مجلة الرسالة/العدد 109/القصص

مجلة الرسالة/العدد 109/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1935



من أساطير الإغريق

القرية الظالمة

للأستاذ دريني خشبة

ذهبا يدلجان في هدأة الليل، ويضربان في ظلام الوادي، ويتحدث أحدهما إلى الآخر حديث الآلهة؛ وكلما نال منهما الجهد، جلسا يتسامران، أو ينصت الشيخ ذو اللحية البيضاء المرتعشة، إلى السحر الذي تنفثه قيثارة الفتى اليافع

- (حسبك يا بني، فلقد كادت موسيقاك تبطل عمل العاصفة)

- (وفيم تريد أن تستيقظ العاصفة يا أبتاه؟)

- (أريد أن تستيقظ العاصفة لأريك عجباً هذه الليلة من طباع الناس. أترى إلى هذه القرية! النائمة في أكناف الجبل؟)

- (أين يا أبي؟)

- (أنظر جيداً)

- (الظلام دامس، ويكاد الحلك يختلط بسواد الصخر فلا أرى شيئاً. . .)

- (أنظر في الجهة التي تشير إليها يدي)

وأشار الشيخ بيده فانبعثت منها شعاعة من نور شديد، كشفت القرية للفتى

- (آه. هذه هي. عمش خفيف أصابني الليلة يا أبتاه!)

وكان الفتى حلو الدعابة رقيق النكتة، ثرثاراً، فقال له الشيخ يحذره:

- (إذا كنا عند القرية فلا تبدأ حديثاً، ولا تخاطبني إلا أن أخاطبك؛ وإياك أن تأتي بإشارة تسقط هيبتنا في أعين القوم، فانهم لؤماء سفهاء، وقد تفسد علينا ثرثرتك ما جئنا من أجله الليلة إلى هذه القرية. . .)

(نسيت القفل يا أبتاه!!)

- (أي قفل؟)

- (الذي أقفل به فمي فما يتحرك ببنت شفة) - (يا خبيث. .: اصمت)

وأشار الشيخ بيده إلى السماء فأربدت وتكلحت وأورى برقها وقرقع رعدها، وانصبت ميازبها بماء منهمر. وانطلقا إلى القرية. . .

ووقفا عند منزل فخم ضخم ذي شرفات، فقال الشيخ:

- (تشبث يا بني بأحياد الحائط حتى تكون عند النافذة، فانظر ماذا ترى)

وفعل الفتى، ونزل، وقال للشيخ:

- (أبتاه! نسوة عاريات يرقصن، وندامى وخمر، و. . . موسيقى. . . وفتيان وفتيات. . . . و. . .)

- (وماذا يا صغيري العزيز؟)

- (ودعارة وعهر يا أبتاه. . . . لماذا جئنا هنا؟ لماذا جئنا هنا؟. . .)

- (قلت لك جئنا لأريك عجباً هذه الليلة من طباع الناس، هلم إلى باب المنزل)

وطرقا الباب، فبرز لهما فتاىً غرانق وقال: ماذا؟ شحاذان قذران!) فقال الشيخ:

- (على رسلك يا بني. أنا رجل شيخ غريب، وهذا ابني، وقد دهمتنا العاصفة فلجأنا إليكم نرجو أن تضمنا غرفة صغيرة إلى الصباح، ونطمع أن نتبلع لديكم بلقمات. . .)

- (غرفة ولقمات؟ ها ها. . . اذهبا اذهبا. . . لصوص! هذه حيل قطاع الطريق والسفاحين بلوناها من قبل)

ثم قذف بمصراع الباب في وجهيهما. فنظر الشيخ إلى ولده وقال: (أرأيت؟ سر إلى هذا البيت القريب)

وقال لابنه: (هلم إلى النافذة فانظر. . .)

وتسلق الفتى وحملق قليلاً، ثم قفز وقال: (أبتاه! أناس يخزنون الذهب في خواب عظيمة ويختمون عليها بالرصاص المذاب؛ من أين لهم هذا الذهب كله يا أبي؟. .) فقال الشيخ: (هم لصوص يا بني، وإن كانوا لا يقطعون طريقاً، ولا يسطون على دار؛ ولكنهم يمتصون دم الفقير والمعتر، ويصهرونه ذهباً ويكنزونه هكذا؟! إنهم أصحاب هذه الضياع والبساتين! هلم إلى بابهم. . . . . .)

وطرقا الباب، وسألا طعاماً، ومبيت ليلة، فقالت لهم العجوز صاحبة الدار: - (إن هذا العام عام شدة، ولم تبق لنا المجاعة على زرع ولا ضرع، ماذا عندنا لنعطيكم؟ هيكل زيوس قريب من هنا ناما فيه، وكهنته أسخياء كرماء، وعندهم في كل آونة خمر. . . سيطعمونكما ويسقونكما! وربما قدموا لكل منكما غادة! فهم فساق عرابيد. . . اقصدا إليهم. . . اذهبا. . .)

وقذفت بالباب في وجهيهما. . . . . .

قال الشيخ: (أرأيت يا بني؟) فقال الفتى مداعباً:

(نحن نستحق أضعاف هذا الهوان! ما لنا وللناس؟!)؛ فقطب الرجل جبينه وقال: (مالنا وللناس؟ إذن ما نحن في هذه الدنيا يا بني؟ ولكن ليس الآن ما أعددت لك من عبرة هذه الليلة؛ سر بنا إلى ذلك القصر العتيق)

فلما كانا عنده، تطلع الفتى فرأى صحباً كثيراً ما يزال يتعشى، والموائد حافلة بالأشربات والأشواب، وبكل ما لذ وطاب. والندامى البيض كالنجوم رافلات، ورافلون، في وشى وأواف. وكأن الفتى استطير من العجب، فقال للشيخ: (كل الناس يا أبتاه هانئون هذه الليلة المقرورة إلا نحن!! الجميع يأخذ في نشوة ولذة ونحن نضرب في وحل وننشق من غيظ؟!)

قال أبوه: (ألم أقل لك ألا تبدأ حديثاً حتى أبدأك؟ هلم إلى الباب) وقرعا الباب فبرز لهما شاب مفتول العضل كأنه هرقل. فلما سألاه حاجتهما، قادهما إلى البهو الواسع حيث القوم فيما هم فيه من متاع

قال الشاب المفتول: (إليكم أيها الأخوان لصين من لصوص الدجاج عاثا كثيراً في قريتنا هذه، ولولا طول الحذر ما ذقتم الليلة رجل دجاجة. . . . . . إنهما يطلبان مبيتاً وعشاءً، ولا أدري لِمَ لمْ يقصدا إلى هيكل الأب زيوس حيث المبيت الوثير والعشاء الكثير؟! وحيث أشياء أخرى. . . . . .)

وقهقه السمار وتكبكبوا حول الغريبين، ثم أخذوا معهما في ألوان غير محتشمة من المزاح الثقيل. هذا ينتف شعرات من ذقن الشيخ، وذلك يرفع ذيل الفتى مما وراء، وهذه تعانق الشيخ وتقبله وتقدم له كأساً من الخمر، وتلك تركب الفتى (زقفونة!). . . . . .

ولما فاضت الكأس بالشيخ والفتى، نظر أحدهما إلى الآخر نظرات، ثم غابا عن أنظار الجماعة، كأنما تحولا إلى هواء. . .؟! فشده القوم، وأوجسوا خيفة

لم يبرح الرجل وابنه يتنقلان في شوارع القرية الموحلة من بيت إلى بيت، وكلما طلبا المبيت والعشاء استهزئ بهما وطردا شر طردة وأخسها، حتى ضجر الفتى وبرم بحكمة والده في هذه الرحلة المضنية في ذلك البلد البخيل. . . فقال له: (اذهب أنت فسأنتظرك على هذه الصخرة الناتئة في حيد الجبل، وسأتسلى بموسيقاي حتى تعود) فقال الشيخ: (وحكمتي التي أردتك أن تراها بعينيك؟ هلم، هلم. . . أترى ذلك الكوخ؟ لندلج نحوه وليكن آخر مطافنا)

وكانت في الكوخ كوة صغيرة ينبثق منها نور خافت. فلما نظر الفتى تمتم يقول: (أبتاه امرأة متهدمة وشيخ محطم! يا لبؤس الحياة، ويا لشظف العيش! لماذا أثرت العاصفة يا أبي؟ إن الماء ينز عليهما ويبلل فراشهما. . .)

- (سترى أن هذا الكوخ هو وحده الذي يبقى)

- (ماذا تعني يا أبي؟ هل تهدم القرية؟)

- (صه! هلم فاطرق باب الكوخ.)

- (قم يا فيلمون. إن بالباب طارقاً)

- (نامي يا بوسيز! إنه البرد ترجم به العاصفة)

- (لا. ليس برداً. إسمع! أناس ينادون. قد تكون بهم حاجة)

ونهض فيلمون متهالكاً على نفسه ففتح الباب. وما كاد الشيخ يذكر حاجته حتى هش صاحب الكوخ وبش، وتلقى الرجل وابنه أحسن لقاء

- (مرحباً مرحباً. . . أنتما في حاجة إلى دفء. بوسيز. انهضي يا امرأة فأوقدي ناراً. أنا أعرف أن الحطب مبلل، ولكن حاولي. . . مرحباً يا كرام معذرة، فنحن نستعين على الحياة هنا بالصبر. بوسيز، هاتي قربة النبيذ أولاً. ليس فيها إلا صبابة! لا بأس! سيبارك زيوس للضيفين فيها. . . هاتي شيئاً من المشمش الجاف يا امرأة!. . .)

وتأتي بوسيز بقربة النبيذ، وما يكون فيها إلا ثمالة، فيتناوله الشيخ ذو اللحية البيضاء، فيتمتم بكلمات فتمتلئ نبيذاً من خير ما عصر باخوس؛ وبعد أن يروي منها هو وابنه، يدفع بها إلى صاحب الكوخ ممتلئة كأن لم يمتد إليها فم! فيتولى الرجل دهش عظيم ويقول: (بحق زيوس إلا ما أخبرتني أيها الصفي الصالح من أنت؟) فيقول الشيخ: (أنا أيها العزيز رجل نقلة وأسفار وهذا ابني الموسيقي البارع. أتطرب للموسيقى؟)

ويهتز الرجل، ويوقع الفتى على قيثارته لحناً كأنه لسان العاصفة بما فيها من سنا برق وهزيم رعد ومكاء ريح وتنقير مطر، ثم هو مع ذاك لحن مشرق متألق يأسر اللب ولا يستأذن على القلب. . . وطرب فيلمون، ورقصت جوانح بوسيز، وأحضرت طبقاً به قليل من المشمش الجاف فقدمته للفتى، ناسية أن تقدمه للشيخ، وهذا من أثر الموسيقى على أعصابها، فقدمه هذا إلى أبيه في أدب واحترام. وما كادت اليد البيضاء الناصعة تمس الفاكهة حتى عادت إليها النضارة، وتأرجت عنها أنفاس الحديقة، وتضاعفت في الطبق حتى ملأته. فأكل الشيخ، وأكل ابنه، وأكل فيلمون وزوجه، وهما لا يصدقان ما يريان!

وظلا يقدمان للضيفين كل ما استطاعاه من خبز وأدم، فكان القليل يزداد والمشفوف يتضاعف. وكانت لديهما إوزة عجفاء حاولا أن يجريا عليها التجربة فهما بذبحها ليصنعا منها شواءً يقدمانه للضيفين، ليريا ماذا يكون من أمرها. ولكن الإوزة فزعت فزعاً شديداً، وانطلقت في ناحية الشيخ تستجير به كأنها تكلمه. فابتسم وربت على ريشها الناعم النظيف، وأجارها من سكين فيلمون

وكان نسيم السحر قد أخذ يهب في الأفق الشرقي، فقال الشيخ:

- (أيها العزيز فيلمون. أيتها التقية الكريمة بوسيز، من إلهكما!)

- (إلهنا زيوس تبارك في علياء الأولمب؟)

- (أو يسركما أن يكون معكما الآن؟)

- (معنا هو دائماً معنا!)

- (أجل. هو دائماً مع عباده المخلصين. ولكن، أيسركما أن تكونا الآن في حضرته يحدثكما وتحدثانه؟)

فيصيح فيلمون:

- (أنت هو زيوس. تقدست. تقدست)

ويسجد الرجل وزوجه، وما تفتأ تأخذهما رعدة شديدة

- (أجل. أنا زيوس. أتيت أبتلي هذه القرية. وهذا ولدي هرمز. انهضا. والآن. ستزلزل الأرض زلزالها فلا تنزعجا. . .)

ووقف زيوس، وأشار بيده إشارة خفيفة إلى الشرق، ثم إلى الغرب، ثم إلى الجنوب، ثم إلى الشمال؛؛؛ ثم نظر إلى فوق وتمتم بكلمات، وجلس

وما كاد يفعل حتى رقصت الأرض، وسمع كأن الجبل القريب يندك، وكأن الصواعق تنقض على المنازل فتقوضها، وتنقلب القرية إلى جحيم ملتهب، وكلما أطل فيلمون أو أطلت امرأته من الكوة سرت فيهما رجفة أروع من رجفة الزلزال، فيطمئنهما زيوس

- (الكوخ يا إلهي! أنا رجل فقير!)

- (مال كوخك يا فيلمون!)

- (إذا انهدم عشت في العراء!)

- (لا عليك! فلن تقوض الزلازل إلا قصور العتاة؟)

وأشرقت الشمس، فنهض الإله الأكبر، ونهض الجميع معه. وما كاد فيلمون يفتح باب كوخه الحقير حتى أخذه العجب وارتد على عقبيه مذعوراً:

- (مولاي! لمن هذا القصر المشيد؟)

- (هو لك يا فيلمون، أمرت الآلهة فبنى لك في ساعة السحر جزاء كرمكما. هلما نشهد غرفاته)

وانطلق الجميع يتنقلون في غرفات القصر وردهاته، وكلما مر فيلمون وزوجه بتمثال إله سجدا واخبتا، حتى إذا كانوا في أكبر ردهات القصر، وقف زيوس وقال: (فيلمون! هذا هيكلي! وقد جعلتك كاهني الأكبر، فتمن الآن علي، فسأجيبك إلى كل ما تطلب)

فتبسم فيلمون وقال: (مولاي! الشباب يا مولاي! ليعد الشباب إلي وإلى زوجي بوسيز، ولنعش طويلاً فإذا جاء وعدك فلنمت في يوم واحد في ساعة واحدة!) وسجد يقبل الأرض بين قدمي الإله الأكبر!

فقال زيوس: (انهض يا فيلمون فطلبك مجاب، وستعيشان راغدين!)

وسلم الإلهان وغابا عن الأنظار، وخرج فيلمون وزوجه ليريا إلى القرية، فلم يشهدا شيئاً غير بحيرة تعج أمواجها، وجزيرة كبيرة خضراء في وسطها قصرهما المنيف! فآمنا بزيوس وسبحا له! وعاشا طويلا، وماتا في يوم واحد وساعة واحدة، ونبتت دوحتان عظيمتان من أشجار السرو أمام باب القصر تخلدان ذكراهما في العصور

دريني خشبة