ولكنه محب للعلم، محب للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس لا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه ويلطف به، لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشدّ ذلك من عزمه، فاشترى الكتب يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها؛ وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحولة العلماء.

وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشرّ، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في (القيمرية) وهو على أتان له بيضاء، فيسلم فيردون عليه السلام، فمر يوماً كما كان يمر، فوجد على الباب أخا للمفتي، فردّ عليه السلام، وقال له ساخراً:

- إلى أين يا شيخ! أذهب أنت إلى (اسطبول) لتأتي بولاية الإفتاء؟ وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال:

- أن شاء الله!

وسار في طريقه حتى إذا ابتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله، وأعطاهم نفقتهم، وسافر!

ومازال يفارق بلداً، ويستقبل بلداً، حتى دخل القسطنطينية فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب، أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيه أنه عربي فيحترمونه ويجلونه، ولم يكن الترك قد جنوا الجنة الكبرى بعدُ. . . فكانوا يعظمون العربي، لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناساً. . .

واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يوماً رجل منهم:

- إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماءها ولم يجدوا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعل الله يفتح عليك بالجواب؟

قال: نعم

قال: سر معي إلى المشيخة

قال: باسم الله

ودخلوا على ناموس المشيخة (سكرتيرها)، فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة فرفع رأسه فقلب بصره فيه بازدراء، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضى، ثم ألقاها إليه وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظارته فوضعها على عينه فقرأ المسألة ثم أخرج من منطقته هذه الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة وللدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقط فقطها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل حتى سود عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب. فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام وقرأها، كاد يقضى دهشة وسروراً

- وقال له: ويحك! من كتب هذا الجواب؟

- قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت. . .

- قال: علي به

فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وان عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره، منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يقوم بين يديه. . . . إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ، ولم يحفظ منها شيئاً

ودخل على شيخ الإسلام، فقال له:

- السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه. وعجب الحاضرون من عمله ولكن شيخ الإسلام سرّ بهذه التحية الإسلامية وأقبل عليه يسأله حتى قال له:

- سلني حاجتك

- قال: إفتاء الشام وتدريس القبة

- قال: هما لك. فاغدَ علي غداً!

فلما كان من الغد ذهب إليه فأعطاه فرمان التولية وكيساً فيه ألف دينار

وعاد الشيخ إلى دمشق فركب اتانه ودار حتى مرّ بدار العماديين فإذا صاحبنا على الباب، فسخر منه كما سخر وقال:

- من أين يا شيخ؟

- فقال الشيخ: من هنا، من اسطنبول. أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني

ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، فركع له وسجد وسلم الشيخ عمله في حفلة حافلة

ومن هذا الباب قصة الشيخ علي كزبر، وقد كان خياطاً في سوق المسكية على باب الجامع الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب فجلس في الحلقة التي تحت القبة فاستمع إلى الشيخ حتى يقوم فيلحق به فيخدمه، وكان الشيخ يعطف عليه لما يرى من خدمته إياه، فيشجعه ويحثه على القراءة فقرأ ودأب على المطالعة، حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك أمدا وهو لا يفارق دكانه ولا يدع عمله، حتى صار مقدماً في كافة العلوم

فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس للمدرس الجديد، فافتقدوا المعيد فلم يجدوه. ففتشوا عليه فإذا هو في دكانه يخيط، فجاءوا به، فقرأ الدرس وشرحه شرحاً أعجب به الحاضرون وطربوا له. فعين مدرساً ولبث خمسة عشر عاماً يدرس تحت قبة النسر، وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم

على أن للتشجيع عيباً واحداً هو الغرور، فأنا أعوذ بالله أن أغتر فأصدق أني أهل لكل ما تفضل به علي الأستاذ من النعوت، وأرجو أن أوفق إلى الجد والتقدم بتشجيع الأستاذ وفضله، وأشكر للأستاذ الزيات باسمي وأسم أخواني هنا، أياديه علينا وعلى الأدب العربي، الذي سمت وتسمو به (الرسالة)!

علي الطنطاوي