مجلة الرسالة/العدد 106/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

مجلة الرسالة/العدد 106/شاعرنا العالمي أبو العتاهية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1935


7 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

ومما يدل على أن أبا العتاهية كان يحمل نفسه من أسباب اللهو ما ليس من سجيتها في الزهد لأغراض له في ذلك - ما رواه صاحب الأغاني قال: حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار. قال حدثني أبن أبي الدنيا قال حدثني الحسين بن عبد ربه قال حدثني علي بن عبيدة الريحاني قال حدثني أبو الشمقمق أنه رأى أبا العتاهية يحمل زاملة المحنثين، فقلت له: أمثلك يضع نفسه هذا الموضع مع سنك وشعرك وقدرك؟ فقال له: أريد أن أتعلم كيادهم، وأتحفظ كلامهم

وهو في أخذه بما كان يأمره به الرشيد منه ليتقي به حبسه وسجنه إنما كان يأخذ بالتقية التي يأخذ بها الشيعة، وقد كان على ما سيأتي من رجالهم، فجرى بذلك مع الرشيد كما جرى به مع الهادي والمهدي، وكان إذا خرج من سجنه، وجرى على ما يهواه منه، مضى معه كأن لم يكن هناك شيء يخيفه منه في دخيلة نفسه ومدحه بشعره أحسن مدح، وأخذ عليه منه جزيل صلاته وجوائزه، حتى إذا غلبته نفسه نبا عليه، وأخذ في زهده ونسكه، وأخذ الرشيد في الغضب عليه وسجنه وحبسه، وأبو العتاهية رابح في الحالتن، قاض لنفسه غرضها من مال العباسيين، ولمذهبه السياسي الذي سنشرحه غرضه من ذم دنياهم، والنعي على ما في دولتهم من فساد ديني وسياسي واجتماعي

وقد أخبر أبن أبي العتاهية أن الرشيد لما أطلق أباه من الحبس لزم بيته وقطع الناس، فذكره الرشيد فعرف خبره، فقال: قولوا له صرت زير نساء، وحلْس بيت! فكتب إليه أبو العتاهية:

بَرِمتُ بالناس وأخلاقهم ... فصرت أستأنس بالوْحدَه

ما أكثر الناس لعمري وما ... أقلهم في منتهى العدَّهِ

ثم قال: لا ينبغي أن يمضي شعر إلى أمير المؤمنين ليس فيه مدح له، فقرن هذين البيتين بأربعة أبيات مدحه فيها وهي:

عاد لي من ذكره نَصَبُ ... فدموعُ العين تنسكبُ

وكذاك الحبُّ صاحبهٌ ... يعتريه الهمُّ والوَصَبُ خَيرُ من يُرْجىَ ومن يهَبُ ... مَلِكٌ دانت له العرب

وحقيق أن يُدَانَ له ... من أبوه للنبي أب

ولما عقد الرشيد ولاية العهد لبنيه الثلاثة: الأمين والمأمون والمؤتمن، قال أبو العتاهية:

رحَلْتُ عن الرّبع المحيل قَعودِى ... إلى ذي زُحُوفٍ جمّةٍ وجنود

وراع يراعي الليل في حفظ أمة ... يدافع عنها الشر غير رَقود

بألوية جبريلُ يقدم أهلها ... ورايات نصر حوله وبُنُود

بَحَاَفيَ عن الدنيا وأبقن أنها ... مفارقةٌ لبست بدار خلود

وشدُّ عرى الإسلام منه بفتية ... ثلاثة أملاك وُلاةِ عهود

هُمُ خير أولاد لهم خير والد ... له خير آباء مضت وجدود

بنو المصطفى هارون حول سريره ... فَخيرُ قيامِ حوله وَقُعود

تقلِّب ألَحاظَ المهابة بينهم ... عُيُونُ ظباء في قلوب أسود

خدودُهمُ شَمْسٌ أتت في أهلة ... تبدت لراءٍ في نجوم سُعُود

فوصله الرشيد بصلة ما وصل مثلها شاعراً قط

ثم أنقض عهد الرشيد وجاء بعده عهد أبنه الأمين، وحصل ما حصل من الخلاف بينه وبين المأمون، فاضطرب أمر الدولة، ووجد أبو العتاهية من ذلك ما يساعده على المضي في سبيله من الزهد، واستخدام شعره في دعوة الأمة إليه، وتهوين أمر الدنيا التي فتنوا بها عن الآخرة، ولم يعد يقول الشعر في التغزل والمجون وما إليهما؛ ولكن لم يقطع صلته بملوك العباسيين ولم يتحرج من مدحهم الحين بعد الحين طمعاً في أموالهم. وسنتكلم بعد في أمر ذلك الزهد

حدث عكرمة عن شيخ له من أهل الكوفة قال: دخلت مسجد المدنية ببغداد بعد أن بويع الأمين محمد بسنة فإذا شيخ عليه جماعة وهو ينشد:

لهفي على وَرَقِ الشباب ... وغصونه الخُضْرِ الرِّطابِ

ذهب الشباب وبان عني ... غير منُتَظَرِ الإياب

فلأبكينّ على الشبا ... ب وَطيبِ أيام التصابي

ولأبكينّ من البِلىَ ... ولأبكينّ من الخِضَابِ إني لآملُ أن أُخَلَّ ... دَ والمنية في طِلاَبي

قال فجعل ينشدها وإن دموعها لتسيل على خديه، فلما رأيت ذلك لم أصبر أن ملت فكتبتها، وسألت عن الشيخ، فقيل لي: هو أبو العتاهية

وحدث حبيب بن الجهم النميري قال: حضرت الفضل بن الربيع متنجزاً جائزتي وفرضي، فلم يدخل عليه أحد قبلي، فإذا عون حاجبه قد جاء فقال: هذا أبو العتاهية يسلم عليك، وقد قدم من مكة، فقال: أعفني منه الساعة يشغلني عن ركوبي، فخرج إليه عون فقال: إنه على الركوب إلى أمير المؤمنين، فأخرج من كمه نعلاً عليها شراك مكتوب عليه:

نعلٌ بعثت بها ليلبسها ... قرْمٌ بها يمشي إلى المجد

لو كان يصلح أن أشرِّكها ... خدِّي جعلت شراكها خدي

ثم قال لعون قل له أن أبا العتاهية أهداها إليك، فدخل بها عليه فقال له احملها معنا، فلما دخل على الأمين أخبره بها، وأنه رأى أن أمير المؤمنين أولى بلبسها لما وصف به لا بسها، فقرأ الأمين البيتين فقال: أجاد والله وما سبقه إلى هذا المعنى أحد، هبوا له عشرة آلاف درهم، فأخرجت والله في بدرة وهو راكب على حماره، فقبضها وأنصرف

ولما تولى المأمون بعد أخيه الأمين حسن حال أبي العتاهية في عهده، وكان المأمون أحسن حالاً من الملوك العباسيين قبله، فقرب أبا العتاهية منه، وأكثر من بره وصلته والإحسان إليه بما لم يفعل مثله معه سلفه؛ ومن ذلك أن أبا العتاهية كان يحج كل سنة، فإذا قدم أهدى إلى المأمون برداً ومطرفاً ونعلاً سوداء ومساويك أراك، فيبعث إليه بعشرين ألف درهم

ودخل عليه مرة فأنشده:

ما أحسن الدنيا وإقبالَها ... إذا أطاع الله من نالها

من لم يوُاس الناس من فضلها ... عرّض للأدبار إقبالها

فقال له المأمون: ما أجود البيت الأول! فأما الثاني فما صنعت فيه شيئاً، الدنيا تدبر عمن واسى منها أو ضن بها، وإنما توجب السماحة بها الأجر، والضن بها الوزر. فقال: صدقت يا أمير المؤمنين، أهل الفضل أولى بالفضل، وأهل النقص أولى بالنقص، فأمر المأمون بأن يدفع إليه عشرة آلاف درهم لاعترافه بالحق. فلما كان بعد أيام عاد فأنشده:

كم غافل أوْدىَ به الموت ... لم يأخذ الأهْبة للفوت من لم تزلْ نعمته قبلهُ ... زال من النعمة بالموت

فقال له: أحسنت، الآن طببت المعنى، وأمر له بعشرين ألف درهم

فإذا رأينا المأمون بعد ذلك يزهد في هذا الملك العظيم لأهله من بني العباس، ويؤثر به من بعده الإمام عليا الرضى من آل علي بن أبى طالب رضى الله عنه، فيزوجه بنته أم حبيب، ويجعله ولي عهده، ويضرب اسمه على الدينار والدرهم، فان لشعر أبي العتاهية أعظم الأثر في ذلك؛ وهذه هي النتيجة والثمرة التي جاهد به من أجلها، فقد سعى في تزهيد الناس في كل أسباب الدنيا والتكالب عليها، ليزهد العباسيين في التكالب على هذا الملك الذي يملكونه منها، ويعودوا به إلى سيرته الأولى، فيتولاه أصلح الناس له، ولا يستأثر به أحد على غيره؛ وهذا هو ما فعله المأمون مع علي الرضا، فقد كان بمدينة مرو وفيها علي، فاستحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين الكبار والصغار، وأستدعى علياً فأنزله أحسن منزلة، وجمع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في أولاد العباس وأولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحد أفضل ولا أحق بالأمر من علي الرضا، فبايعه وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام؛ وقد قام بسبب ذلك تلك الفتنة المعروفة بينه وبين عمه إبراهيم بن المهدي، فقضت على تلك الفكرة الصالحة، ومضى العباسيون في أمرهم إلى أن ملكهم خولهم وجنودهم من الترك وغيرهم، وانتهى أمرهم بتلك النكبة التي انتهى بها، ولا يعلم إلا الله ماذا كان يعود من الخير على المسلمين لو تم للمأمون من ذلك ما أراده، ورجع أمر المسلمين إلى ما كانوا عليه من الشورى في عهد النبوة والخلافة

وقد بلغت سن أبي العتاهية في عهد المأمون تسعين سنة، وأدركه أجله في تلك السن سنة 209هـ ـ وقيل سنة 211هـ ـ.

وروى محمد بن أبي العتاهية قال: آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه:

إلهي لا تعذبني فأني ... مقرٌّ بالذي قد كان مني

فما لي حيلة إلا رجائي ... لعفوك إن عفوتَ وحسن ظني

وكم من زلة لي في الخطايا ... وأنت عليّ ذو فضل ومنِّ

إذا فكرتُ في ندمى عليها ... عضضتُ أناملي وقرعتُ سني أجَنُّ بزهرة الدنيا جنوناً ... وأقطع طول عمري بالتمني

ولو أني صدقتٌ الزهد عنها ... قلبتُ لأهلها ظهر المجنِّ

يظن الناس بي خيراً وإني ... لشر الخلق إن لم تعف عني

ثم أمر أن يكتب على قبره

أذْن حّي تسمعي ... أسمعي ثم عي وَعي

أنا رهنٌ بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي

عشت تسعين حجة ... أسلمتني لمضجعي

كم ترى الحيّ ثابتاً ... في ديار التزعزع

ليس زادٌ سوى التقى ... فخذي منه أوْ دعي

عبد المتعال الصعيدي