مجلة الرسالة/العدد 108/إلى الدكتور إبراهيم مدكور

مجلة الرسالة/العدد 108/إلى الدكتور إبراهيم مدكور

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1935



التابو

للأستاذ محمد روحي فيصل

قرأت مغتبطاً دراسة الدكتور للخرافة، وقوة أثرها في الجماعة؛ وأشهد لقد أحسن العرض وأتقن البحث، ثم وفق إلى كثير من الأمثلة الواقعية الجميلة التي استقامتها من أوثق المصادر، والتي تلقي ضوءاً على الموضوع؛ ولابد أن يكون القراء قد أعجبوا كما أعجبت بعمق ثقافته وسداد تفكيره

يقول الدكتور: (وللخرافة يد أخرى في الدفاع عن الملكية، فقد حاربت السرقة والسراق، وحمت مال الفرد والجماعة، وقضت على عامل كبير من عوامل الاضطراب. فالخرافة حلت محل القوانين والشرائع المختلفة في حماية الملكية الفردية والعامة لدى بعض الشعوب المتوحشة، وربما كان لها على نفوس معتنقيها سلطان لا يعدله سلطان قوانيننا المنظمة)

وهذا صحيح! فلقد شهدت فيمن شهد الرواية السينمائية الرائعة (ضحية المعبد) التي تصورت عادات القبائل المتوحشة في جزر البحار الجنوبية، وتبرز العقلية الأولية القاصرة في إطار وضيع مهين، وتتلخص في أن فتاة لا بأس بجمالها نذرت نفسها للرب وكرست حياتها لخدمته، فغدت عذراء مقدسة لا يتزوجها ولا يخاطبها ولا يمسها أحد من الناس. وشاء القدر العابث أن تعشق شاباً طويل القامة مفتول الذراعين، ويعشقها هو الآخر فيتغازلان ويجتمعان، ثم يهربان إلى جزيرة نائية خوفاً من عقاب (التابو)!! ذلك أن من يهاجم العذارى، أو يخرق حدودهن، وينتهك حرماتهن. جزاؤه الموت؛ أفلسن للإله وحده؟ فكيف يشركه في ذلك آدمي نجس؟. . . وراح رجال القبيلة يفتشون عن المجرم ويقتفون معالمه، وبعد لأي وجهد عثروا عليه فأوثقوه بالحبال ثم هووا به إلى قاع اليم فذهب ضحية المعبد. . .!!

والتابو وسم أو علامة يضعها المتوحش على باب داره مثلاً إن أراد حمايتها، وله بعد ذلك أن يهجرها ما شاء من السنين، فلن يجرؤ امرؤ على سرقتها أو دخولها. والتحريم الذي تخلعه هذه العلامة على الأشياء والأشخاص ليس كالتحريم الذي نعهده في شؤوننا الأخلاقية من تحبيب في الخير وتبغيض في الشر، وإنما هو تحريم خاص، ملفف بالرهبة والتقديس، ومفعم بالأسرار والمساتير

فالأمراء البولينزيون الذين يزعمون أن نسبهم الكريم يتصل بالأرباب يطلق عليهم (آريي تابو) أي الأمراء المقدسون؛ أما كلمة (نوا) فأنها تفيد العموم والاشتراك. فالمرأة في بولينيزيا توصف قبل أن تتزوج بنوا، أي أنها حرة طليقة تتزوج من تشاء، وإذا تزوجت أسدل عليها ستار صفيق من التابو فتحرم على الناس جميعاً خلا زوجها

وحدث أن رجلاً من (التونجا) مس جثة أمير ميت فحكم عليه بالحرمان التابوي عشرة أشهر قمرية لأن الأمراء مقدسون أحيا أو امواتاً، ومن يمس شعر أمير أو جسده أو عظمه أو يشترك في جنازته يطوق بالتابو. والمعروف في (نيوزيلاندة) أن القارب الذي ينقل جثة لا يجوز استعماله مرة أخرى، وإنما يطرح أبداً على الساحل بعد طلائه بالبياض

ويذكر الأستاذ ليفي برول في كتابه (العقلية الاولية) أن الرجل من قبائل (المركيزا) إذا ذبح عدوا له حكم عليه باللامساس عشرة أيام يحرم عليه في خلالها مس امرأته وإشعال ناره، فلا بد له إذن من طاه يطبخ له طعامه. والزاد الذي يحمله الشريف على ظهره يحرم على جميع الناس إلا على صاحبه! كأن التحريم أو (التتويب) قد انتقل من شخص الشريف إلى أشيائه! وشعور الأمراء محرم لمسها، ولو أن أميرا مس شعوره بإصبعه فعليه أن يدنيها من أنفه في سرعة ليستنشق رائحة القداسة التي علقت بها!

وفي الإصحاح السادس من سفر العدد من التوراة كلام مسهب عن شيء يدعى النذير، فقد أمر موسى أن يقول لبني إسرائيل: أنه إذا أنفرز رجل أو امرأة منهم لعمل نذر للرب. فالنذير يجتنب الخمر والخل ولا يشرب بمن نقيع العنب، ولا يمر موسى الحلاقة على رأسه؛ وينتهي النذر الإسرائيلي على نحو ما ينتهي التابو البولينزي، وذلك بأن يحلق النذير رأسه عند مدخل خيمة الاجتماع المقدسة فيأتي الكاهن إليه ويضع على يديه طعاماً

ومن عادات اليهود ألا يقسموا بالله الكريم، فهم يتورعون أشد الورع عن القسم باسم (يهوا) ومن يمس جثة ميت عد نجساً لمدة سبعة أيام، وتنتقل نجاسته إلى كل شيء يلمسه، وفي ختام الأيام السبعة يغسل لباسه ويستحم بالماء الطهور؛ وكذلك النفساء فهي نجسة لا تجوز مقاربتها في حال من الأحوال أما السبت فله عندهم قواعد خاصة تتعلق بالمحافظة عليه والاستراحة فيه. حرم عليهم فيه العمل، وإشعال النار في المنزل، وطبخ الطعام، والخروج من المنزل إلى مسافات معينة. والتاريخ يروي أن بومبي الكبير قد تغلب على اليهود في القدس لأنهم لم يسعوا إلى مقاومته يوم السبت، وأن انيتو كرس الرابع السلوقي افتتح القدس عنوة لأنهم راعوا حرمة السبت

ليست تخلو فكرة التابو من خير ونفع، وذلك أنها كما يقول فريزر في كتابه (عمل بسيشه) أساس الشعور بحق التملك واحترام الأوضاع الاجتماعية والرابطة الزوجية وما إلى ذلك كله مما يتصل به الناس في حياتهم الخاصة والعامة. ولكنها على ذلك إنما تدل على انحطاط العقل، وأخذه بالعنف في فعل الخير والشر، وحاجته إلى الحدود والحواجز، وتعليله الأمور والأحداث على الطريقة الدينية الميتافيزيكية

محمد روحي فيصل