مجلة الرسالة/العدد 108/محمد حافظ إبراهيم

مجلة الرسالة/العدد 108/محمد حافظ إبراهيم

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1935


2 - محمد حافظ إبراهيم

بمناسبة ذكراه الثالثة

كان حافظ في ميعة شبابه يطلب الثروة على قدر طموحه، والحظوة على قدر نبوغه؛ ولكنه طلبهما من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس، لا من طريق الواجب الذي يؤديه كل إنسان إلى المجتمع. فلما أخفق بالطبع لم يرد أن يعيش كما يعيش سائر الناس على العمل الميسور، وإنما ارتد ارتداد الأنوف المحتج إلى الفلاكة الشاعرة الصابرة، يحمل بؤسه على (حرفة الأدب) كما يحمل المؤمن رزءه على حكمة القدر؛ ثم عاش عيش الطائر الغرد: عمره ساعته، ودنياه روضته، وشريعته طبيعته، ودأبه أن يطير في الغيم والصحو، ويشدو في الطرب والشجو، ثم يسقط على الحب أينما انتثر!

ولقد كان من جريرة هذه الحياة النابية العقيم التي حيها حافظ أن قتلت فيه الطموح فلم ينشط إلى سعي، وأذهلته عن الغاية فلم يسر على مبدأ، ووقفته على الشاطئ فلم يتعمق في فلسفة، وشغلته عن الدرس فلم يتكمل بثقافة. كان مبدؤه الأدبي مبدأ اليوم، كما كانت حياته المادية حياة الساعة: رأى الآمال تتهافت حيناً من الدهر على أريكة الخديويه في مصر، وعرش الخلافه في الآستانة، فجرى لسانه بالشعر المطبوع في مدح عباس وتمجيد عبد الحميد؛ ثم اتصل بالإمام وشيعته من سراة البلاد وشيوخ الأمة، ولهم يومئذ في الإنجليز رجاء موصول وظن حسن، فصدرت عنه في هذه الفترة قصيدة في رثاء الملكة فكتوريا، وقصيدة في تتويج الملك أدوار السابع، وقصيدتان في وداع اللورد كرومر، عبر بهما عن الرأي السياسي الأرستقراطي في ذلك الحين؛ ثم خلص للشعب فلابس دهماءه وخالط زعماءه، واندفع بقوة الوطنية الدافقة الشابة إلى لواء مصطفى، فمزج شكواه بشكوى البلاد، وضرب على أوتار القلوب أناشيد الجهاد، ونظم أماني الشباب من حبات قلبه، وترجم أحاديث النفوس ببيان شعره؛ ثم عطف عليه الوزير الأديب حشمت باشا فأكرمه بالعمل في (دار الكتب)، وأجزل له المرتب طمعاُ في مواهبه، وثواباُ على فضله؛ ولكن الشاعر حمل الوظيفة على باب المكافأة المفروضة فاستراح للخفض، واستنام للدعة، وفتر عن قول الشعر إلا مدفوعاُ إليه من فترة إلى فترة؛ فلما خرج على (المعاش) انضوى إلى أعلام (الوفد)، واتصل بالزعيم اتصال النديم، وحاول أن يبعث في نفسه الشعر الوطني، ولكن كان قد أصفى. . .

وكان فكر حافظ فيض الشعور وعفو البديهة، ينشأ في الكثير الغالب من آراء المجالس، وأقوال الصحف، ومخزون الحافظة، فلم تعنه حياته على التروية، ولم يدعه اضطرابه إلى التأمل، ولم تطلقه قيوده إلى الطبيعة، وإنما ظل صنيعه لوحي البيئة، وإلهام الفطرة، وتوجيه المناسبة؛ فهو في قصائده للإمام يذكر تعلق الناس بالأباطيل، وتهالكهم على عبادة الموتى، ولا يزيد في ذلك على نقد الإمام ونعيه؛ وفي قصائده لقاسم يذكر الحجاب والسفور بما لا يخرج عن مذهبه ورأيه؛ وفي قصيدته التي أنشدها في احتفال مدرسة البنات ببور سعيد يتكلم في تعليم الأم وسفور المرأة وعيوب الجماعة بما لا جديد فيه؛ وفي قصائده التي نظمها في مشروع الجامعة وافتتاحها يجمل ما فصلت الصحف من الموازنة بين الإكثار من الكتاتيب وإنشاء الجامعة؛ وفي رثائه لتولستوي يذكر السلم والحرب، والخير والشر، والغنى والفقر، بما لا يبعد عن متناول الناس، ولا يرتفع عن مستوى الجمهور؛ من اجل ذلك كان فكره مستقيما لا ينحرف، وواضحاُ لا يلتبس، وسديداُ لا يطيش، والسر فيه اعتماده على قوة الإجماع، لا على غرابة الإبداع

وكانت ثقافة حافظ ثقافة الشاعر العربي الأول: يتزود لمجالس الملوك بالإخبار والطرف، ولمحافل الأدباء بالأشعار واللغة، ويستعين على ذلك بسلامة الذوق، وصفاء الطبع، وقوة الحافظة، وكثرة الاطلاع، وجودة الاستماع، وإلحاح الحاجة؛ ولحافظ في كل أولئك موضع منفرد ومكان بارز

عكف منذ شب على دواوين الشعراء وأجزاء (الأغاني) يتنخلها، ويتمثلها، ويعاود النظر فيها، ويستكمل الحظ منها، حتى بلغ من مختار الرواية ومصطفى الكلام ما لا غاية بعده؛ ثم قنع من فروع الثقافة الأخرى بنتف من المسائل الأولية، ينقلها عن السماع ويأخذها عن الصحف إذا ظن أنها تدخل بوجه من الوجوه فيما يعنيه من ابتكار الأسمار وصوغ القريض؛ حتى لغته الفرنسية ظلت بكماء فلم يتقنها ولم يستفد منها لا بالقراءة ولا بالترجمة؛ وثقافة الشاعر المدني المجدد ثقافة محيطة شاملة تشارك في ضروب المعرفة مشاركة بصيرة، وتتابع تقدم الفكر متابعة حرة

أما صياغة حافظ فهي موهبته الأولى ومزيته الظاهرة، وهو في ذلك ثاني الخمسة الذين تيقظت على دعوتهم نهضة الشعر، وتجددت على صنعتهم بلاغة القصيد. ولعله انفرد عن هؤلاء جميعاُ بالصدق في تعبيره عن هموم قلبه، وتفسيره لأماني شعبه، وتصويره لمساوئ عصره

احمد حسن الزيات