مجلة الرسالة/العدد 109/أساليب الاستعمار

مجلة الرسالة/العدد 109/أساليب الاستعمار

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1935


قضية الحبشة

قضية الشرق وقضية الحرية

للاستعمار الغربي تاريخ أسود، حافل بصنوف الاعتداءات الدموية على

حقوق الأمم الضعيفة، وعلى أرواح الشعوب الآمنة وحرياتها وأرزاقها؛

ولكن هذا الاستعمار الدموي الغادر، لم يبلغ في عصر من العصور،

ولا في ظرف من الظروف، ما يبلغه اليوم من الجرأة والاستهتار، بل

من الإجرام والتوحش، فهو لا يحاول حتى أن يستر نياته كما عهدناه

في الماضي أو يسبغ على تصرفه أي لون مشروع أو معقول، بل يتقدم

بكل بساطة، مسفرا عن براثنه، شاهراً سلاحه للقضاء على الفريسة،

متغنياً في غير حياء ولا وجل بما يستطيع أن يغنم من وراء الدم

المسفوك، والحريات المغصوبة، والبلد المباح

تلك هي الصورة التي يعرضها لنا النزاع الإيطالي الحبشي. ونقول النزاع من باب التجاوز، إذ أي نزاع هنالك؟ بلد حر مستقل منذ أحقاب التاريخ، وشعب آمن مطمئن في أرضه التي خصه الله بها، يريد الاستعمار الفاشستي الغاشم أن يلتهمه نهاراً جهاراً؛ ولا عذر له - إن صح التعبير - إلا أنه يريد أن يزيد في أرضه وفي ثرواته وفي سلطانه، وأن يحقق شهوة عرضت له في استباحة الهضاب الحبشية الغنية بكنوز الطبيعة، التي يضطرم جشعاً للحصول عليها. وأي طريق هذا الذي يلجأ إليه لتحقيق هذه الشهوة الوضيعة الغاشمة؟ هو القتل المنظم يسميه الحرب، والفتك الذريع يسميه الفتح؛ هو القرصنة المجردة، وهو السلب الجهر، وهو قطع الطريق؛ وهو أخيراً كل ما في الجريمة من عدوان وانتهاك وكل ذلك باسم المدنية الغربية والتهذيب الأوربي

وأوربا المتمدينة، ما هو موقفها من ذلك العدوان الآثم؟ وشرائع الله وشرائ مصيرها؟ أما أوربا المتمدينة فهي تأتمر جمعاء مع هذه الفاشستية الدموية المتوحشة؛ وإذا شذت دولة فعرضت بعدوانها فإنما ذلك لغيرة أو منافسة؛ وإنما عصابة الاستعمار كلها يد واحدة تؤيد إيطاليا القوية الزاخرة بالجند والسلاح، لا باعتبارها دولة أوربية وقوة استعمارية فقط، ولكن باعتبارها دولة غربية تزمع أن تفترس أمة شرقية، وأمة بيضاء تزمع أن تفترس شعباً أسمر (ملوناً)؛ وكلها تأتمر مع القوي المعتدي ضد الضعيف المعتدى عليه، فتمتنع عن بيع السلاح للحبشة مصانعة لإيطاليا ومؤازرة لقضية الاستعمار المشتركة، لكي تعجز الحبشة عن الدفاع عن نفسها، ولكي يستطيع المعتدي أن يحصد أبنائها المدافعين عنها بأيسر أمر

وأما شرائع الله وشرائع الأمم، فإن هذا الاستعمار الباغي ينتهكها شر انتهاك؛ بل إنه ليتيه كبرياء إذ يستطيع انتهاكها دون وازع، ويزعم أنه يستطيع بما لديه من القوى والعدد أن يسخر من رأي العالم ومن الإنسانية كلها؛ فحقوق الأمم وحرياتها المقدسة، وأمن الشعوب وحياة الأمم والأفراد كلها لغو في نظره؛ ثم هو يطأ قانون الأمم (القانون الدولي) بقدميه ويسحقه سحقاً، فلا ترده عن مشروعه الآثم معاهدات سلم وتحكيم يرتبط بها، ولا يحترم معاهدات خاصة عقدها مع الأمة التي ينوي افتراسها يوم كان يخطب ودها

تلك هي إيطاليا الفاشستية، وذلك هو موقفها كما يعرضه ذلك الرجل! ذلك الطاغية الذي يزعم أنه بعدوانه الصارخ على حرية الأمم، يقود أمته في سبيل المجد والعظمة والثراء، وما يقودها إلا في سبيل الدمار والفناء

لقد كانت إيطاليا لأقل من قرن أمة ذليلة تصفدها أغلال الحكم الأجنبي، وكانت أوربا والعالم كله يعجب بكفاحها في سبيل حرياتها؛ وما زالت أسماء أولئك الزعماء الذين قادوها في سبيل الحرية أمثال مازيني وأورسيني وكافور وجاريبالدي تستثير إعجاب الخلف وتقديره. ولكن إيطاليا، ولكن ذلك الطاغية الذي يسيطر على مصايرها اليوم، يوشك أن يقضي بمعوله المخرب على ذلك الصرح النبيل الذي ما زالت تتخذه الأمم الطامحة إلى حرياته مثلا أعلى

إن هذا النزاع الذي تهتز له اليوم أرجاء العالم كله، ليس قضية إيطاليا والحبشة بل هو أجل شأناً من ذلك وأبعد مدى؛ هو قضية الغرب الظافر والشرق المغلوب، وهو قضية الاستعباد والحرية؛ وإذا كانت قوى الاستعمار تتضافر اليوم مع إيطاليا لتزيدها جرأة على جرأتها، وقوة على قوتها، فذلك لأنها ترى في سحق الحبشة سحق آخر معقل للحرية الأفريقية؛ وإذا كانت بعض الدول الاستعمارية تحاول أن تبذل باسم عصبة الأمم جهوداً لاتقاء الحرب الأفريقية، فليس ذلك حباً منها للسلام أو عطفاً على الحبشة، ولكن لأنها تشفق أن يثير هذا الفصل الجديد في الصراع بين الشرق والغرب، وبين الاستعمار وفرائسه، اضطراباً في أملاكها ومستعمراتها، وأن يذكي في الأمم المستعبدة روح الانتقاص والثورة فتعمل على تقويض سلطانها المغصوب

إن فرصة تلوح في الأفق للأمم الشرقية، فهل تعنى الأمم الشرقية بمراقبة الحوادث، وهل تعد نفسها لانتهاز فرصتها؟

(. . .)