مجلة الرسالة/العدد 106/القصص

مجلة الرسالة/العدد 106/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1935



من أساطير الإغريق

بسِيشِيهْ وكيوبيد

أروع قصص الحب في التاريخ القديم

للأستاذ دريني خشبة

كان الليل الهادئ المقمر أصفى من قلوب العذارى؛ وكان النسيم العليل الحلو يرف كالأماني في قلوب المحبين؛ وكالبدر العاشق المُسهَّدُ يرسل القبَلَ فتنطبع على خدود الورد، وتلثم أعواد الزنبق، ثم تنتشر بالشذى فتعطر أحلام المدنفين!

وكان كيوبيد الصغير يتميز من الغيظ حين أنطلق حاملاً سهامه ليقتل بسيشيه ابنة الملك، التي أهانت بجمالها كبرياء أمه فينوس!

كان الناس يعبدون ربة الجمال والحب حتى ترعرعت بسيشيه وتدفّق ماء الشباب في جسمها الريان، فهويت إليها نفوسهم، وخفقت بحبها قلوبهم، وآثروها بعبادتهم من دون فينوس!

وكان للفتاة أختان حسناوان، ذواتا دلٍ وفتون، ولكنهما كانتا مع ذاك دونها قسامة ووسامةً ولانهائية!

أجل، كانتا دونها لا نهائية، فلقد كانت العيون تغرق من جمال بسيشيه في لجَّةٍ من الحسن الغامض ما لها من قرار؛ وكان غموض حسنها هو سر عبادة الناس لها، وافتتانهم بها، وانصرافهم إليها عن كل ربات الجمال!

ودعت إليها أبنها ربةُ الحب، فأثارت في قلبه العداوة لهذه الغادة وجسمت له ما يحيق به وبأمه من انصراف الناس عن عبادتهما إلى هذه المخلوقة التعسة:

(أفيرضيك يا بني أن تكون من آلهة الأولمب نكرتين لا يخبت لهما شعب من العباد المخلصين؟ أم يرضيك أن يتغامز بي الآلهة كلما مررت بهم، وهم كما تعلم مغيظون مني، فيقولون هاهي ذي فينوس التي هدمت كبرياءها امرأة، وصرفت الناس عن عبادتها غادة؟ اذهب إذن فتربص لها، وأنفذ إلى أغوار قلبها سهماً يودي بها إلى هيدزْ، وبئس القرار! وإنه لا ضير على أن تهيم بها أرواح الموتى، أو يفتتن بها بلوتو وملؤه. . . . . .

ومضى كيوبيد إلى قصر الملك في طريق حفَّت بالورد:

وعبقت فيها أرواح البنفسج، وتأرج النرجس الغض، واختلط كل أولئك بالقمراء الفضية فرققت من غيظ الإله الأصغر، وجعلته يحس الجنة التي يخطر فيها ليقتل فتاة بريئة، كل ذنبها جمالها، وأقصى ما ارتكبته من وزر أن بدت للناس فشغفوا بها، وفنوا فيها. . .

وكبر في قلب كيوبيد أن تنتهي هذه الجنة إلى جحيم تعج بالجريمة؛ وتفيض بالآلام؛ فجلس تحت سوسنة نامية يتأمل، وكان ضوء القمر ينعكس على الأزهار ثم يرتد عنها شعراً وسحراً وموسيقى صامته؛ تنعزف ألحانها على أوتار قلبه الخفاق!

وصدح بلبل غرد في هدأة الليل الفضي، فانتفض الإله الأصغر وحمل قوسه وسهامه ومضى. . . . لا يأبه بجمال الطبيعة الساحرة، ولا يأسر لبه هذا البهاء الإلهي الذي يغمر الكون حوله، حتى كان عند أسوار القصر الملكي الراقدة في طوفان زاخر من أزهار الشيبر والياسمين والبابونيا

وبرفتين من جناحيه الصغيرين كان في حديقة القصر. . .

هاهو ذا يصعد على الدرج الرخاميّ، متبختراً، دون أن يلمحه الحرس. . .

وانفتل في غرفة بسيشية النائمة، واندس خلف الستائر الحريرية يوتر القوس الذهبية، وينتقي من كنانته سهماً تقطر المنية من سيته، ويرقص الموت على شباته!

وتقدم نحو الفتاة. . . . . .

يا للجمال النائم فوق الأريكة! ويا للفتنة العائمة ملْء السرير!

لقد كانت متجردة كلها! وكان نهدها البارز المثمر مجللاً بثديين ناضجيين، يتحلبان لذاذة ويلتهبان إغراءً!!

ونامت هذه الذراع هنا، واطمأنت تلك الذراع هناك؛ لدْنتان وإن كانتا كالمرمر؛ رخصتان وإن كانتا لتمثال معبود!!

وكان السحر يهمهم فوق الساقين الملفوفتين، ويهوم من تحتهما، كأنه يرقيهما من نفسه، أو ينفث فيها من روحه وبأسه!. . .

والرأس الصغير فوق الطنفسة الوردية، مستسلماً لأحلام الشباب الحلوة، متلألئاً في شعاعة من ضوء القمر سقطت عليه من النافذة القريبة، رسولاً من لدن ديانا البارة، أقبل ليقول للإله الأصغر: (مكانك أيها الرامي الحبيب! ماذا جنى عليك هذا الحسن فتسلمه للردى، وتجرعه كأس المنون؟! افتح له ما انغلق من قلبك تنعم به، فأنك لن تجد في ربات الأولمب من تخلص لك الحب كما يخلصه لك هذا الهدف البريء. . .!)

وخطا كيوبيد خطوتين، وحملق في وجه بسيشيه. . . . . .

وبهره الجبين المشرق، والهدب الناعس، والخد الأسيل. . . . وأخذ بلبه هذا الشعر العسجدي تفضض حواشية أضواء القمر فتزيده بهاءً ورونقاً، فإلى لا يهدرن هذا الجمال البارع، وانثنى مسلوب اللب، مشدوه القلب، موزع الفكر؛ وانتزع السهم فألقى به في كنانته. . . وقبل أن يخرج يده الصغيرة الناعمة، شاء القدر أن يخدشها سهم ذهبي من سهام الحب، ملأ كيوبيد هوى وأفعم قلبه صبابة، فتقدم نحو بسيشيه لهفان، يتزود لأوبته من جفنها النعسان وجمالها الفينان

وطبع على الفم الدقيق قبلة دقيقة حلوةً، وعاد أدراجه عاشقاً وامقاً لا يبالي بسخط أمه فينوس!!

وأنصدع عمود الليل، وتنفس الصبح فهبت الأرواح النائمة، وأقبلت فينوس ربة الحب لتسمع إلى النادبات النائحات في قصر الملك. . . . . . بيد أنها، بدلاً من ذلك، رأت بسيشيه، بسيشيه بعينها، تمرح في حدائق القصر، وقد برزت عرائس الماء من الغدران الصافية تحييها وتغني لها، وتضفر لها أفواف الزهر. . .!!

وحنقت ربة الجمال والحب، ونادت بالويل والثبور على ولدها كيوبيد، وأقسمت لتجعلن مباهج الحياة ووضاءتها ظلاماً في عيني الفتاة!!

فسلطت عليها الأشباح تروعها وتفزعها، وأغرت بها خفافيش سوداء جعلت تنوشها وتهاجمها، وسخرت عليها ريح السموم تلفحها وتصهر روحها، فانطلقت المسكينة مذعورة إلى داخل القصر، وطفقت تصرخ وتعول، ولا يدري أحد لماذا تصرخ ابنة الملك وتعول. . . وازدحم حولها أبواها وأخوتها والخدم والحشم ينظرون ويعجبون ولا يكادون يحيرون. . .

ومضوا بها إلى المعبد يستوحون الآلهة، ولكنها ما كانت لتزداد إلا شكاةً وأشجاناً!! وكرت الأيام. . .

وانسربت بسيشيه إلى الجبل القريب المشرف على البحر، وفي نفسها أن تلقي بحمل الحياة من شاهق، فتستريح مما يطيف بها من آلام!

ورآها كيوبيد. . .

وظلت هي ترقب الموج الهائج، وتشهد اليم المصطخب، وتلقي على البطاح نظرة مودع عجلان، وعلى المروج الخضر تحية مأخوذة القلب أسوان؛ ثم صرخت صرخة هائلة، وألقت بنفسها من علٍ. . . . . .

وكأن كيوبيد كان قد أحس بما تعتزمه حبيبته من الانتحار، فدعا إليه صديقه ونجيه زفيروس، آله الريح الجنوبية، وأطلعه على ما يكن من الحب: (لهذه الفتاة التي تكاد تلقي بنفسها من قمة الجبل يا صديقي زفيروس. فإن رأيت أن تكون لك على هذه اليد، أذكرها لك أبد الدهر، فخذ أهبتك، ولا تدعها تغوص في اليم، بل تلقها في يديك الرفيقتين، واذهب بها إلى الجزيرة المقابلة حيث الشاطئ المنظور بالرياحين؛ فدعها ثمة، فقد أعددت لها مستراداً وملعباً. . . . . .)

ولشد ما دهشِت بسيشية إذ رأت طيفاً نورانياً كريماً يبرز من الماء فجأة فيلتقطها في يديه الكريمتين، ثم يترفق بها فيضعها على ظهره العريض الرْحب، كأنه أريكة من أرائك الجنة التي وعد المتقون، ويخوض بها اليم المضطرب فتعنو له الأمواج ويسجد من تحته الثبج، ويصير البحر في لمحةٍ كأنه مرآة صافية ملساء، كأنها صفحة السماء. . .

ويصل إلى الشاطئ المزدهر فيبسم للفتاة ثم يجيبها بتمتمةٍ، وينطلق في البحر الذي يعود إلى سابق اصطخابه واضطرابه. . .

وتجلس بسيشيه على الكلأ فتفرك عينيها مما استولى عليها من ذهول، لترى هل هذا الذي هي فيه حلم، أم هي قد ماتت فعلاً ولكنها دخلت الجنة؟!!

بيد أنها تذكر أن الأرواح فقط هي التي تنفذ إلى دار الموتى؛ وأنه ليس في دار الموتى شمس ولا إياء، وهي تتحسس نفسها فترى جسمها البض الجميل كما هو لم يتغير، وهي ترى أيضاً إلى الشمس مشرقة تغمر بآرادها البر والبحر، وتنشر إياءها في الأكوان جميعاً. . .

إذن هي لم تمت، وهذا الطيف الكريم الذي أنقذها من الموت، والذي ترفق فحملها إلى تلك الجزيرة هو رسول أحد الآلهة؛ وإذن فلتنهض ولتضرب في هذا الفردوس المنعزل حتى يكون أمر غير هذا الأمر. . .

ومضت في غياضٍ وأرباض، ورأت في الأفق القريب قصراً باذخاً ذا شرفات وأحياد، فيممت إليه، وما كادت تدنو منه حتى فتحت بوابة السور الكبرى على مصراعيها، وامتدت منها أذرع نورانية تصافحها، وانبرت أصوات رقيقة موسيقية تحتفي بها وتحييَّ وتبيَي!. . . . . .

وفركت بسيشيه عينيها كذلك!

وظنت أنها تحلم، ولكن كل شيء حولها حدَّثها أنها ترى رؤيةً حقيقة، لا رؤيا منامية. . . . فدخلت القصر، وفي نفسها من الحيرة وشدة العجب ما أخذ يتضاعف في كل خطوة ويزداد. . .

وحاولت أن ترى أحداً ممن لهم هذا الصوت الرقيق. . . ولكن عبثاً. . . ليس هناك إلا أذرع من نور تمتد إليها محتفية بها، تقودها إلى المخدع الوثير الذي أعدته العناية لها. . .

ودار الحديث بينها وبين طيف لا تراه:

- (. . . ويدهشني أنكم تحتفون بي. وتبالغون في إكرامي، وأنا لا أرى منكم أحداً، فهل كلكم يلبس قلنسوة هرمز؟)

- (كلا أيتها العزيزة؛ ولكنا أمرنا ألا ننكشف لك. .)

- (ومن ذا الذي أصدر إليكم هذا الأمر؟)

- (ونهينا أيضاً عن ذكر أسمه. . .)

- (أنتم كرام، ولكنكم تضايقونني إلى حد الإزعاج. .)

- (ليفرخ روعك أيتها العزيزة، ففي المساء، تلقين الآمر الكريم صاحب هذا القصر، وصاحب القصور الكثيرة في أطراف الأرض)

- (وهل لي أن أجول جولةً في قصركم المنيف عسى أن تذهب هذه الوحشة الجاثمة على قلبي. . .)

- (ولم لا. . . بسيشيه العزيزة؟) - (بسيشيه؟!. . . ومن أنبأكم أسمى؟)

- (رب هذا القصر أيتها العزيزة. . .)

وجالت الفتاة في القصر الجميل المنسق، وكان مثار عجبها هذه الصور البارعة المرسومة على الجدران، كلما وقفت عند واحدة دبت فيها الحياة، وتحركت على الحائط متهللة مستبشرة، محيَّية بابتسامةٍ خفيفة، أو انحناءة مؤدبة. . .!!

وكانت التماثيل في زوايا الغرف، وأوساط الردهات، وفي حنايا الحديقة، وفوق الربى المكسوة بالسندس الرطب، تحيّي الضيفةَ، كأن حياة تدب في مرمرها كلما وقع بصر بسيشيه عليها، فتتحرك الأذرع، وتومئ الرؤوس، وتمر الفتاة وقد أخذ الدهش من نفسها كل مأخذ. . .

وكانت العنادل تهتف بها ترجوها أن تتلبَّث فتسمعها أنشودة الخلد، ولولا العجلة لوقفت بسيشيه عند كل حتى ينتهي من غنائه الحلو، وتغريده الرنان

وعادت إلى المخدع مع مغيب الشمس

(لها بقية)

دريني خشبه